وَأَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم أن القاضيَ إذا انْتَهَتِ الآجالُ والتّلَوُّماتُ للخصومِ ينبغي له أن يستظهرَ لِمَنْ تَوَجَّهَ عليه الحكمُ بثلاثةِ أيامٍ، أَخْذًا من قولِه في قصةِ صَالِحٍ: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ﴾ [هود: آية ٦٥] (١).
وَأَخَذَ علماءُ الحنابلةِ جوازَ طولِ مدةِ الإجارةِ من قولِه في مُوسَى وصهرِه شعيبٍ أو غيرِه: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ الآياتِ [القصص: آية ٢٧] (٢).
أما الذين قَالُوا: إِنَّ شرعَ مَنْ قبلَنا ليس شَرْعًا لنا - وهو أَصَحُّ الرواياتِ في الأصولِ عن الإمامِ الشافعيِّ - فَتَمَسَّكُوا بظاهرِ قولِه تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: آية ٤٨]، وَفِي الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ» (٣). وأولادُ الْعَلاَّتِ: هُمْ أولادُ الرجلِ الواحدِ إذا كانت أمهاتُهم شَتَّى مُخْتَلِفَةً. يعني أن العقيدةَ والأصلَ واحدٌ، والفروعُ تختلفُ، أما اختلافُ الفروعِ الذي أَشَارَ إليه النبيُّ بقولِه: (أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ) وَبَيَّنَهُ اللَّهُ بقولِه: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ فهو لاَ يُنَافِي
_________
(١) المصدر السابق.
(٢) انظر: المغني (٨/ ١٠)، حاشية الروض المربع لابن قاسم (٥/ ٣١٦)، الأضواء (٢/ ٧٠).
(٣) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا﴾ [مريم: ١٦]. حديث (٣٤٤٢)، (٦/ ٤٧٧)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب: فضائل عيسى (عليه السلام)، حديث (٢٣٦٥)، (٤/ ١٨٣٧).
غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» (١)،
وكان الإمام أحمد في أصَحِّ الروايتين يرى أنَّ تَارِكَ الصلاة يُقْتَلُ كُفْراً (٢)، وقَدْ دلَّت على ذلك أحاديث كثيرة: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ»، «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ تَرْكُ الصَّلَاةِ» (٣)
في أحاديث تُصَرِّحُ بأنه كافر، وأكثر العلماء على أنَّ قَتْلَهُ حد، وأصرح الأدلة تدل على أنه كافر، وهي أكثر وأشْهَر من حديث
_________
(١) أخرجه مالك في الموطأ، في صلاة الليل، باب الأمر بالوتر، حديث رقم (٢٦٦) ص (٩٠)، وعبد الرزاق رقم: (٤٥٧٥)، وأحمد (٥/ ٣١٥ - ٣١٦، ٣١٩)، وابن أبي شيبة (٢/ ٢٩٦)، والحميدي رقم: (٣٨٨)، والدارمي (١/ ٣٧١)، وأبو داود في الصلاة، باب المحافظة على وقت الصلوات، حديث رقم: (٤٢١)، (٢/ ٩٣) وفي باب: فيمن لم يوتر، حديث رقم: (١٤٠٧)، (٤/ ٢٩٤)، والنسائي في الصلاة باب المحافظة على الصلوات الخمس، حديث رقم: (٤٦١)، (١/ ٢٣٠)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس، حديث رقم (١٤٠١)، (١/ ٢٤٩)، والبيهقي (١/ ٣٦١)، (٢/ ٨، ٢١٥، ٤٦٧).
والحديث صححه ابن عبد البر في التمهيد (٢٣/ ٢٨٨)، وساق طرقه في الاستذكار (٥/ ٢٦١) وانظر: صحيح أبي داود (١/ ٨٥، ٢٦٦)، صحيح النسائي (١/ ١٠٠)، المشكاة رقم: (٥٧٠).
