لأَنَّ رِيحَ الْخَمْرِ قرينةٌ جازمةٌ على أنه شَرِبَ الخمرَ؛ إِذْ لو لم يَشْرَبْهَا لَمَا كانت رِيحُهَا في فِيهِ (١).
قالوا: لأَنَّ اللَّهَ دَلَّ في القصصِ الماضيةِ - بَيْنَ مَا يَدُلُّ - على أن القرائنَ الجازمةَ رُبَّمَا قَامَتْ مقامَ البيناتِ؛ ذلك لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ لَمَّا بَهَتَتْهُ امرأةُ العزيزِ وَقَالَتْ ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف: آية ٢٥]، وَاضْطُرَّ نَبِيُّ اللَّهِ يوسفُ إلى الدفاعِ فقال: ﴿قالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: آية ١٢٦] وَلَمْ تَكُنْ هناك بينةٌ ولا شيءٌ يُصَدِّقُهُ أو يُصَدِّقُهَا، فجاءَ ذلك الشاهدُ وقال لَهُمْ: هذا أمرٌ يقومُ مقامَ البينةِ، وهي قرينةٌ تُبَيِّنُ الحقيقةَ تَرْكَنُ إليها النفسُ كما تَرْكَنُ لِلْبَيِّنَةِ. قال: انْظُرُوا إلى قميصِ الرجلِ: فَإِنْ كَانَ مَشْقُوقًا مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ فهو يَرْكُضُ على المرأةِ، والمرأةُ تَدْفَعُهُ عن نفسِها، وإن كان القميصُ مَشْقُوقًا من الوراءِ فهو هاربٌ وَهِيَ تَنْتَاشُهُ من وراء.
قال الله: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾ يعني مِنَ الأَمَامِ ﴿فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)﴾ [يوسف: آية ٢٦، ٢٧] وَمَحَلُّ الشاهدِ قولُه: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾ لَمَّا وَجَدُوا القميصَ مَشْقُوقًا مِنْ دُبُرٍ جَزَمُوا بأنها كاذبةٌ وَأَلْزَمُوهَا، وقالوا: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: آية ٢٨]، وَاللَّهُ (جل وعلا) ما ذَكَرَ هذه القصةَ في معرضِ الاستحسانِ والتسليمِ مُبرِّئًا بها ساحةَ نَبِيِّهِ يوسفَ إلا أن مِثْلَ هذا يجوزُ أن يُعْتَمَدَ عليه إذا كانت القرائنُ واضحةً بَيِّنَةً لاَ تَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا (٢). وقد أَخَذَهَا العلماءُ بالإجماعِ
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٦٩) (٣/ ٧٠).
(٢) انظر: القرطبي (٩/ ١٥٠)، الأضواء (٣/ ٦٩).
عن أنس ضعيف، لم يقل أحد بصلاحيته للاحتجاج (١). فقولٌ عند مالك ومن وافقه في التخيير يقولون: إن الإمام مُخيَّر بين هذه الثلاثة، إن شاء قتلهم وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً، وإن شاء قطع أيديهم وأرجُلَهم من خلاف وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً، وإن شاء نفاهم من الأرض، وعلى هذا القول فقتل النفس بالحرابة جائز على الثلاثة.
ومما يزداد على الثلاثة ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن النبي - ﷺ - قال: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا» (٢) هذا نص من النبي - ﷺ - على أن الناس إن بايعت خليفة، ثم جاء واحد آخر فبويع له فإنه يُوجب شق العصا وإراقة دماء المسلمين، فيُقتل الأخير ليستتب الأمن، وتتفق كلمة المسلمين على الأول الذي بايعوه.
وفي صحيح مسلم من حديث عرفجة (رضي الله عنه): «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ وَاحِدٌ، عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ شَقَّ عَصَاكُمْ وَتَفْرِيقَ جَمَاعَتِكُمْ فَاقْتُلُوهُ» وفي رواية: «فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» (٣)، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «مَنْ بَايَعَ إِمَاماً وَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرٌ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ
_________
(١) وفيه: «قال أنس: فسأل رسول الله - ﷺ - جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله... »
أخرجه ابن جرير، وأشار لضعفه في التفسير (١٠/ ٢٥٠، ٢٦٧) وفي سنده ابن لهيعة، والكلام فيه معروف. وانظر النسائي (٧/ ٩٨).
(٢) أخرجه مسلم في الإمارة، باب إذا بُويع لخليفتين، حديث رقم (١٨٥٣)، (٣/ ١٤٨٠).
(٣) مسلم في الإمارة، باب حكم من فَرَّق أمْر المسلمين وهو مجتمع، حديث رقم: (١٨٥٢)، (٣/ ١٤٧٩).
وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ أيضًا في رجزه (١):

لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلاَحِ لَنَالَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
وقولُه: «مدركُ الفلاحِ» أي: مدرك البقاء في الدنيا بلا مَوْتٍ. ومنه بهذا المعنَى قولُ كعبِ بنِ زهيرٍ، أو الأضبطِ بنِ قريعٍ في الشعرِ المشهورِ (٢):
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَةْ وَالْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ
يعنِي أنه لا بقاءَ في الدنيا مع تخالفِ الإمساءِ والإصباحِ. وبهذين الْمَعْنَيَيْنِ اللذين هما البقاءُ السرمديُّ في النعيمِ، والفوزُ بالمطلوبِ الأكبرِ، بكلِّ واحدٍ منهما جاءَ تفسيرُ حديثِ الأذانِ والإقامةِ في قولِه: «حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ» فقال بعضُ العلماءِ: «حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ» هَلُمَّ إلى الفوزِ بالمطلوبِ الأكبرِ وهو الجنةُ وَرِضَى اللهِ؛ لأن أعظمَ أسبابِ ذلك: الصلاةُ.
القولُ الثاني: «حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ» هَلُمَّ إلى البقاءِ السرمديِّ في جناتِ النعيمِ؛ لأن أكبرَ أسبابِ ذلك: الصلاةُ كما هو معروفٌ فِي تفسيرِ حديثِ الأذانِ والإقامةِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿فَاذْكُرُوا آلاء الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: آية ٦٩] هذه عادةُ الرسلِ - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم - بِعِظَمِ التذكيرِ، وشدةِ النصحِ، ولطافةِ الأسلوبِ، والاجتهادِ في هُدَى قومهم، ولكن الْهُدَى بيدِ اللهِ: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المائدة: آية ٤١].
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١١) من سورة الأنعام.
(٢) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.
وهي ذاهبة إلى الشام ليأخذ المال الذي يشترون به مِنَ الشام ففاتته العير، وبلغ (العُشيرة) ورجع منها إلى المدينة، وهي غزوة العُشيرة، ثم بعد ذلك صار يترقب رجوع عِير أبي سفيان، فلما حان وقت قفولها وعلم أنها راجعة استنفر من خفَّ من أصحابه وتلقاها وقال لهم: «اخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللهَ يُنَفِّلكُمُوهَا»؛ ليستعينوا بها على أمور دينهم ودنياهم؛ لأنهم في ذلك الوقت ينقص عليهم المال، فاستنفر ﷺ من كان ظهره حاضرًا من القوم ولم يخرجوا معدّين للقتال، لكن خرجوا يتلقّون عِيْرًا، والمؤرخون يقولون: إن العِير فيها أربعون رجلاً أو ثلاثون رجلاً من قريش، فيهم رئيسهم أبو سفيان بن حرب، وفيهم عمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل، وغيرهم من قريش (١). فسار إلى العِير في ثلاثماثة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه ليس عندهم من السيوف إلا ثمانية سيوف، ولا من الخيل إلا فرسان. يقولون: إن إحداهما تحت المقداد بن عمرو، والثانية تحت الزبير بن العوام، وذكر بعض أصحاب المغازي أن إحداهما عند مصعب بن عمير (رضي الله عنهم أجمعين)، والأول هو المشهور عند أصحاب المغازي. عندهم ثمانية سيوف -فيما يقولون- وفرسان، ونحو من سبعين بعيرًا يعتقبون عليها، كل ثلاثة يعتقبون على بعير، وذكروا أن النبي ﷺ كان هو وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون على بعير (٢)،
وكانت إذا جاءت عقبة رسول الله ﷺ قالوا: «اركب حتى نمشي عنك» فلم يرض إلا أن يمشي كما يمشون، ويقول لهم:
_________
(١) انظر: السيرة لابن هشام ص٦٤٣.
(٢) المصدر السابق ص٦٥١..
تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ وكأنه قال: أتريدونَ أن تعرفوا صفاتِ مَنْ يكونُ له الحكمُ في الأشياءِ ولا يُصْدَرُ في حُكْمٍ إلا عنه ما هي؟ ثُمَّ بَيَّنَّهَا في قولِه: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: آية ١٠] ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له الحكمُ ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (١١) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الشورى: الآيات ١٠ - ١٢] هذه صفاتُ مَنْ لَهُ الحكمُ، أما الكفَرَةُ الفجَرَةُ الخنازيرُ أبناءُ الكلابِ فليس لهم أن يحكموا في بلادِ اللَّهِ، ولا في عبادِ اللَّهِ، ويحرموا ما شاؤوا ويحللوا ما شاؤوا، فَمُتَّبِعُهُمْ هو أَعْمَى الناسِ بصيرةً وَأَضَلُّهُمْ سَبِيلاً:
خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ فَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (١)
وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) يقولُ: ﴿وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غافر: آية ١٢] الذي له الحكمُ هو العليُّ الكبيرُ الذي عُلُوُّهُ وعظمتُه فوقَ كُلِّ شيءٍ، وهو أعظمُ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كُلِّ شيءٍ. ويقولُ (جلَّ وعلا): ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: آية ٨٨] فلا يكونُ الحكمُ إلا لِمَنْ لا يهلك، ولمن كُلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه، هذه صفاتُ مَنْ له الحكمُ، ويقولُ (جل وعلا): ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: الآية ٧٠] ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له الحكمُ فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon