ما ذَكَرْنَا؛ لأَنَّ بعضَ الشرائعِ يكونُ فيها نسخٌ لم يكن فيما قَبْلَهَا، وَيُزَادُ في بعضِ الشرائعِ أحكامٌ لَمْ تَكُنْ موجودةً فيما قَبْلَهَا، وبواسطةِ نسخِ بعضِ الأحكامِ السابقةِ، وزيادةِ بعضِ الأحكامِ التي لَمْ تَكُنْ تَخْتَلِفُ الشرائعُ بهذا الاعتبارِ، ويكونُ لِكُلٍّ شَرِيعَةٌ وَمِنْهَاجٌ؛ لأَنَّهَا لم تَتَّحِدْ في كُلِّ شَيْءٍ. وهذا معنَى قولِه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: آية ٩٠]، العائدُ إلى الصلةِ هنا محذوفٌ، والأصلُ: أولئك الذين هَدَاهُمُ اللَّهُ، فَحَذَفَ الضميرَ العائدَ على الصلةِ (١) لأنه منصوبٌ بِفِعْلٍ، وإذا كان مَنْصُوبًا بفعلٍ أو وَصْفٍ فَحَذْفُهُ مُطَّرِدٌ، كما هو مَعْرُوفٌ.
﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٩٠] قُلْ لهم يَا نَبِيَّ اللَّهِ: ﴿لاَّ أَسْأَلُكُمْ﴾ أَيْ: لاَ أطلبُ منكم ﴿عَلَيْهِ﴾ أي: على هذا التبليغِ الذي بَلَّغْتُكُمْ به ما فيه لكم خيرُ الدنيا والآخرةِ، لاَ أَطْلُبُ منكم في مقابلتِه جُعْلاً، ولا أجرةً أنتفعُ بها في الدنيا، لاَ وَكَلاَّ، إنما أَجْرِي في ذلك على اللَّهِ، وهذه عادةُ كُلِّ الأنبياءِ، يُبَلِّغُونَ العلمَ من غيرِ أن يَأْخُذُوا عليه جُعْلاً ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا﴾ [يس: الآيتان ٢٠، ٢١] ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ [سبأ: آية ٤٧] وقد ذَكَرَ اللَّهُ قصصَ الأنبياءِ في سورةِ الشعراءِ (٢)،
قصةَ نُوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: آية ١٠٩] وَذَكَرَ فِي (هودٍ) عَنْ نُوحٍ: {وَيَا قَوْمِ
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٣١).
(٢) كما في الآيات (١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠)..
عبادة بن الصامت، إلا أن الجمهور الذين قالوا: إن قتله ليس بكفر، قالوا: إن النبي - ﷺ - سَمَّاهُ كُفْراً، ولَكِنَّهُ قد يجيء في الشرع تسمية أشياء بالكفر وليست بمُخْرِجَة عن الإسلام، كقوله: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» (١) والمراد: أنه ليس بكفر حقيقي، وكقوله - ﷺ -: «إِنِّي رَأَيْتُ النَّارَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاء». قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بِكُفْرِهِنَّ» هذا ثابت في الصحيح. فلما استُفسر عن كفرهن، قال: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ» (٢)
واسْتَدَلوا بعموم الآيات،
_________
(١) أخرجه البخاري في الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، حديث رقم: (٤٨)، (١/ ١١٠)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديث: (٦٠٤٤، ٧٠٧٦)، ومسلم في الإيمان، باب بيان قول النبي - ﷺ -: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» حديث رقم: (٦٤)، (١/ ٨١).
(٢) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) منهم:
١ - ابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقصان الطاعات، حديث رقم (٧٩)، (١/ ٨٦).
٢ - أبو سعيد الخدري (رضي الله عنه) عند البخاري في كتاب الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، حديث رقم: (٣٠٤)، (١/ ٤٠٥)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (١٤٦٢، ١٩٥١، ٢٦٥٨)، ومسلم في صلاة العيدين، حديث رقم: (٨٨٩)، (٢/ ٦٠٥).
وراجع في حديث أبي سعيد أيضاً: البخاري، الأحاديث: (١٠١، ١٢٤٩، ٧٣١٠)، ومسلم حديث رقم: (٢٦٣٣).
