أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: الآيتان ٣٠، ٣١] فقولُه: ﴿مُنِيبِينَ﴾ حالٌ من ضميرِ الفاعلِ، الْمُخَاطَبُ به النبيُّ - ﷺ - فِي قولِه: ﴿فَأَقِمْ﴾ أنتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ﴿وَجْهَكَ﴾ في حالِ كَوْنِكُمْ ﴿مُنِيبِينَ﴾ فلو لَمْ تَدْخُلِ الأمةُ تحتَ الخطابِ بقولِه: ﴿فَأَقِمْ﴾ لَقَالَ: مُنِيبًا إليه وَاتَّقِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ﴾ وقد أجمعَ أهلُ اللسانِ العربيِّ على أن الحالَ الحقيقيةَ - أعني الحالَ التي لَمْ تَكُنْ سَبَبِيَّةً (١) - تَجِبُ مطابقتُها لصاحبِها في الإفرادِ والجمعِ والتثنيةِ والتأنيثِ والتذكيرِ فلا يقولُ: «جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكِينَ». ولا يجوزُ أن تقولَ: «ادْخُلِ الدارَ قَائِمِينَ». كُلُّ هذا لا يجوزُ (٢). فَلَمَّا قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ في حالِ كَوْنِكُمْ ﴿مُنِيبِينَ﴾ عَرَفْنَا شمولَ الصيغةِ الخاصةِ به لجميعِ الأُمَّةِ. ومن هنا نعرفُ أن قولَه: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: آية ٩٠]، أنه خطابٌ للنبيِّ - ﷺ -، وأن الخطابَ الخاصَّ به يشملُ حُكْمُهُ أُمَّتَهُ، كما دَلَّ عليه استقراءُ القرآنِ.
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٦٦) وقد جرت العادة على ذكر هذا التقسيم عند الكلام على النعت، فيقولون: هو حقيقي وسببي. فالحقيقي: هو الذي يدل على صفة في المتبوع نفسه. ومن علامته أن يرفع الضمير المستتر. مثل: جاءني زيد العالم.
والسببي: هو الذي يدل على صفة في اسم ظاهر بعده متعلق بالمنعوت. وعلامته أن يرفع الاسم الظاهر المشتمل على ضمير يعود على المنعوت. مثل: جاءني زيد العالم أبوه.
وعلى ضوء ما سبق تعرف الفرق بين نوعي الحال هنا، والله أعلم.
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ١٤٤ - ١٤٥)، توضيح النحو (٤/ ٨).
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (٩٣)} [النساء: آية ٩٣].
النكتة الثانية: أن القتل منه ما هو بحق، فلا بد أن يُستثنى بقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: آية ١٥١] والاستثناء الذي هو ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ لا يمكن حتى يُخرج القتل من عموم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ﴾ أي: التي حرم الله قتلها بأن جعلها معصومة، والنفس المعصومة: هي المعصومة بـ (لا إله إلا الله) من أنفس المسلمين. والمعصومة بأداء الجزية كالذميّين الذين يُؤَدُّون الجزية عن يد وهم صاغرون، فَعِصْمَة دمائهم وأموالهم كالمسلمين، وكذلك المعاهدون الذين يعطيهم الإمام أو غيره من المسلمين عهداً؛ لأن المسلمين يقوم أدناهم -يعني- بعهدهم، فلو أعطى الإمام عهداً لمعاهد يدخل (... ) (١) فهو إذاً من النفس المحرمة. وجاء في قتله أحاديث مشددة أن صاحبه لا يشم ريح الجنة.
فالنفس التي حرم الله: إما بالإسلام، وإما بالذمة، وإما بالمُعَاهَدَة.
فقوله: ﴿إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ أي: لا تَقْتُلوهَا إلا بالطريق الحَقِّ الموجبة لقتلها (٢) شرعاً عند الله، وهذه الطريق حصرها النبي - ﷺ - في حديث ابن مسعود المتَّفَقِ عليه في ثلاث حيث قال: «لَا يَحِلُّ دَمِ
_________
(١) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والمعنى مستقيم بدونها.
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢٢٠)، القرطبي (٧/ ١٣٣).
وجل) - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - كما يأتي قولُ مَنْ قال بذلك في قولِه: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت: آية ١٥] مَنْ هو الذي يكونُ أشدَّ منا قوةً حتى يقهرنا؟ ثم إن اللَّهَ بَيَّنَ أن اللَّهَ الذي خلقهم هو أشدُّ منهم قوةً. وَلَمَّا أرسلَ عليهم الريحَ العقيمَ علموا أنهم ضعافٌ غايةَ الضعفِ إذا جاءتهم قوةُ رَبِّ العالمين التي يهلكهم بها ويسلطها عليهم، وهذا معنَى قولِه: ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾.
﴿فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ﴾ ذكَّرهم نبيُّ اللهِ هودٌ عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ، أمرهم أن يذكروا آلاءَ اللهِ. وآلاَءُ اللهِ: نِعَمُهُ المتواترةُ عليهم، من الصحةِ والعافيةِ وقوةِ الأبدانِ، وما يَسَّرَ لهم من الأرزاقِ والرفاهيةِ في الدنيا. والآلاءُ: النِّعَمُ، واحدُه (إِلى) بكسرِ الهمزةِ وفتحِ اللامِ مقصورًا، كَعِنَبٍ وَأَعْنَابٍ. ويقال فيه: (إِلْيٌ) و (ألْوٌ) و (ألآء) وأكثرُها في مفردِ الآلاءِ: (إِلىَ) بكسرٍ فَفَتْحٍ (١)، والمرادُ به النعمةُ. والآلاءُ: النِّعَمُ ﴿فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ﴾ أي: تَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ الكثيرةَ التي لا تُحْصَى، التي أَنْعَمَهَا عليكم ذِكْرًا يحملكم على طاعةِ اللهِ، وتصديقِ رسولِه، وعبادتِه وحدَه، وتركِ عبادةِ الأصنامِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ والآيةُ تدلُّ على أن مَنْ تَذَكَّرَ نِعَمَ اللهِ عليه ذِكْرًا يحملُه على شكر تلك النعمةِ والخضوعِ لله والإنابةِ إليه بطاعتِه أنه يُفْلِحُ؛ ولذا رَتَّبَ على قولِه: ﴿فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ﴾ قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فإنكم إن ذَكَرْتُمْ آلاءَ اللهِ يُرْجَى لكم الفلاحُ، بناءً على أن (لعل) على بابِها من التَّرَجِّي بحسبِ ما يظهرُ لهودٍ (عليه الصلاةُ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٥٠٦)، القرطبي (٧/ ٢٣٧)، الدر المصون (٥/ ٣٦٠)، تفسير المشكل من غريب القرآن ص٨٥.
وهذا معنى قوله: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ﴾ من شدة كراهتهم لقتال العدو ﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ لأن من يساق إلى الموت وهو يرى وينظر هذا أعظم شيء عليه، وهذا في بعضهم لا في كلهم، كما قد أشرنا إليه سابقًا من أن النبيّ ﷺ لما سمع بأنهم استنفروا النفير وأنه آتيهم، قال بعض العلماء: كان الذي أرسله له سرًّا بذلك عمه العباس بن عبد المطلب -والله تعالى أعلم- فلما أخبر قومه به جادل قوم في الحق، وقالوا: ما خرجنا للقتال، وإنما خرجنا للعير، فدعنا نرجع فنستعد للقتال، وتكلم أبو بكر وعمر فأحسنا، وتكلم المقداد بن عمرو -وهو المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو (رضي الله عنه) - وقال كلامه المشهور: والله لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا من دونه معك، لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: الآية ٢٤] إلى آخر كلامه (١). وأنه لما أعاد الكلام مرارًا، قال له سعد بن معاذ: كأنك تريدنا معشر الأنصار؟ قال: نعم، وقال له كلامه العظيم الذي يقول في جملته: لقد بايعناك على الحق، وعلمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لقوم صُبُرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء (٢).
[وهذا يدل على أن الصحابة تباينت مواقفهم فما] (٣) كرهوا كلهم هذا الخروج بل بعضهم رغب فيه وحبَّذه وصرح بالإعانة عليه،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
التحاكمَ إلى غيرِ اللَّهِ، وذلك في قولِه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (٦٠)﴾ [النساء: آية ٦٠] فَعَجَّبَهُ من دعواهم الإيمانَ وهم يريدونَ التحاكمَ إلى غيرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وهذا لا يَخْفَى، وَأَقْسَمَ اللَّهُ (جل وعلا) في آيةٍ من كتابِه أنه لا يؤمنُ أحدٌ حتى يكونَ مُتَّبِعًا في قرارةِ نفسِه لِمَا جاءَ به
سيدُ الرسلِ محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) وذلك بقولِه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء: آية ٦٥] هذا قسمٌ من اللَّهِ أَقْسَمَ به ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ فما ظَنُّكُمْ بالذين يُحَكِّمُونَ فيما شَجَرَ بينَهم قانونَ نابليونَ وما جرى بعدَه من زبالاتِ أذهانِ الكفَرَةِ؟ أَلاَ تَرَوْنَ أن اللَّهَ أَقْسَمَ في هذه الآيةِ من سورةِ النساءِ أنهم لا يؤمنونَ؟ وَمَنْ أصدقُ من اللَّه قِيلاً؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حديثًا؟ فعلى كُلِّ مسلمٍ أن يعلمَ أن الحاكمَ هو اللَّهُ، وأن الحكمَ لله وحدَه، وأنه لا يُحلُّ إلا اللَّهُ، ولا يُحَرِّمُ إلا اللَّهُ، فلا حلالَ إلا ما أحلَّه اللَّهُ، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ولا دينَ إلا ما شَرَعَهُ اللَّهُ.
فما عَمَّتْ به البلوى من انصرافِ جُلِّ مَنْ في المعمورةِ عن نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ على سيدِ خلقِه وأعظمِ رُسُلِهِ، موضحًا له في أعظمِ كتابٍ أَنْزَلَهُ من سمائه إلى أرضه، منصرفينَ عن هذا مع وضوحِ أدلتِه وقيامِ براهينِه وصيانتِه لمقوماتِ الناسِ؛ لأن القرآنَ العظيمَ والسنَّةَ النبويةَ المبينةَ له جاء فيهما غايةُ الحفاظِ على جميعِ مقوماتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا والآخرةِ، ولا سِيَّمَا الجواهر الستة التي يدورُ عليها نظامُ العالَم في الدنيا ونظامُ العدالةِ


الصفحة التالية
Icon