(٢) الجملتان من حديث واحد عن بُرَيْدَة (رضي الله عنه) مرفوعاً، أخرجه أحمد (٥/ ٣٤٦)، والترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم: (٢٦٢١)، (٥/ ١٣ - ١٤)، والنسائي في الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، حديث رقم: (٤٦٣)، (١/ ٢٣١)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث رقم: (١٠٧٩)، (١/ ٣٤٢)، والحاكم (١/ ٧).
وانظر: صحيح الترمذي (٢/ ٣٢٩)، صحيح ابن ماجه (١/ ١٧٧)، المشكاة، رقم (٥٧٤) تخريج الإيمان لابن أبي شيبة (٤٦).
(٣) الجملتان من حديث واحد عن بُرَيْدَةَ (رضي الله عنه) مرفوعاً، أخرجه أحمد (٥/ ٣٤٦)، والترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم: (٢٦٢١)، (٥/ ١٣ - ١٤)، والنسائي في الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، حديث رقم: (٤٦٣)، (١/ ٢٣١)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث رقم: (١٠٧٩)، (١/ ٣٤٢)، والحاكم (١/ ٧).
وانظر: صحيح الترمذي (٢/ ٣٢٩)، صحيح ابن ماجه (١/ ١٧٧)، المشكاة، رقم: (٥٧٤) تخريج الإيمان لابن أبي شيبة (٤٦).
إن كنتَ مِنْ جملةِ الصادقين فهاتِ الذي تُهَدِّدُنَا به، تَمَرُّدًا على اللهِ، وتعجيزًا لرسولِه، واستخفافًا بدعوةِ نَبِيِّهِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - فَأُوحِيَ إلى هودٍ في ذلك الوقتِ أن القولَ حَقَّ عليهم، وأن العذابَ وَجَبَ عليهم، وأن اللَّهَ قَضَى أمرَه فيهم فقال - بسببِ ذلك - هودٌ: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾ [الأعراف: آية ٧١] جَزَمَ بأنه وقعَ عليهم بالفعلِ؛ لأن [الْمُتَوَقَّعَ كالواقعِ] (١)؛ لأن اللهَ حَكَمَ به. ومن أساليبِ اللغةِ العربيةِ: إطلاقُ الفعلِ الماضِي مُرَادًا به المستقبلُ إيذانًا بتحققِ الوقوعِ، وهو كثيرٌ في القرآنِ العظيمِ جِدًّا وفي كلامِ العربِ (٢)،
ومنه في القرآنِ: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ يعنِي القيامةَ، بدليلِ: ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: آية ١] وَأَكْثَرَ اللَّهُ منه في سورةِ الزمرِ حيث قال: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ إلى قولِه: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ [الزمر: الآيات ٦٩ - ٧٣] كُلُّ هذه الأفعالِ الماضيةِ المذكورةِ في الزمرِ معناها: الاستقبالُ، وإنما عُبِّرَ عنها بالماضِي إيذانًا بتحققِ الوقوعِ.
والرِّجْزُ هنا: العذابُ. قال بعضُ العلماءِ: أصلُه من الارتجازِ، وهو الاضطرابُ؛ لأن الْمُعَذَّبَ يبقى في الاضطرابِ. وهو (رجسٌ) بالسينِ هنا. ﴿رِجْسٌ﴾ أي: عذابٌ. وربما يقالُ للرجسِ: (رجزٌ) بالسينِ والزايِ. ومعناه: العذابُ. والمعنَى: وَقَعَ عليكم عذابٌ وغضبٌ كائنٌ من ربِّكم فمعناه أن اللَّهَ غَضِبَ عليكم، وأنه مُعَذِّبُكُمْ عذابًا مستأصلاً لا مَحَالَةَ.
_________
(١) في الأصل: «الواقع كالمتوقع». وهو سبق لسان.
(٢) راجع ما مضى عند تفسير الآية (١٤٨) من سورة الأنعام..
