وهنا مسألةٌ تَخْطُرُ في ذهنِ طالبِ العلمِ، يقولُ: اللَّهُ أَمَرَ النَّبِيَّ - ﷺ - في هذه الآيةِ من سورةِ الأنعامِ أن يقتديَ بهؤلاءِ الرسلِ الكرامِ، وهو سيدُ الرسلِ وخيرُهم وأفضلُهم، فكيف يأمرُ الأفضلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِمَنْ هو [أَقَلُّ] (١) مِنْهُ؟
الجوابُ عن هذا (٢): أن اقتداءَه بهم أَعْلَى لظهورِ فضيلتِه وأوضحُ لذلك؛ لأنه إِنِ اقْتَدَى بهم شَارَكَهُمْ في كُلِّ ما كانوا عليه من الْهُدَى والخيرِ، وَزَادَ عليهم بأمورٍ عظيمةٍ خَصَّهُ اللَّهُ بها لم تَكُنْ لَدَيْهِمْ. وإذا كان مُشَارِكًا لهم بِمَا عندهم، زَائِدًا عليهم بما ليسَ عندهم ظَهَرَ بذلك الفضلُ، كما هو مَعْرُوفٌ.
والحاصلُ أن أكثرَ العلماءِ على أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا شرعٌ لنا، وأن مِنْ أَدِلَّتِهِ: هذه الآيةُ الكريمةُ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال لِنَبِيِّنَا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: آية ٩٠]، وما أَنْزَلَهُ اللَّهُ عليهم كُلُّهُ هُدًى، إلا ما ثَبَتَ نَسْخُهُ، ولم يَزَلِ العلماءُ يَسْتَدِلُّونَ بقصصِ الأممِ الماضيةِ عَمَلاً بهذه الآيةِ وأمثالِها في القرآنِ من جميعِ المذاهبِ وفقهاءِ الأمصارِ؛ وَمِنْ هُنَا كان علماءُ المالكيةِ يقولونَ: إن القرينةَ إذا قَوِيَتْ رُبَّمَا قامت مقامَ البينةِ (٣)؛ ولأَجْلِ هذا لَمَّا سُئِلَ مالكُ بْنُ أَنَسٍ (رحمه الله) عن رجلٍ استُنْكِهَ فَشُمَّ مِنْ فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ!! أَفْتَى بِجَلْدِهِ؛
_________
(١) في الأصل: أفضل.
(٢) انظر: التفسير الكبير (١٣/ ٧٠ - ٧١)، محاسن التأويل (٦/ ٦١٨).
(٣) في العمل بالقرائن انظر: الكافي في فقه أهل المدينة ٤٧٨، أحكام القرآن لابن العربي (٣/ ١٠٧٧، ١٠٨٥)، تفسير القرطبي (٩/ ١٤٩، ١٧٤)، الطرق الحكمية ص٤ فما بعدها. الإثبات بالقرائن ٧٧ وما بعدها، الأضواء (٢/ ٦٩).
امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» (١) يعني: المرتد؛ لأن في الحديث الصحيح: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (٢) هذا الحديث الصحيح حَصَرَ قتل النفس بالحق في ثلاثة أشياء، وزاد العلماء على هذه الثلاثة أشياء أخرى دَلَّتْ عليها نصوص (٣)، منها ما هو مختلف فيه.
زاد بعضهم على هذا: المحاربين، على قول مالك ومن وافقه أن آية المحاربين لم تتنزل على أحوال؛ لأن مالكاً لا يقول ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ﴾ [المائدة: آية ٣٣] أي: إذا قتلوا ﴿أَوْ يُصَلَّبُواْ﴾ إذا قتلوا وأخذوا المال ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ﴾ إذا أخافوا الطريق ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً. التنزيل على هذه الأحوال، يقول مالك وجماعة من فقهاء الأمصار (٤): إن هذا ليس بصحيح، وإن القرآن العظيم لا يجوز أن تُزاد فيه قيود لم يدل عليها كتاب ولا سنة. وهذه القيود التي عليها جماهير من العلماء لم يأتِ بها نص صحيح، وإنما جاء فيها حديث
_________
(١) أخرجه البخاري في الديات، باب قول الله تعالى: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ حديث رقم: (٦٨٧٨)، (١٢/ ٢٠١)، ومسلم في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم، حديث رقم: (١٦٧٦)، (٣/ ١٣٠٢) من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما.
وقد جاء نحوه من حديث عائشة وعثمان (رضي الله عنهما) مع تغاير في الألفاظ، وليس شيء منها في أحد الصحيحين.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: جامع العلوم والحكم (١/ ٣٢٣ - ٣٣٥)، الفتح (١٢/ ٢٠٢ - ٢٠٤).
(٤) انظر: القرطبي (٦/ ١٥٢).
والسلامُ). وعلى أنها حرفُ تعليلٍ فالمعنَى: اذكروا نعمةَ اللهِ لأَجْلِ أن تُفْلِحُوا.
وقد بَيَّنَّا مرارًا (١) أن العربَ تقولُ: أَفْلَحَ الرجلُ يُفْلِحُ فلاحًا. والفلاحُ: اسمُ المصدرِ، والقياسُ في مصدرِها: (إفلاحًا)؛ لأن المقررَ في فَنِّ التصريفِ: أن كُلَّ ماضٍ جاء على وزنِ (أَفْعَلَ) فالقياسُ في مصدرِه أن يكونَ (إفعالاً) ما لم يكن مُعْتَلَّ العينِ، فإن كان معتلَّ العينِ سَقَطَتِ العينُ بالاعتلالِ وَعُوِّضَتْ منها التاءُ على الروايةِ الكثيرةِ الفصيحةِ، كما هو معروفٌ في علمِ العربيةِ، مُوَضَّحٌ في فَنِّ التصريفِ. فالفلاحُ اسمُ مَصْدَرٍ.
والفلاحُ في لغةِ العربِ: يُطْلَقُ على مَعْنَيَيْنِ كما بَيَّنَّاهُ مرارًا، يطلقُ الفلاحُ في لغةِ العربِ على الفوزِ بالمطلوبِ الأكبرِ، تقولُ العربُ: أَفْلَحَ فلانٌ. إذا فَازَ بأعظمِ مطلوبٍ كان يطلبُه. فَمَنْ نالَ رغبتَه وحصَّل مطلوبَه تقولُ له العربُ: أَفْلَحَ. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ (٢):

فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ
يعنِي: مَنْ أعطاه اللَّهُ نورَ العقلِ فَازَ بالمطلوبِ الأكبرِ؛ لأَنَّ العقلَ يعقلُه عما لا ينبغي، ويميزُ به الحسنَ والقبيحَ، والنافعَ والضارَّ، والحقَّ والباطلَ.
وَيُطْلَقُ الفلاحُ في لغةِ العربِ أيضًا على البقاءِ السرمديِّ الدائمِ في النعيمِ، تقولُ العربُ: أفلحَ فلانٌ. إذا كان بَاقِيًا في نعيمٍ سَرْمَدِيٍّ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٨) من هذه السورة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٨) من هذه السورة.
خلافًا للبعض الآخر. وهذا معنى قوله: ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٦] لشدة كراهتهم لقتال ذلك الجيش.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (١١)﴾ [الأنفال: الآيات ٧ - ١١].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)﴾ [الأنفال: الآيات ٧، ٨].
المراد بالطائفتين هنا كما أطبق عليه عامة المفسرين: هما العِير والنفير. العِير: الإبل تحمل المتاع، والنفير: الجيش في سلاحه وعدده وعُدده.
وقد ذكرنا فيما مضى أن بدرًا (الكبرى) هذه؛ لأن بدرًا ثلاث غزوات كلها تسمى بدرًا، وهي: بدر الأولى، وبدر الكبرى -هي هذه التي يُقال لها بدر العظمى- وبدر الأخيرة بعد أُحد في العام القادم كما تقدم إيضاحه في تفسير سورة آل عمران، وقد ذكرنا فيما تقدم أن أبا سفيان خرج إلى الشام في الرحلة إلى الشام معه عير فيها كثير من أموال قريش، وقد علم النبي ﷺ بذهابها إلى الشام فتلقّاها
والجورُ فيه، وهذه الأمورُ الستةُ لا يوجدُ شيءٌ أشدُّ محافظةً عليها مما جاء به سيدُ الخلقِ محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، ونعني بهذه الستةِ التي أَشَرْنَا إليها: المحافظةُ على الدينِ السماويِّ الذي هو الصلةُ بينَ السماءِ والأرضِ وبينَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ، ثم المحافظةُ على الأنفسِ من القتلِ والإزهاقِ، ثم المحافظةُ على الأنسابِ من الضياعِ والاختلاطِ وتقذيرِ الفُرُشِ، ثم المحافظةُ على العقولِ من الضياعِ؛ لأن العقولَ إذا ضَاعَتْ صار المجتمعُ حيواناتٍ يضربُ بعضُه بعضًا، ثم المحافظةُ على الأموالِ، ثم المحافظةُ على الأعراضِ. فدينُ الإسلامِ جاء بأعظمِ حياطةٍ وصيانةٍ للدينِ، وحياطة وصيانة للنفسِ، وحياطة وصيانة للعقلِ، وحياطة وصيانة للنَّسَبِ، وحياطة وصيانة للمالِ، وحياطة وصيانة للعِرْضِ، وستأتِي هذه الأشياءُ في هذه الدروسِ كُلٌّ في محلِّه، وقد قَدَّمْنَا ما جاء منها.
فهذا دينُ الإسلامِ الذي بَيَّنَ اللَّهُ فيه كُلَّ شيءٍ، وَحَافَظَ فيه على جميعِ المقوماتِ، وَأَعْطَى فيه الأجسامَ حقوقَها، والأرواحَ حقوقَها، وَأَرْشَدَ الإنسانَ إلى عملٍ مزدوجٍ يقومُ به الإنسانُ معاونًا جسمُه روحَه، وروحُه جسمَه؛ لأن مَنْ أَخَلَّ بناحيةِ الجسمِ أَهْمَلَ، وَمَنْ أخلَّ بناحيةِ الروحِ فهو أضيعُ وأضيعُ. فعلينا جميعًا أن نعلمَ أنه لا بدَّ من اتباعِ شَرْعِ اللَّهِ ودينِ اللَّهِ، وأن مَنْ طَلَبَ تشريعًا وتحليلاً وتحريمًا في غيرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ فهو ليس على دينِ الإسلامِ، أَحْرَى أن يكونَ من المؤمنينَ الذين يقولونَ: إن اللَّهَ ينصرُهم وأنه معهم وهم أعداؤُه، وقد بَيَّنَ اللَّهُ في القرآنِ أن الذي له التحريمُ والتحليلُ، والأمرُ والنهيُ لاَ يكونُ إلا له صفاتٌ ليست كصفاتِ خَلْقِهِ، بل صفاتُه مميزةٌ عظيمةٌ لائقةٌ به دالةٌ على أنه هو الذي يأمرُ وينهى ويحللُ ويحرِّم، كقولِه


الصفحة التالية
Icon