النفسِ بالنفسِ قِصَاصًا، فإن قتلَ النفسِ بالنفسِ قِصَاصًا كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، كما نَصَّ اللَّهُ عليه بقولِه: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: آية ٤٥]،. ثُمَّ إن اللَّهَ بَيَّنَ في كتابِنا أنه شرعٌ لنا، حيثُ قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: آية ١٧٨]، وقال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: آية ١٧٩]، وقال: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: آية ٣٣]، - فمثلُ هذا الطرفِ هو شرعٌ لنا بِإِجْمَاعٍ.
الطرفُ الثاني: يكونُ شرعُ مَنْ قَبْلَنَا ليسَ بشرعٍ لنا إجماعًا، وهذا الطرفُ له صُورَتَانِ:
إحدَاهُمَا: ألا يُثْبَتَ بشرعِنا أَصْلاً، بِأَنْ لاَ يوجدَ دليلٌ من كتابٍ ولا سُنَّةٍ على أنه كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، وإنما تُلِقِّيَ عن الإسرائيلياتِ. فهذا لا يكونُ شَرْعًا لنا بالإجماعِ، لأَنَّ النبيَّ - ﷺ - نَهَانَا عَنْ تصديقِ الإسرائيلياتِ وتكذيبِها (١)
ما لَمْ يَقُمْ دليلٌ على صِدْقِهَا أو كَذِبِهَا. وما
_________
(١) ورد هذا النهي في عدة أحاديث منها:
١ - حديث أبي هربرة (رضي الله عنه) بلفظ:» لا تصدقوا أهل الكتب ولا تكذبوهم... » الحديث وقد أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب التفسير، باب: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ حديث رقم: (٤٤٨٥)، (٨/ ١٧٠) وأطرافه (٧٣٦٢، ٧٥٤٢).
٢ - حديث أبي نملة الأنصاري (رضي الله عنه) بلفظ: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم... » الحديث. وقد أخرجه عبد الرزاق (٦/ ١١١)، (١٠/ ٣١٤)، (١١/ ١٠٩ - ١١٠)، وأحمد (٤/ ١٣٦)، وأبو داود في السنن، كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب. حديث رقم: (٣٦٢٧)، (١٠/ ٧٦)، والدولابي في الكنى (١/ ٥٨)، وابن حبان (الإحسان ٨/ ٥١ - ٥٢)، والطبراني (٢٢/ ٣٤٩ - ٣٥١)، والبيهقي في السنن (٢/ ١٠)، وفي الشعب (٩/ ٤٢٠ - ٤٢١)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (٢/ ٨٠١ - ٨٠٢)، والخطيب في الجامع (٢/ ١١٥)، والبغوي في شرح السنة (١/ ٢٦٨) والآحاد والمثاني (٤/ ١٤٠)، وفي التفسير (٣/ ٤٧٠)، وابن الأثير في أُسد الغابة (٦/ ٣١٥)، والمزي في تهذيب الكمال (٣٤/ ٣٥٤). وهو في ضعيف الجامع (٥٠٥٤).
٣ - عن عطاء بن يسار مرسلاً. أخرجه عبد الرزاق (٦/ ١١١)، (١٠/ ٣١٢)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (٢/ ٨٠٣).
بعشرة إلى شوال، ثم شراءها بعشرين إلى جمادى، فترجع السلعة إلى موضعها، فكأنها لم تخرج، فيؤول الحال إلى أن يستلم عشرة في شوال، ثم يأخذ عوضاً عنها عشرين في جمادى، فهذا ذريعة إلى الربا يجب أن تسد، فهذه هي الواسطة المُختَلَف فيها، فالشافعي وأصحابه وزيد بن أرقم من الصحابة يرون جواز مثل هذا، وأن هذه ذريعة لا يجب سدها، ومالك وأحمد وعائشة وطوائف من العلماء يرون وُجُوب سد هذه الذريعة، فهذا هو الكلام باختصار على أنواع الذرائع، وما يجب سده منها بالإجماع، وما لا يجب بالإجماع، وما اختُلف فيه.