اللطيمة. واللطيمة: الإبل تحمل المتاع، كما قال نابغة ذبيان (١):
............................. يَطُوفُ بها وَسْطَ اللَّطِيمَةِ بَائِعُ
إن محمدًا تعرض لعِيرِكم يريد أن يأخذها كما أخذ عِير ابن الحضرمي. وبعضهم يقول: إن بين وقعة بدر وبين قضية عِير ابن الحضرمي شهرين فقط، والله تعالى أعلم.
وقبل مجيء ضمضم بن عمرو الغفاري بثلاث ليالٍ رأت عاتكة بنت عبد المطلب (رضي الله عنها) رؤيا هائلة عجيبة أَسَرَّت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، قالت له: إني رأيت في منامي رؤيا عجيبة أخاف أن يصل إلى قومك منها شر. قال: وما هي؟ قالت: رأيت راكبًا على بعير له، لما جاء بالأبطح رفع صوته ونادى: ألا انفروا إلى مصارعكم في ثلاث. قالت: وأناخ بعيره على ظهر الكعبة فيما ترى في نومها وصرخ بهم مرات: ألا انفروا إلى مصارعكم في ثلاث، وفعل كذلك على جبل أبي قبيس، وأرسل صخرة عظيمة من أبي قبيس فلما جاءت إلى أسفل الجبل ارفَضَّت - أي انكسرت وتفرقت شظاياها - فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا دخله منها شيء. كانت أسرّت هذه الرؤيا إلى العباس أخيها واستكتمته عليها، فأَسَرَّها العباس إلى بعض أصدقائه من بني ربيعة، فأَسَرَّها ذلك إلى غيره حتى فشى الخبر وتناقلها الناس، فأتى العباس البيت ليطوف وإذا أبو جهل في نفر من قريش، فقال له أبو جهل: إذا
_________
(١) هذا الشطر الأخير من بيت أوله: «على ظهر مبناه جديد سيورُها» وهو في ديوانه ص٥٣.
يضلهم الشيطانُ كما يأتِي في قولِه: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾.
﴿يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾ قد أَشَرْنَا أن هذه الآيةَ الكريمةَ من سورةِ براءة والحديثَ الذي جاء في مضمونِها: أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ.. الحديثَ (١). غَلِطَ فيه خلقٌ من كبارِ المفسرينَ، وَمَنْ تَكَلَّمُوا على الحديثِ، وأن الصورةَ الحقيقيةَ التي قالت بها جماعةٌ من السلفِ (٢) - والقرآنُ يشهدُ لصحةِ قولِهم - أنها التي كان يَعْمَلُهَا الكنانيون القَلَمَّس وَمَنْ بعدَه، وكان شاعرُهم يفتخرُ بذلك ويقولُ شاعرُهم وهو عميرُ بنُ قيسٍ المعروفُ بـ (جذل الطَّعان) (٣):
لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي... كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا...
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا...

وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ يُدْرَكْ بِوِتْرٍ وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ يُعْلَكْ لِجَامَا
أنهم كانوا يأتون جنادةَ بنَ عوفٍ إذا صَدَرُوا مِنْ مِنًى، فيقومُ ويقولُ: أنا الذي لاَ أُجَابُ وَلاَ أُعَابُ، ولا مردَّ لِمَا أقولُ، هذا العام قد
_________
(١) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب: ما جاء في سبع أرضين.. ، رقم (٣١٩٧) (٦/ ٢٩٣). وانظر الأحاديث: (٦٧، ١٠٥، ٧٤١، ٤٤٠٦، ٤٦٦٢، ٥٥٥٠، ٧٠٧٨، ٧٤٤٧). وأخرجه مسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم (١٦٧٩) (٣/ ١٣٠٥). وهو جزء من حديث خطبة حجة الوداع.
(٢) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٤٥)، القرطبي (٨/ ١٣٧)، ابن كثير (٢/ ٣٥٤).
(٣) الأبيات ذكرها ابن هشام ص٥٦، والبيت الثالث عند الشيخ جعله ابن هشام ثانيًا، ولفظه عنده:
فأي الناس فاتونا بوتر وأي الناس لم نعلك لجاما
وقد مضى البيت الثاني منها عند تفسير الآية (٣) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon