نُهِينَا عَنْ تَصْدِيقِهِ لا يُمْكِنُ أن يكونَ شَرْعًا لنا.
الثاني من هذا الطَّرَفِ: هو ما ثَبَتَ في شَرْعِنَا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، إلا أنه نُصَّ لنا في شَرْعِنَا أنه غيرُ مشروعٍ لنا. ومثالُ هذا كالآصَارِ والأغلالِ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا، فإن اللَّهَ بَيَّنَ لنا في كتابِنا أنه رَفَعَهَا عَنَّا، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: آية ١٥٧] ومن هذه الآصارِ: ما جَاءَ في سورةِ البقرةِ من أَنَّ عَبَدَةَ العجلِ لَمَّا أَرَادُوا أن يَتُوبُوا إلى اللَّهِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ حَتَّى قَدَّمُوا أنفسَهم للقتلِ، كما تَقَدَّمَ في قولِه: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: آية ٥٤]،
لأَنَّ اللَّهَ وَضَعَهَا عَنَّا بِنَصِّ قولِه: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: آية ١٥٧]، وَالإِصْرُ فِي اللغةِ: الأثقالُ. والمرادُ به: الأثقالُ الشَّاقَّةُ فِي التكاليفِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ ابنِ عباسٍ وَأَبِي هريرةَ أن النبيَّ - ﷺ - لَمَّا قَرَأَ: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [البقرة: آية ٢٨٦]. أَنَّ اللَّهَ قال: «نَعَمْ». في روايةِ
بلغ نهايته تسميه فاحشة (١).
والفاحشة في اصطلاح الشرع: الخصْلَة المُتَنَاهِيَة في القُبْحِ (٢)، فكل خصلة تناهت وبلغت غايتها في القبح [تُسميها] (٣) العرب فاحشة، ومن قال: إن أكثر إطلاقها في القرآن على الزنا ودلالة اللسان (٤)، فهو خلاف التحقيق؛ لأن الفاحشة تطلق على كل خصْلَةٍ رديئة بالغة في القُبح والفحش، هذه هي الفاحشة، وكل بالغ غايته في الشيء فهو فاحش، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته (٥):

أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفِي عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَدِّدِ
يعني بقوله: (الفاحش) البالغ غاية الحرص على ماله، و (الفواحش) هنا: هي السيئات العظام المتناهية في القبح، نهى الله خلقه عن أن يقربوا من كل خصلة سوء قبيحة يحرمها الشرع ويحذر الله منها، ثُمَّ عَمَّمَ هذا تعميماً عظيماً فقال: ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام: آية ١٥١] فقوله: ﴿مَا﴾ بدل من (الفواحش) و ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ عطف عليه، والمعنى: احذروا كل الحذر، وتجنبوا كل التجنب جميع الفواحش، سواء في ذلك ما هو ظاهر
_________
(١) انظر: المصباح المنير (مادة: فحش) ص (١٧٦)، المفردات (مادة: فحش) (٦٢٦).
(٢) انظر: الكليات ص (٦٧٥).
(٣) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٤) انظر: الكليات ص (٦٧٤).
(٥) شرح القصائد المشهورات (١/ ٨٣).
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ
فقولُه: «أعلمهم» رَدَّ الجمعَ على الرسولِ مُفْرَدًا نظرًا إلى أن أصلَه مصدرٌ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي﴾ هي كالقراءاتِ التي قَدَّمْنَا في كلامِ نوحٍ (١)، قَرَأَهَا أبو عمرٍو: ﴿أُبلِغْكم رسالات ربي﴾ والباقونَ: ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ وتفسيرُها كتفسيرِ الذي قَبْلَهَا بلا زيادةٍ.
﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ وأنا لكم ناصحٌ فيما أقولُ، لاَ أغشكم ولا أخدعُكم، أمينٌ فيه لا أكذبُ، وأنتم تعلمونَ أني فيما مَضَى في غايةِ النصحِ والأمانةِ؛ لأني رجلٌ منكم قد جَرَّبْتُمُونِي قبلَ الرسالةِ فما جربتم فِيَّ إلا النصحَ والأمانةَ، فأنا لكم ناصحٌ. وكُلُّ خالصٍ لا شائبةَ فيه يُسَمِّيهِ العربُ (ناصحًا) والناصحُ: هو السالمُ من جميعِ الغشِّ والخديعةِ. والأمينُ: هو الذي لا خيانةَ معه. أنا لكم ناصحٌ فيما جئتُكم به، لا غشَّ معي ولا خديعةَ، أمينٌ فيما أقولُ لكم، في غايةِ الصدقِ، ليس فيه كَذِبٌ، هذه حقيقتِي، أما السفاهةُ التي رَمَيْتُمُونِي بها فليست بي سفاهةٌ. ولم يقل لهم: «بل أنتم السفهاء» لكرامةِ رَدِّ الرسلِ، ومعاملتِهم للجهلةِ الْحَمْقَى بالتي هي أحسنُ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي﴾ الرسالاتُ جمعُ رسالةٍ، وهي اسمٌ لِمَا يُرسِلُ به المرسِلُ رسولاً إلى غيرِه. ورسالاتُ اللهِ هي ما بَعَثَهُ به إليهم من الإيمانِ باللهِ وطاعتِه وامتثالِ أمره واجتنابِ نواهيه.
_________
(١) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (٦٢) من سورة الأعراف.
وأظهر الأقوال وأقربها: أن الله شبه فيها قصة بقصة؛ لأنه وقع في أول غزوة بدر قصتان:
إحداهما: أن الله تبارك وتعالى لما هَزَمَ المُشْرِكِينَ ونَفَّلَ المُسْلِمِينَ غَنَائِمَهُمْ، وحصلت عند المسلمين غنائم اختلفوا فيها، فجعل الله الأمر فيها إلى رسوله فقسمها رسوله ﷺ وبعضهم في نفسه غير راغب في تلك القسمة؛ لأنه كان يرى أنه أولى من غيره، فقد قضى الله عليهم شيئًا ليس هو رغبتهم لكنه هو المصلحة لهم في دينهم ودنياهم، هذه المسألة المشبّهة.
والمسألة المشبه بها: أن الله أخرج نبيه من بيته في المدينة -هنا (١) - أخرجه إلى غزوة بدر الكبرى، فقد كان ﷺ خرج لحكمة الله (جل وعلا)، خرج وكأنه يقصد عير أبي سفيان ليأخذ المال ليس دونه قتال، فلما خرج ﷺ يريد أخذ مال لا قتال دونه في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه، وشاء الله أن أبا سفيان سَاحَلَ بِعِيْرِه إلى جهة ساحل البحر، وأرسل إلى قريش ضمضم بن عمرو الغفَاري ليبادروا عِيرهم، قال: لا يأخذها محمد ﷺ كما فعل بعِير ابن الحضرمي بنخلة، وجاء النفير، وأُخبر النبي ﷺ أن نفير قريش جاءهم جيش عرمرم في عَدده وعُدده، والله (تبارك وتعالى) أراد أن يُخرجهم إلى عِير ليسهل عليهم الخروج ويجعلهم ليسوا مستعدين للقتال ليُجَرِّئ عليهم نفير قريش.
ليقضي الله أمره -كما سيأتي تفاصيله- وسنذكر في هذه السورة الكريمة -إن شاء الله- حاصل غزوة بدر وما فيها من المهمات؛ لأنها مذكورة في هذه السورة
_________
(١) معلوم أن الشيخ (رحمه الله) كان يلقي هذه الدروس في المسجد النبوي.
ولا مَرَدَّ لِمَا أقولُ، أَخَّرْتُ عنكم تحريمَ المحرمِ إلى صفر (١). فيتبعونَه، فجاء الإسلامُ بتغييرِ هذا وَرَدِّ كُلِّ شيءٍ إلى مَحَلِّهِ.
وقد ذَكَرْنَا أن العلماءَ اختلفوا في الأشهرِ الحرمِ هل حرمتُها باقيةٌ إلى الآن؟ ويكونُ مَنْ نَسَأَ النسيءَ الآنَ ازدادَ كفرًا وَفَعَلَ كفرًا. أو هي منسوخةٌ ولا تحريمَ في الأشهرِ الحرمِ، وأن قتالَ العدوِّ يجوزُ في جميعِ الأشهرِ (٢)؟ وَذَكَرْنَا أن المشهورَ عند العلماءِ الذي عليه الأكثرُ أنه قد نُسِخَ تحريمُ الأشهرِ الحرمِ، واستدلوا على ذلك بظواهرِ آياتٍ ليست صريحةً في ذلك، وَمِنْ أصرحِ ما استدلوا به هو ما ذَكَرْنَا من أنه ثَبَتَ في الصحيحينِ أن النبيَّ ﷺ حاصرَ ثَقِيفًا في غزوةِ الطائفِ بَعْضًا من ذِي القعدة (٣). وهذا ثابتٌ في الصحيحينِ ثُبُوتًا لاَ مَطْعَنَ فيه. قالوا: لم تنسخ لما حَاصَرَ النبيُّ ﷺ ثقيفًا في ذي القعدةِ وهو شهرٌ حَرَامٌ. وقد ذَكَرْنَا أن الذي كان يظهرُ لنا وننصرُه أن تحريمَ الأشهرِ الحرمِ قد نُسِخَ، وأن الذي تَحَقَّقْنَاهُ بعدَ ذلك وَصِرْنَا نجزمُ به أنها باقيةُ التحريمِ إلى الآن، ولم يُنْسَخْ تحريمُها، كما كان يُقْسِمُ عليه عطاءُ بنُ أبي رباحٍ (رحمه الله)، كان يحلفُ أن حرمتَها باقيةٌ (٤). وَمِنْ أَصْرَحِ الأدلةِ في ذلك هو الحديثُ الذي أَشَرْنَا إليه؛ لأن النبيَّ ﷺ خَطَبَ به يومَ النحرِ في حجةِ
_________
(١) أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (١٤/ ٢٤٥). وذكره ابن هشام في السيرة ص٥٦.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥) من سورة التوبة.
(٣) السابق.
(٤) أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص ٢٠٧، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (١/ ٥٣٥)، وابن جرير (٤/ ٣١٤).


الصفحة التالية
Icon