٣ - زينب امرأة ابن مسعود عند الترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة الحُلِي، حديث رقم: (٦٣٥، ٦٣٦)، (٣/ ١٩).
وأصله في الصحيحين: البخاري في الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، حديث رقم: (١٤٦٦)، (٣/ ٣٢٨)، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، حديث رقم: (١٠٠٠)، (٢/ ٦٩٤).
والغضبُ وصْفٌ وَصَفَ اللهُ به نفسَه إذا انْتُهِكَتْ حرماتُه. فنحن معشرَ المسلمين نَمْشِي على ما كان عليه السلفُ الصالحُ نُمِرُّ كُلَّ الصفاتِ كما جاءت، ونصدقُ رَبَّنَا فيما وَصَفَ به نفسَه مع التنزيهِ التامِّ الكاملِ عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقين، على نحوِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١] كما أوضحناه في آيةِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: آية ٥٤].
ثم قال لهم نَبِيُّ اللهِ هودٌ: ﴿أَتُجَادِلُونَنِي﴾ معناه: تُخَاصِمُونَنِي وَتُنَازِعُونَنِي: ﴿فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ أنا أدعوكم إلى عبادةِ الواحدِ الجبارِ، خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي هو يرزقُكم وَيُمِيتُكم ويحييكم، وأنتم تخاصمونَني وتجادلونَني لتعبدوا أسماءً بلا مسمياتٍ، لا حقيقةَ لها، لا تنفعُ ولا تضرُّ، فهذا أمرٌ جديرٌ بأن يُنْكَرَ.
والمجادلةُ: المخاصمةُ. قال بعضُ العلماءِ: أصلُ اشتقاقِها من (الْجِدَالةِ)، والجِدَالةُ: الأرضُ، وجدَّلَه: إذا تَرَكَهُ صريعًا في الأرضِ. قالوا: كأن المتضاربَيْن في الخصامِ كُلٌّ منهما يريدُ أن يُسْقِطَ صاحبَه حتى يُجَدِّله. هكذا قال بعضُهم واللَّهُ أعلمُ (١).
﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ﴾ أي: في أصنامِكم، وإنما هي أسماءٌ بلا مسمياتٍ؛ لأنكم تزعمونَ أنها آلهةٌ، وأنها معبوداتٌ!! ومعنَى الإلهيةِ واستحقاقِ العبادةِ مَنْفِيٌّ عنها نَفْيًا بَاتًّا، فهي اسمٌ بلا مُسَمًّى؛ شيءٌ اخْتَلَقَتْهُ ألسنتُكم لا حقيقةَ له في نفسِ الأمرِ. تُجَادِلُونَنِي فيها زاعمينَ أنها لا بُدَّ أن تُعْبَدَ مع اللهِ، وأنها شركاءُ له يُصْرَفُ لها من الحقوقِ كما يُصْرَفُ له.
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: جدل) ص١٨٩.
انتهيت من طوافك فأتنا. فلما أتاهم قال له أبو جهل: يا أبا الفضل متى حَدَثَتْ فيكم هذه النبية الجديدة؟! أما كفاكم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! هي قالت: إنّا ننفر إلى مصارعنا في ثلاث، فسننتظر هذه الثلاث، وإن انقضت ولم يكن فيها شيء كتبنا عليكم أنكم أكذب بيت من العرب، فالعباس في ذلك الوقت لم يغضب ولم يقل شيئًا إلا أنه أنكر وجحد أن أخته رأت شيئًا، فلما كان بالليل ورجع إلى أهله وجد نساء بني عبد المطلب كلهن في شدة الغضب، وقلن له: هذا الفاسق يسب رجالنا ثم شرع يسب نساءنا وأنت لا تغيّر شيئًا؟! فأوغرن صدره عليه، وغضب العباس وندم على ما فات منه، وأصبح ينوي التعرض لأبي جهل لإن عاد إلى ذلك لينتقمن منه، وكان ذلك هو اليوم الثالث من أيام الرؤيا، فجاءه في المسجد يتعرض إليه وأبو جهل مشغول؛ لأنه يسمع صوت ضمضم بن عمرو والعباس لا يسمعه، كان أبو جهل حديد السمع، فرآه مشغولاً حتى وثب إلى باب المسجد فإذا ضمضم على بعيره يقول: «اللطيمة، اللطيمة». إلى آخر ما ذكرنا (١)،
فاشتغلوا وتجهزوا سراعًا إلى النبي ﷺ وقالوا: يظن محمد أنها كعِير ابن الحضرمي!! لا والله ليكونن غير ذلك، ثم إنهم تجهزوا مسرعين ولم يبق من أشراف قريش أحد.
وتخلف من أشرافهم: أبو لهب بن عبد المطلب -قبحه الله- واستأجر العاص بن هشام بن المغيرة لِدَيْنٍ كان له عليه، أنه يذهب مكانه وبدله إلى بدر-قبحه الله- ثم إنهم لما تهيؤوا للسفر قالوا: إن بينكم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة حربًا، إن خرجتم عن
_________
(١) ابن هشام ٦٤٤ - ٦٤٧..
أخرتُ عنكم حرمةَ المحرمِ إلى صفرٍ فَقَاتِلُوا في المحرمِ، ثم حَرِّمُوا مكانَه صَفَرًا ويأتِي في العامِ القابلِ ويقولُ مثل مقالتِه: أنا الذي لاَ أُجَابُ ولاَ أُعَابُ، ولا مردَّ لِمَا أقولُ، قد حَرَّمْتُ هذا العامَ مُحَرَّمًا وَأَبَحْتُ صَفَرًا. كما هي العادةُ، فيحلُّ لهم المحرَّم عامًا ويحرِّم مكانَه صَفَرًا، ويحرِّم المحرَّم عامًا ويتركُ الأشهرَ على حَالِهَا (١). وهذا مُوَافِقٌ لقولِه: ﴿يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾ وموافقٌ لقولِه: ﴿لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [التوبة: آية ٣٧] أما الصورُ الأخرى فلا تتفقُ مع الآيةِ.
أما الذين زَعَمُوا أنه يقولُ لهم في بعضِ السنينَ: حللتُ لكم المحرمَ وَصَفَرًا معًا فَهُمَا صفرانِ، لا محرمَ في هذه السنةِ، وإنما فيها صفرانِ. فيحلُّ لهم المحرمَ ويتركُ صفرًا على حلالِه الأصليِّ، وفي السنةِ القابلةِ يقولُ: هُمَا مُحَرَّمَانِ، المحرمُ الذي كان حرامًا، وصفرٌ بدلَ المحرمِ الذي حَرَّمْنَاهُ في السنةِ القابلةِ. فهذا وإن قال به جماعةٌ كبيرةٌ من العلماءِ (٢) فهو لاَ يصحُّ؛ لأنهم على هذا القولِ في إحدى السَّنَتَيْنِ ما حرَّموا إلا ثلاثةَ أشهرٍ، والأشهرُ الحرمُ أربعةٌ، وفي السنةِ الثانيةِ حَرَّمُوا خمسةَ أشهرٍ، فلم يُوَاطِئُوا ما حَرَّمَ اللَّهُ لاَ في السنةِ الأُولَى ولا في السنةِ الثانيةِ. وكذلك قولُ مَنْ قَالَ: إنهم كانوا يُسَمُّونَ صَفَرًا مُحَرَّمًا، ويسمونَ ما بعد صفرٍ صفرًا، وكلُّ شهرٍ يسمونَه باسمِ ما بعدَه، وَيَحُجُّونَ في كُلِّ شهرٍ عَامَيْنِ، وأن حَجَّةَ أبِي بكرٍ عامَ تسعٍ، وَافَقَتْ ذَا القعدةِ، وأن أبا بكر حَجَّ بالناسِ عامَ ذِي القعدةِ، وأن النبيَّ ﷺ حَجَّ بالناسِ حجَّة موافِقة ذَا الحجةِ، وأن هذا معنَى
_________
(١) تقدم عند تفسير الآية (٣) من سورة الأعراف.
(٢) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٤٩)، القرطبي (٨/ ١٣٩)، ابن كثير (٢/ ٣٥٦).


الصفحة التالية
Icon