في بعضِ الأفرادِ. أجمعَ العلماءُ في أقطارِ الأرضِ أن الرجلَ يتزوجُ المرأةَ ولم يَرَ وَجْهَهَا قَطُّ ولم يَعْرِفْهَا، وإنما يسمعُ أن عندَ فلانٍ ابنةً فَيَخْطِبُهَا، ويتزوجُها من غيرِ أن يَرَاهَا. ثم إِنَّهَا وقتَ الزفافِ تَزُفُّهَا إليه ولائدُ وإماءٌ لاَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ حقيرٌ ولا جليلٌ، فقد أجمعَ العلماءُ على أن لَهُ بِأَنْ يُجَامِعَهَا، وليس عليه أن يتوقفَ حتى تقومَ بينةٌ عدولٌ تشهدُ أن هذه عينُ فلانة ابنةِ فلانٍ التي وَقَعَ عليها العقدُ؛ لأن قرينةَ العقدِ ودَفْعَ الصداقِ والتهيؤَ للزفافِ قرائنُ قامت مقامَ البينةِ في هذا الموضوعِ (١).
وَالرَّجُلُ ينزلُ عِنْدَ القومِ فيأتيه الولدُ والجاريةُ بطعامِ القومِ، والطعامُ مالٌ معصومٌ محترمٌ، وليس عليه أن يَتَثَبَّتَ حتى تقومَ بَيِّنَةٌ على أَنَّهُمْ أَذِنُوا له في الأَكْلِ؛ لأَنَّ القرينةَ تقومُ مقامَ ذلك (٢).
وقد أَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم من قصةِ يعقوبَ وأولادِه أن القرينةَ تَبْطُلُهَا قرينةٌ أَقْوَى منها (٣). وهو أَخْذٌ صحيحٌ من كتابِ اللَّهِ، ذلك أن أولادَ يعقوبَ لَمَّا أَرَادُوا أن يَجْعَلُوا يوسفَ في غيابةِ الْجُبِّ ذَبَحُوا سخلةً، وَلَطَّخُوا قميصَه بدمِ السخلةِ؛ ليكونَ الدمُ قرينةً لهم على صِدْقِهِمْ بأن يوسفَ أَكَلَهُ الذئبُ، وَنَسُوا أَنْ يَشُقُّوا القميصَ!! فلما جَاؤُوا بالليلِ إلى يعقوبَ بالقميصِ عليه الدمُ تَأَمَّلَ فِي القميصِ، فإذا هو ليس فيه شَقٌّ وهو صحيحٌ سَلِيمٌ، فقال: سبحانَ اللَّهِ!! مَتَى كانَ الذئبُ حَلِيمًا كَيِّسًا؟ يقتلُ يوسفَ ولا يَشُقُّ قميصَه؟! فَجَزَمَ بأنهم
_________
(١) انظر: قواعد الأحكام (٢/ ١٣٦ - ١٣٩)، الأضواء (٢/ ٦٩)، (٣/ ٧٠).
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٦٩)، (٣/ ٧٠).
(٣) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (٣/ ١٠٧٧)، القرطبي (٩/ ١٤٩)، الأضواء (٢/ ٦٩) (٣/ ٧٠).
الْآخَرِ» (١)، هذه أحاديث ثابتة عن صحابة بِقَتْل هذه النفس، زيادة على الثلاث المذكورة.
وزَاد جمهور العلماء عليها: تارك الصلاة (٢)، فإن جمهور العلماء -منهم مالك، والشافعي، وأحمد- على أنَّ تَارِكَ الصلاة يُقْتَل، واستدلوا على قتله بمفاهيم كثيرة من أحاديث كثيرة وآيات، كقوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: آية ٥] وكقصة الرجل الثابتة في الصحيح، الذي تكلم في النبي - ﷺ - وقال: قِسْمَة ما أُريد به وجْه الله!! فقال بعض الصحابة: دَعْنِي أضرب عنقه. قال: «أَلَيْسَ يُصَلِّي»؟! قال: يُصلي ولا صلاة له!! قال: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ» (٣)
يعني: المصَلِّين، فدل
_________
(١) مسلم في الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، حديث رقم: (١٨٤٤)، (٣/ ١٤٧٢).
(٢) انظر: التمهيد (٤/ ٢٢٤) فما بعدها، الاستذكار (٥/ ٣٤١) فما بعدها، المغني (٢/ ٢٩٨ - ٣٠٢)، (١٠/ ٨٥)، نيل الأوطار (١/ ٢٨٧)، كتاب الصلاة لابن القيم.
(٣) ما ذكره الشيخ (رحمه الله) هنا مُرَكَّب من حديثين وَهِم الشيخ (رحمه الله) فأدخل أحدهما في الآخر.
أما الأول: فمن حديث ابن مسعود (رضي الله عنه) ولفظه: قسم النبي - ﷺ - قَسْماً، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أُريد بها وجه الله. فأتيت النبي - ﷺ - فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: «يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» وقد أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب ما كان النبي - ﷺ - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخُمس ونحوه، حديث رقم: (٣١٥٠)، (٦/ ٢٥١)، وأطرافه في: (٣٤٠٥، ٤٣٣٥، ٤٣٣٦، ٦٠٥٩، ٦١٠٠، ٦٢٩١، ٦٣٣٦)، ومسلم في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، حديث رقم: (١٠٦٢)، (٢/ ٧٣٩).
وأما الحديث الثاني: فهو من حديث عبد الله بن عدي الأنصاري (رضي الله عنه) أن رسول الله - ﷺ - بينا هو جالس بين ظهراني الناس جاء رجل يستأذنه أن يُسَارَّه، فأذن له فَسَارَّه في قتل رجل من المنافقين يستأذنه فيه، فجهر رسول الله - ﷺ - بكلامه فقال: «أليْسَ يشهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ؟» قال: بلى، ولا شهادة له. قال: «أليْسَ يَشْهَدُ أن محمَّداً رَسُولُ اللهِ؟» قال: بلى، ولا شهادة له. قال: «أَلَيْسَ يُصَلِّي؟» قال: بلى، ولا صلاة له. قال: «أولَئِكَ الَّذِين نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ».
وهذا الحديث بعضهم يرويه موصولاً مسنداً، وبعضهم يرويه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار -وهو الذي رواه عن عبد الله بن عدي الأنصاري- مرسلاً.
وقد أخرجه مالك في الموطأ (١١٩)، والشافعي في الأم (٦/ ١٥٧)، وعبد الرزاق (١٠/ ١٦٣)، وأحمد (٥/ ٤٣٢ - ٤٣٣)، وعبد بن حميد (١/ ١٧٧)، والبيهقي (٣/ ٣٦٧)، وابن حبان (الإحسان ٧/ ٥٨٤)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (٢/ ٩١٢ - ٩١٤)، وللحديث شواهد، انظر: التمهيد (١٠/ ١٤٩).
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)﴾ [الأعراف: الآيات ٧٠، ٧٢].
لَمَّا نصحَ نَبِيُّ اللَّهِ هودٌ قومَه هذا النصحَ الكريمَ، وذكَّرهم بآلاءِ اللهِ وَنِعَمَهُ، وأشارَ لهم إلى أن اللهَ أَهْلَكَ مَنْ كان قبلَهم لَمَّا عَصَوْا وتمردوا، وكان قد خَوَّفَهُمْ قبلَ هذا وهددهم بأنهم إن لم يؤمنوا باللهِ أَهْلَكَهُمُ اللهُ وَعَذَّبَهُمْ، قالوا له هذا الجوابَ الخبيثَ الذي هو في غايةِ الخبثِ وبذاءةِ اللسانِ والعتوِّ والتمردِ على اللهِ ﴿قَالُوا﴾ أي: قال: قومُ هودٍ لهودٍ: ﴿أَجِئْتَنَا﴾ يا هودُ بهذه الدعوى التي جئتَ بها، وَالدِّينِ الذي تَزْعُمُ وتدعو إليه لِتَصْرِفَنَا عن آلهتِنا التي كنا نعبدها: ﴿لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ نعبد إِلَهًا واحدًا لا نشرك به شيئًا آخَرَ من الآلهةِ ﴿وَنَذَرَ﴾ أي: ونتركَ ﴿مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ من الآلهةِ. فقولُه: ﴿وَنَذَرَ﴾ معناه: نتركَ. وهذا الفعلُ لا يوجدُ منه في العربيةِ إلا مضارعُه وَأَمْرُهُ، تقول: «يَذَرُ الأمرَ» بمعنَى: يتركه، و (ذَرْ) بمعنى: اتْرُكْ. ولا يُستعمل منه في العربيةِ إلا الأمرُ والمضارعُ، فماضيه: (تَرَكَ)، واسمُ فاعلِه: (تارك)، واسمُ مفعولِه: (متروكٌ)، ومصدرُه: (التركُ)؛ لأنه لاَ يوجدُ منه إلا الأمرُ والمضارعُ (١). فمعنَى ﴿لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ [الأعراف: آية ٧٠] أي: لِنُفْرِدَ خالقَ السماواتِ والأرضِ وحدَه بالعبادةِ: ﴿وَنَذَرَ﴾ أي: ونتركَ ﴿مَا كَانَ﴾ أي: عبادةَ ما كان يعبدُه
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
«لَسْتُمْ بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَسْتُ بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا» (١). وما ذكره بعض المؤرخين وأصحاب المغازي من أن اللَّذَين كانا يعتقبان مع النبي ﷺ هما: علي وأبو لبابة بن عبد المنذر لا ينافي ما عليه الأكثرون من أن الثالث هو مرثد بن أبي مرثد الغنوي؛ لأنّا قدمنا أن أبا لبابة بن عبد المنذر ردّه النبيّ ﷺ من الروحاء وخلفه على المدينة، ردّه إليها من الروحاء، فلعل مُعاقبة أبي لبابة كانت قبل رجوعه، وبعد أن ردّه النبي ﷺ إلى المدينة صار مكانه مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه (٢).
ثم إنهم ذهبوا في طريقهم ذلك حتى قربوا من بدر، وقد أرسل النبي ﷺ قبل ذلك طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد يتجسسان أخبار عِير أبي سفيان إلى جهة الشام، وقد انتهت الوقعة قبل رجوعهما، وأرسل أيضًا بسبس بن عمرو الجهني -حليف بني ساعدة- وعدي بن أبي الزغباء (رضي الله عنهما) يتجسسان الخبر، وقد جاءاه ببعض الخبر لأنهم لما جاءا بئر بدر وأناخا بعيريهما سمعا -عدي بن أبي الزغباء هذا، وبسبس بن عمرو (رضي الله عنهما) - سمعا جاريتين تُداين إحداهما الأخرى، والتي تُطالَبُ تقول لها: إن عِير أبي سفيان ستنزل هنا غدًا فأشتغل عندهم وأقضيك من ذلك،
_________
(١) أحمد (١/ ٤١٨، ٤٢٢)، والنسائي (في الكبرى) في السير، باب الاعتقاب في الدابة، حديث رقم: (٨٨٠٧) (٥/ ٢٥٠)، والحاكم (٣/ ٢٠)، والبيهقي في الدلائل (٣/ ٣٩)، والبزار (كشف الأستار) (٢/ ٣١٠)، وذكره الهيثمي في المجمع (٦/ ٦٩) وعقبه بقوله: «وفيه عاصم بن بهدلة وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح» اهـ.
(٢) انظر: البداية والنهاية (٣/ ٢٦١).
إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (٧١)} إلى آخِرِ الآياتِ [القصص: آية ٧١]. فالحكمُ لاَ يكونُ إلا للعظيمِ الأعظمِ الذي هو الخالقُ لكلِّ شيءٍ، الرازقُ لكلِّ شيءٍ، الفاعلُ ما يشاءُ في كلِّ شيءٍ، هذا الذي يُتَّبَعُ تشريعُه ويُحَلُّ ما أَحَلَّ، ويحرَّم ما حَرَّمَ، أما القوانينُ والنظمُ الملتقطةُ من زبالاتِ أذهانِ الكفَرَةِ الفجَرَةِ فلاَ يَتَّبِعُهَا ويعتقدُها وَيُحَكِّمُهَا في أموالِ المجتمعِ وعقولِه وأنسابِه وأديانِه وأعراضِه إلا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بصائرَهم، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ بصيرتَه فَلاَ حيلةَ له ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [النور: آية ٤٠] ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى... ﴾ [الرعد: آية ١٩] لاَ ليسَ كمثلِه.
ومعنى الآيةِ الكريمةِ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: آية ٣٧] اختلفَ العلماءُ في تحقيقِ كلمةِ (النسيءِ) هنا (١) فقالَ بعضُهم: هو مِنْ (نسأ) الثلاثيةِ وهو (فَعِيلٌ) بمعنَى مفعولٍ، فالعربُ تقولُ: نساه ينسؤه نَسْئًا، إذا أَخَّرَهُ. والعربُ تأتِي بـ (الفعيل) مكانَ (المفعولِ) كما يقولونَ: قتيلٌ مكانَ مقتولٍ، وجريحٌ مكانَ مجروحٍ، ونسيءٌ مكانَ منسوءٍ، أي: مُؤَخَّرٌ. فَعَلَى هذا القولِ فالنسيءُ (فعيلٌ) بمعنَى (مفعولٍ) وكقتيلٍ بمعنَى مقتولٍ، وجريحٍ بمعنَى مجروحٍ. وعلى هذا فهو مِنْ (نَسَأَ) الثلاثيةِ.
والقولُ الثانِي: أن النسيءَ اسمُ مصدرِ (أَنْسَأَ) الرباعيةِ على وزنِ (أَفْعَل) لأَنَّ العربَ تقولُ: أَنْسَأَ الأمرَ يُنْسِئُهُ إِنْسَاءً وَنَسِيئَةً. فالإنساءُ مصدرٌ قياسيٌّ، والنسيءُ مصدرُ (أَنْسَأَ) مصدرًا سماعيًّا، كما جاء
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٤٣)، القرطبي (٨/ ١٣٦)، الدر المصون (٦/ ٤٦).


الصفحة التالية
Icon