السكتِ؛ لأن هاءَ السكتِ ساكنةٌ على كُلِّ حَالٍ (١)، وإنما هي ضميرٌ راجعٌ إلى المصدرِ.
ومعنَى ﴿اقْتَدِهِي﴾ أي: الاقتداء فيكونُ بمعنَى اقْتَدِ اقْتِدَاءً بهم. هذا تخريجُ قراءةِ ابنِ عَامِرٍ (٢).
ومعنَى ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ اقْتَدِ بِهُدَاهُمْ، وَافْعَلْ كَمَا يَفْعَلُونَ مِنَ الْهُدَى.
وهذه الآيةُ الكريمةُ هي التي أَخَذَ منها جماهيرُ العلماءِ - هي وأمثالُها في القرآنِ - أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شرعٌ لَنَا إِنْ ثَبَتَ في شرعِنا إِلاَّ بدليلٍ يدلُّ على أنه ليسَ شَرْعًا لنا.
وهذه مسألةٌ معروفةٌ في الأصولِ (٣). اعْلَمْ أَوَّلاً: أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا له ثلاثُ حالاتٍ: تارةً يكونً شَرْعًا لنا بِلاَ خِلاَفٍ، وتارةً يكونُ غيرَ شرعٍ لَنَا بِلاَ خِلاَفٍ، وتارةً يكونُ مَحَلَّ خِلاَفٍ، هو الذي فيه كلامُ العلماءِ؛ لأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا واسطةٌ وَطَرَفَانِ: طرفٌ هو شَرْعٌ لَنَا إِجْمَاعًا، وطرفٌ لَيْسَ شَرْعًا لنا إِجْمَاعًا، وواسطةٌ هِيَ مَحَلُّ بحثِ العلماءِ وَخِلاَفُهُمْ.
أما الطرفُ الذي هو شَرْعٌ لَنَا إِجْمَاعًا: وهو ما وَرَدَ في شرعِنا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ جَاءَنَا في شرعِنا أنه مشروعٌ لنا - كقتلِ
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٧٦).
(٢) انظر: حجة القراءات ٢٦٠.
(٣) انظر: إحكام الفصول للباجي ٣٢٧ - ٣٣٢، القرطبي (٧/ ٣٥)، البحر المحيط (٦/ ٤١ - ٤٧)، شرح الكوكب المنير (٤/ ٤١٢)، المذكرة في أصول الفقه ١٦١، الأضواء (٢/ ٦٣).
الرجل بدين وأجل مسمى إلى جمادى مثلاً، فإن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، فالسلعة رجعت ليد صاحبها، فكأنه آل الأمر أنه يأخذ عشرة في شوال، فإذا كان جمادى أخذ عشرين عن العشرة التي أخذ في شوال (١)، فهذا بالنظر إلى ما يؤول إليه عين الربا، وهو عشرة بعشرين مؤجلة، أما بالنظر إلى ذات العقدين فالعقد الأول عقد على سِلْعَة بِأَجَل دَيْن إلى أَجل مسمى، والعقد الثاني عقد أيضاً على سلعة بأجل إلى أجل مسمى، وكان الشافعي (رحمه الله) يجيز مثل هذا ويقول: إن هذا مباح؛ لأن كلا العقدين مباح في ذاته، وكان غيره يحرمه؛ سدّاً للذريعة؛ لئلا يقصد ببيع السلعة وشرائها أن تكون السلعة أداة لأن يأخذ عشرة ويأخذ بعدها عشرين، وكانت عائشة ترى أن هذا حرامًا، وكان زيد بن أرقم (رضي الله عنه) من أصحاب رسول الله - ﷺ - يرى -رأي الشافعي في هذا- أنه حلال، قالت عائشة لامرأته: قولي لزيد: إن لم يرجع عن هذا الربا فإنه يبطل جهاده مع رسول الله (٢)،
وكان الشافعي (رضي الله عنه) يقول: اختلف زيد وعائشة، والقياس يؤيد قول زيد؛ لأن كلا العقدين سلعة بيعت بثمن إلى أجل معين. وغيرهم من العلماء -وهم الأكثر- يقولون: هذا قد يكون ذريعة إلى الربا فيجب سدها؛ لأن بيع السلعة
_________
(١) في المثال المذكور هنا شيء من الاضطراب، وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) هذه المسألة عند تفسير الآية رقم (١٥١) من سورة (الأنعام) ومثَّل لها بقوله: «كما لو باع إنسان سلعة إلى أجل معين بعشرة دراهم مثلاً، ثم اشتراها بثمن أكثر لأبعد من الأول، أو بثمن أقل من الثمن الأول بدون الأجل» اهـ. والعلماء مختلفون في تفسير العينة، والمشهور في معناها: أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها من المشتري قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. انظر: نيل الأوطار (٥/ ٢٠٧)، القاموس الفقهي ص ٢٧٠.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٠٨) من سورة الأنعام..
[الأعراف: آية ٦٦] أي: في خفةِ عقلٍ وطيشِ حِلْمٍ؛ لأنك تَدْعُونَا إلى أن نتركَ ديننا ونذهبَ إلى دينٍ آخَرَ جديدٍ ما نعرفُه، فلا عقلَ عندك ولا حِلْمَ، بل أنتَ سفيهٌ خفيفُ العقلِ طائشُ الحلمِ. هذا قولُهم لَعَنَهُمُ اللهُ.
﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [الأعراف: آية ٦٦] نَظُنُّكَ كاذبًا؛ لأنك بشرٌ مِثْلُنَا، فلا زيادةَ لك علينا ولا فضلَ لَكَ علينا؛ لأنا من عنصرٍ واحدٍ آدميونَ جميعًا نشربُ ونأكلُ جميعًا، فما نظنُّك إلا كاذبًا، وأنك سفيهٌ خفيفُ العقلِ طائشُه. فقابلهم هودٌ بهذا الردِّ الكريمِ اللطيفِ، وَالتَّأَنِّي الكريمِ، والتؤدةِ العظيمةِ، وقال: ﴿يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ﴾ [الأعراف: آية ٦٧] ليس بِي شيءٌ من طيشِ العقلِ ولا من خِفَّتِهِ، وإنما أنا راجحُ العقلِ ثابتُه، ثابتُ الْحِلْمِ، لستُ بطائشٍ ولاَ خفيفٍ.
﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٦٧] رسولٌ مُرْسَلٌ إليكم من رَبِّ العالمين. قد بَيَّنَّا فيما مضى (١) أن الرسولَ (فَعُول) بمعنَى (مُفْعَل) أي: مُرسَل من رَبِّ العالمين أرسلني إليكم. وأن أصلَ الرسولِ: مصدر سُمِّيَ به، وإتيانُ المصدرِ على وزن (فعول) قليلٌ جِدًّا في العربيةِ، مسموعٌ في أوزانٍ قليلةٍ، كالقَبُولِ، والوَلُوعِ، والرسُولِ. وأصلُ الرسولِ مصدرٌ بمعنَى الرسالةِ، وهو مشهورٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (٢):

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمُ بِقَوْلٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
ثم قال: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [الأنفال: الآية ٣] إقامة الصلاة: وهو الإتيان بها على الوجه الأكمل المطلوب، كالمحافظة على شروطها، وأوقاتها، وصلاتها في الجماعات، وإعطائها حقها في السجود والركوع ونحو ذلك من الأركان.
وقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ قال بعض العلماء: يعني الزكاة؛ لأنها رديفة للصلاة في القرآن، والأظهر أنه أعم من الزكاة، أنهم ينفقون مما رزقهم الله النفقة الواجبة وغيرها من النفقات المستحبات المرغب فيها من مواساة الفقراء، وصِلاَت الأرحام، ونحو ذلك (١)، وهذا معنى قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: الآية ٤] أولئك الذين هذه صفاتهم هم المؤمنون حقًّا، قال بعض العلماء: قوله: ﴿حَقًّا﴾ نعت لمصدر محذوف، أي: المؤمنون إيمانًا حقًّا، والتحقيق المعروف عند علماء العربية: أن (حقًّا) هنا من نوع المصدر المُؤَكِّد لعامله، وهو الجملة قبله؛ لأن قوله: ﴿حَقًّا﴾ مُؤكِّد للإسناد الخبريّ في قوله: ﴿هُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أُحِقُّ ذلك حقًّا، وأُؤكِّد ذلك الإيمان توكيدًا (٢).
﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ الدرجات: جمع درجة. قال بعض العلماء (٣): هي درجات الجنات يوم القيامة؛ لأن الناس لهم درجات
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٣٨٨).
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٥٥٨ - ٥٥٩).
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٣٨٩).
الياءِ وفتحِ الضادِ مَبْنِيًّا للمفعولِ (١).
أما قراءةُ ﴿يَضَلُّ به الذين كفروا﴾ و ﴿يُضِلُّ به الذين كفروا﴾ فليستَا سَبْعِيَّتَيْنِ (٢).
وقرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: ﴿زُين لهم سُوءُ وَعْمالهم﴾ بإبدالِ الهمزةِ الثانيةِ واوًا. وقرأه غيرُهم من السبعةِ: ﴿سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ بتحقيقِ الهمزةِ الثانيةِ (٣). هذه هي القراءاتُ السبعيةُ في الآيةِ.
وسببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ هو ما أَشَرْنَا إليه أن الكفارَ كانوا يتلاعبونَ في الأشهرِ الْحُرُمِ (٤)، وبعضُهم يقولُ: في أشهرِ الحجِّ، فَيُحَرِّمُونَ منها ما لم يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، ويحلونَ ما لم يُحَلِّلْهُ اللَّهُ (٥). فَبَيَّنَ (جلَّ وعلا) في هذه الآيةِ أن ذلك كفرٌ على كفرٍ، أنه كفرٌ ازْدَادُوا به كُفْرًا على كفرهم الأولِ.
والعلماءُ مختلفونَ في أولِ مَنْ سَنَّ هذه السنةَ السيئةَ الخبيثةَ، وهي سنةُ النسيءِ. فكان بعضُ العلماءِ يقولُ: أولُ مَنْ أَحْدَثَهُ الملعونُ عمرُو بنُ لحيِّ بنِ قمعةَ بنِ إلياسَ بنِ مضرَ، وهو الخبيثُ الذي هو أولُ مَنْ جاء بالأصنامِ إلى جزيرةِ العربِ، وهو أولُ مَنْ بَحَّرَ البحائرَ فيها، وَسَيَّبَ السوائبَ، وَغَيَّرَ معالمَ دينِ إبراهيمَ التي كانت في جزيرةِ
_________
(١) انظر: السبعة ص٣١٤.
(٢) انظر: المحتسب (١/ ٢٨٨ - ٢٨٩).
(٣) انظر: الإتحاف (٢/ ٩١).
(٤) كما أخرج ذلك ابن جرير (١٤/ ٢٤٥) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٥) أخرج ذلك ابن جرير (١٤/ ٢٤٨) عن مجاهد.


الصفحة التالية
Icon