كاذبونَ. كما نَصَّ اللَّهُ عنه في قولِه: ﴿وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: آية ١٨]، وَحَكَى غيرُ واحدٍ إجماعَ العلماءِ (١) على أن مستندَ يعقوبَ في قولِه: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ﴾ أنه عدمُ شَقِّ القميصِ، وَتَيَقَّنَ أَنَّ الذئبَ لو كَانَ أَكَلَهُ لاَ بُدَّ أَنْ يكونَ في القميصِ شَقٌّ مِنْ نَابِهِ أَوْ ظُفْرِهِ، كما هو مَعْرُوفٌ.
وكذلك أخذَ المالكيةُ ضمانَ الغُرْمِ من قولِه في قصةِ يوسفَ وإخوتِه: ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوف: آية ٧٢] (٢).
وأخذ بعضُ الشافعيةِ - مع أنهم يقولونَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا ليسَ شَرْعًا لَنَا - أَخَذُوا ضمانَ الوجهِ المعروفِ في الاصطلاحِ بـ (الكفالةِ) مِنْ قَوْلِ يعقوبَ لأولادِه: ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ [يوسف: آية ٦٦] (٣).
وَأَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم أن القاضيَ إذا تَوَجَّهَ حُكْمُهُ إلى أحدِ الْخَصْمَيْنِ لا بُدَّ أن يُعْذِرَ إليه بـ: (أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ)؟ أُخِذَ هذا من قولِه في قصةِ الهدهدِ: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ [النمل: آية ٢١] أي: مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مدْفَعٌ وَعُذْرٌ يَدْفَعُ به عَنْ نَفْسِهِ (٤).
_________
(١) نقله القرطبي (٩/ ١٥٠) وانظر: الأضواء (٣/ ٧١).
(٢) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (٣/ ١٠٩٦)، القرطبي (٩/ ٢٣٣)، الأضواء (٢/ ٧٠).
(٣) انظر: القرطبي (٩/ ٢٢٥)، الأضواء (٢/ ٧٠).
(٤) انظر: الأضواء (٢/ ٧٠).
بمفهومه على أن الذي لا يُصلي أنه يُقتل، وفي الحديث المشهور في صحيح مسلم أن النبي - ﷺ - لما ذكر أئمة السوء، وأنه سيلي عليكم قوم تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا له: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ» (١)، فدل على أن المانع من قتلهم إقامة الصلاة.
والأحاديث في مثل هذا كثيرة، ولذا كان ثلاثة من الأئمة على أن تارك الصلاة يُقتل، ومشهور مذهب مالك ومذهب الشافعي أنه يقتل حدّاً لا كفراً، بناء على حديث عبادة بن الصامت الذي يقول فيه: «إِنَّهَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ» -إلى أن قال في آخر الحديث-: «وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ
_________
(١) مسلم في الإمارة، باب: خيار الأئمة وشرارهم، حديث رقم: (١٨٥٥)، (٣/ ١٤٨١).
آباؤُنا من قَبْلِنَا من هذه الآلهةِ والأصنامِ.
وكانت عندَهم أصنامٌ يسمونها، كما دَلَّ عليه قولُه: ﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [الأعراف: آية ٧١] والمؤرخونَ وأهلُ الأخبارِ يزعمونَ أن منها صَنَمًا يُسَمَّى: صداء أو (صمدا)، وَصَنَمًا يُسَمَّى: (صمودا) وصنمًا يُسَمَّى: (الهباء) (١). وهم يعبدونَ هذه الأصنامَ ويسمونَها بهذه الأسماءِ.
﴿أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ هذا إنكارٌ منهم، وهم يُنْكِرُونَ أعظمَ الحقِّ وأوضحِ الْحِجَجِ، وهي توحيدُ رَبِّ العالمين. ﴿وَنَذَرَ﴾ أي: ونتركَ ﴿مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ مِنْ قَبْلِنَا. ثم قالوا له: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ نحنُ لا نُصَدِّقُكَ أبدًا ولا نؤمنُ لكَ أبدًا، فالعذابُ الذي تُهَدِّدُنَا به عَجِّلْ به علينا، فإن كان عندكَ شيءٌ أو صِدْقٌ فَأْتِ بالذي تُهَدِّدُنَا به وَتُخَوِّفُنَا به، إن كنتَ صادقًا في ذلك الوعيدِ فهاتِ العذابَ وَعَجِّلْهُ. وهذا أعظمُ طغيانٍ وَتَمَرُّدٍ، كما قال كفارُ مكةَ: ﴿إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: آية ٣٢] وقالوا: ﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [ص: آية ١٦] فَاسْتَعْجَلُوا بالعذابِ وأظهروا التمردَ النهائيَّ، وأنهم لا يَرْتَدِعُونَ ولا ينكفون عن كفرهم. ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ أي: بالذي تَعِدُنَا به من العذابِ، وعذابُ اللهِ لنا في زعمكَ
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ١٢١)، وفي تفسير ابن جرير (١٢/ ٥٠٧)، «صُداء» و «صمود» و «الهباء». وفي ابن كثير (٢/ ٢٢٥)، كما في الأصل عدا الأخير (الهنا) وهو تحريف كما لا يخفى. وانظر: (تكملة أسماء الأصنام) وهو ملحق في آخر كتاب الأصنام لابن الكلبي ص١١٠، ١١١، وانظر كذلك: الشرك الجاهلي وآلهة العرب المعبودة في الإسلام ص١٤٨ - ١٤٩.
وعلى الماء رجل من بني غفار (١)، فقال للجارية الطالبة: صدقت فسترد العير وستقضيك إذا اشتغلت عندها، فأخبرا رسول الله ﷺ بذلك (٢). وقد جاء رسول الله ومعه أبو بكر وسأل الشيخ الغفاري الذي كان على الماء واسمه سفيان (٣) كما ذكرنا. وأخبرهما عن موقع النبي ﷺ وعن موضع أبي سفيان، وقد قال له النبي: «نحن من ماء» كما ذكرنا.
وذكر الأخباريون (٤) أن أبا سفيان جاء وفَتَّت بعض أبعار النواضح، بعضهم يقول: فتت بعر بعير بسبس وعدي بن أبي الزغباء فوجد في بعر البعير النوى فقال: هذه علائف يثرب. ولم يشك في أنها من النبيّ ﷺ وأصحابه، فرجع مسرعًا وردّ العِير عن بدر أصلاً وسَاحَل بها إلى جهة البحر، وأسرع بها هناك، وآجر ضمضم بن عمرو الغفاري على أن يسير سيرًا مسرعًا إلى قريش ويخبرهم أن محمدًا ﷺ تعرض لعِيرِهم فيها أموالهم، والمؤرخون يقولون: إن هذه العير فيها ألف بعير كلها تحمل الأموال، وفيها أربعون أو ثلاثون رجلاً من قريش، وهي تحمل مالاً كثيرًا، فأسرع ضمضم بن عمرو الغفاري إلى قريش بمشي سريع وجاءهم بسرعة، ولما قرُب منهم جدع أُذني البعير الذي هو عليه. وحوَّل الرحل، وشق القميص، وصاح بصوت مزعج: يا معشر قريش اللطيمة
_________
(١) الذي على الماء: مجدي بن عمرو الجهني، كما في ابن هشام ص٦٥٦.
(٢) المصدر السابق.
(٣) اسمه: سفيان الضمري. (ابن هشام ص٦٥٤) والبداية والنهاية (٣/ ٢٦٤). وهو آخر غير الجهني الذي جاءه بسبس وصاحبه.
(٤) ابن هشام ص٦٥٦، والبداية والنهاية (٣/ ٢٦٥).
النذيرُ مصدرًا لأَنْذَرَ، والنكيرُ مصدرًا لأَنْكَرَ، والنسيءُ مصدرًا لأَنْسَأَ، بمعنَى: أَخَّرَ.
فعلى أن النسيءَ اسمُ مصدرٍ بمعنَى الإِنْسَاءِ فلا إشكالَ؛ لأن الإنساءَ فعلُ الفاعلِ، وعلى هذا فلا إشكالَ في قولِه: ﴿زِيَادَةٌ﴾ أي: لأَنَّ تأخيرَ الشهرِ الحرامِ وَإِنْسَاءَهُ من نقلِه من المحرمِ وتأخيرَه منه إلى صَفَرٍ. هذا التأخيرُ والإنساءُ زيادةٌ في الكفرِ، لأنه أَحَلَّ ما حَرَّمَ اللَّهُ وهو المحرَّم، وَحَرَّمَ ما أحلَّه اللَّهُ وهو صَفَرٌ.
أما على القولِ بأن (النسيءَ) (فعيل) بمعنَى (مفعولٍ) وأنه من (نَسَأَ) الثلاثيةِ، وأن النسيءَ بمعنَى الزمانِ الْمَنْسُوءِ، فيكونُ في قولِه: ﴿زِيَادَةٌ﴾ إشكالٌ؛ لأن نفسَ الشهرِ المنسوءِ الْمُؤَخَّرِ ليس هو عَيْنَ الزيادةِ؛ وَلِذَا لا بُدَّ فِي هذا المعنَى من تقديرِ مضافٍ، أي: إنما نَسْءُ النسيءِ زيادةٌ في الكفرِ. أو إنما النسيءُ ذُو زيادةٍ، أي صاحبُ زيادةٍ في الكفرِ حَاصِلَةٌ فيه. فَاتَّضَحَ من هذا أنه على أن النسيءَ اسمُ مصدرٍ من (أَنْسَأَ) فلا تقديرَ في قولِه: ﴿زِيَادَةٌ﴾.
وعلى أنه (فعيلٌ) بمعنَى (مفعولٍ) مِنْ (نَسَأَ) الثلاثيةِ فلا بدَّ من تقديرِ مضافٍ إما قبلَ الزيادةِ أو قبلَ النسيءِ، فتقول: نَسْءُ المنسوءِ زيادةٌ، أي: تأخيرُ الشهرِ زيادةٌ في الكفرِ. أو تقولُ: المنسوءُ ذُو زيادةٍ، أي: صاحبُ زيادةٍ في الكفرِ لوقوعِها بسببِه. وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ لأنهم كانوا كفارًا، فلما أحلُّوا مُحَرَّمًا وهم يعلمونَ أن اللَّهَ حَرَّمَهُ، وحرموا صفرًا وهم يعلمونَ أن اللَّهَ ما حَرَّمَهُ، صاروا بهذا التشريعِ مُرْتَكِبِينَ كُفْرًا جديدًا كما بَيَّنَّا، ازْدَادُوا بهذا الكفرِ كُفْرًا جديدًا إلى كُفْرِهِم الأولِ.
﴿يَضِلُّ به الذين كفروا﴾ و ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ معناه:


الصفحة التالية
Icon