ومن الأدلة على سد الذريعة في الجملة: هذه الآية الكريمة؛ لأن الله لما قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ﴾ ولم يقل: لا تفعلوا الفواحش. علمنا أنه أراد سد الطريق إليها بعدم القرب منها؛ لأن القرب من الشيء ذريعة إلى الوقوع فيه، [٢٢/أ] /والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والخطاب لعامة الناس.
والفواحش: جمع فاحشة، وقد تقرر في علم النحو أن (الفَاعِلَة) تُجمع جمع كثرة -جمع تكسير- على (فَوَاعِل) بقياس مطرد (١)، والواو في (الفواحش) مُبْدَلَة من الألف التي في مفرد الفاحشة (٢). فـ (الفَاعِلَة) تُجمع على (فَوَاعِل) بقياس مطرد.
ومعنى الفاحشة: أصل الفُحْش في لغة العرب: هو كل شيء
_________
(١) انظر: الأشموني (٢/ ٤٤٩).
(٢) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص (٢١٢).
يعنِي: ما أرسلتُهم برسالةٍ. وقول الآخَرِ (١):

أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولاً بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
[١١/ب] أي: (بني عمرو رسولاً) أي: رسالة. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ/ ومن فوائدِ كونِ الرسولِ أصلُه مصدرٌ تُحل إشكالاتٍ في القرآنِ؛ لأن العربَ إذا نَعَتَتْ بالمصدرِ أَلْزَمَتْهُ الإفرادَ والتذكيرَ (٢)، وربما تَنَاسَتِ المصدريةَ فيه وعملت بالوصفيةِ العارضةِ فَجَمَعَتْهُ وَثَنَّتْهُ؛ ولذا جاء الرسولُ مُفْرَدًا في القرآنِ والمرادُ به اثنانِ، وجاء مُفْرَدًا في كلامِ العربِ والمرادُ به جمعٌ نَظَرًا إلى أن أصلَه مصدرٌ.
فإذا قال لك قائلٌ: اللهُ يقولُ عن موسى وهارونَ في سورةِ طه: ﴿إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ [طه: آية ٤٧] بالتثنيةِ، ويقولُ في القصةِ بِعَيْنِهَا في سورةِ الشعراءِ: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: آية ١٦] بالإفرادِ، ولم يقل: «رسولا رب العالمين».
فالجوابُ: إن الإفرادَ نَظَرًا إلى أصلِ الرسولِ، وأن أصلَه مصدرٌ، والعربُ إذا نَعَتَتْ بمصدرٍ أَلْزَمَتْهُ التذكيرَ، وأن التثنيةَ في قولِه: ﴿رَسُولاَ﴾ والجمعُ في قولِه: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ [البقرة: آية ٢٥٣] نظرًا إلى الوصفيةِ العارضةِ؛ لأن العربَ نَقَلَتْهُ من المصدريةِ فَجَعَلَتْهُ وصفًا؛ ولأجلِ كونِ أصلِه مصدرًا تُطْلِقُهُ العربُ مفردًا وتريدُ به الجمعَ على عادةِ النعتِ بالمصادرِ، ومنه قولُ أَبِي ذؤيبٍ الْهُذَلِيِّ (٣):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٨) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
يوم القيامة في الجنة بحسب أعمالهم ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾ [الأحقاف: الآية ١٩] وقد يكون بعض الناس يتراءى أصحاب الغُرف كالكوكب الدُّري ينظره أهل الأرض لمباعدة ما بينهم، ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: الآية ٢١].
وقال بعض العلماء: الدرجات: المقامات، والأول أظْهَرُ، ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ﴾ (مَفْعِلَة) من غفران الذنوب. وأصله ستر الذنوب وتغطيتها بحلم الله حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها (١).
﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ هو رزق الجنة؛ من مآكلها ومشاربها، كما جاء مبينًا في مواضع من كتاب الله، وهذا معنى قوله لهم: ﴿وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾.
﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (٦)﴾ [الأنفال: الآيتان ٥، ٦].
الكاف في قوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ اختلفت فيها عبارات المفسرين إلى خمسة عشر قولاً (٢)، كثير منها لا يظهر، بل يظهر سقوطه لعدم الدليل عليه، وعدم تمشّيه مع لغة العرب، فهي من الآيات التي كثر فيها غلط المفسرين حتى اختلفوا فيها إلى خمسة عشر طريقًا معروفة في كتب التفسير، والآية في الجملة دلت على تشبيه شيء بشيء بناء على الصحيح من أن الكاف للتشبيه.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٥) من سورة الأعراف.
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٣٩١)، القرطبي (٧/ ٣٦٧)، الدر المصون (٥/ ٥٥٩).
العربِ عليه لعائنُ اللَّهِ (١).
وأكثرُ المؤرخينَ يقولونَ: إن أولَ مَنْ سَنَّ هذه السنةَ القبيحةَ قومٌ من بطنٍ من بَنِي كنانةَ يُسَمَّى بني فقيمٍ، وهم من أولادِ مالكِ بنِ كنانةَ، يزعمُ العربُ أنهم كانوا مُتَمَسِّكِينَ بدينِ إبراهيمَ، وكانوا يُشَرِّعُونَ لهم ما شاؤوا، ويتبعونَهم فيما شاؤوا، يقال: إن أولَ مَنْ فَعَلَ ذلك منهم رجلٌ يُسَمَّى نعيمَ بنَ ثعلبةَ (٢).
والذي قاله غيرُ واحدٍ من المؤرخينَ وأوضحَه ابنُ إسحاقَ في سيرتِه أن أولَ مَنْ فَعَلَ هذا منهم رجلٌ يُسَمَّى القَلَمَّسَ. والدليلُ على ذلك موجودٌ في أشعارِهم. واسمُ القَلَمَّسِ هذا حذيفةُ بنُ عبيدِ بنِ فقيمٍ، وبنو فقيمٍ بطنٌ من بني مالكِ بنِ كنانةَ. كان هذا الرجلُ الذي هو حذيفةُ المعروفُ بالقلمَّسِ يقولُ لهم: سأؤخرُ عنكم تحريمَ المحرَّم وأنسؤه إلى صَفَرٍ، فاذهبوا فَقَاتِلُوا في المحرَّم فإني حَوَّلْتُ حرمتَه إلى صفر. فَهُمْ يتبعونَه، ثم لَمَّا مَاتَ القَلَمَّسُ قام بهذا الأمرِ بعدَه ابنُه العبادُ بنُ القَلَمَّسِ، فكان يُحِلُّ لهم هذا التحليلَ وهذا التحريمَ، ثم لَمَّا مَاتَ العبادُ قام به بعدَه ابنُه قَلَعُ بنُ عبادٍ، ثم لَمَّا مَاتَ قام به بعدَه ابنُه أميةُ بنُ قَلَعِ بنِ عبادٍ، ثم لَمَّا مات قام به بعدَه ابنُه عوفُ بنُ أميةَ، ثم لَمَّا مات قام به بعدَه ابنُه جنادةُ بنُ عوفٍ المعروفُ بأبي ثمامةَ، كنيتُه ككنيةِ مسيلمةَ الكذابِ، وهو الذي قام عليه الإسلامُ وهو بهذه السُّنةِ السيئةِ الخبيثةِ. كانوا إذا انتهت أيامُ حَجِّهِمُ وَانْقَضَتْ أيامُ مِنَى ذهبوا إلى هذا الرجلِ الذي هو أبو ثمامةَ جنادةُ بنُ عوفِ بنِ أميةَ الكنانيُّ فيقولُ: أنا الذي لاَ يُعَابُ ولا يُجَابُ،
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ١٣٨).
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon