لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود: آية ٢٩] وهذه عادةُ الرسلِ يُبَلِّغُونَ وَيَبْذُلُونَ العلمَ والنصائحَ والخيرَ مَجَّانًا من غيرِ عِوَضٍ في ذلك، وهذا معنَى قولِه: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ لاَ أَطْلُبُ منكم جُعْلاً في مقابلةِ هذا الذي أَتَيْتُكُمْ به، كما قال تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ [القلم: آية ٤٦] وَاللَّهُ (جل وعلا) مَنَعَ على الأنبياءِ أن يأخذوا جُعْلاً في مقابلةِ التبليغِ؛ لأنهم لو أَخَذُوهُ لكانوا يتهمونهم ويقولونَ: يَأْتِي بهذه الدعوى التي جَاءَ بها لأَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ؛ ولئلاَّ تثقل الناس من المغارمِ؛ لأَنَّ النفوسَ مَجْبُولَةٌ على بُغْضِ الْمَغْرَمِ، كما قال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ [القلم: آية ٤٦]، ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ [سبأ: آية ٤٧]، أما قَوْلُهُ: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: آية ٢٣] فالتفسيرُ الصحيحُ الذي عليه جمهورُ الْمُفَسِّرِينَ، وأكثرُ علماءِ السلفِ (١): أن النبيَّ - ﷺ - له في كُلِّ فَخِذٍ مِنْ قريشٍ قرابةً. ومعنَى الآيةِ: ﴿لاَّ أَسْأَلُكُمْ﴾ على هذا الذي جِئْتُكُمْ به من الفضلِ ﴿أَجْرًا﴾، جُعْلاً وَلاَ شَيْئًا ﴿إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ إِلاَّ أَنْ تَوَدُّونِي في قَرَابَتِي منكم، وَتُرَاعُوا فِيَّ حَقَّ القرابةِ، فلاَ تُؤْذُونِي. وهذا مضمونٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ.
وفي الآيةِ أقوالٌ: مِنْهَا ما رُوِيَ عن جماعةٍ مِنْ آلِ البيتِ، وجماعةٍ من العلماءِ، أن المعنَى: إلا أَنْ تُوَدُّونِي في قَرَابَتِي، فَتُرَاعُونِي فِيهِمْ (٢). هذا الوجهُ الآخَرُ في الآيةِ، والأولُ هو المشهورُ، وبقيةُ الأوجهِ ضعيفةٌ. وإذا كان لا يَطْلُبُ أَجْرًا إلا الشيءَ المبذولَ للأَسْوَدِ والأحمرِ من مودةِ كُلِّ قريبٍ لِقَرِيبِهِ تُبَيِّنُ أنه لا يطلبُ أَجْرًا،
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢٥/ ٢٣).
(٢) انظر: القرطبي (١٦/ ٢١)، الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ص٢٥٨.
كقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: آية ٤٨] فالحاصل أن جمهور العلماء وفقهاء الأمصار -منهم الأئمة الثلاثة- على أن تارك الصلاة يُقْتَل؛ لأن الله يقول: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: آية ٥].
أما مانع الزكاة فإنه يقاتل، يُقال له: أخرج الزكاة، فإن أبَى أُخرجت قسراً عليه، فإن مَنَعَها قُوتل دونها (١)، والقتال غير القَتْل، وهو الذي فعله أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) مع مانعي الزَّكَاة، قاتلهم، فالذي يُفعل بمانع الزكاة قِتال لا قتل؛ لأنه يُؤْمَر بإِخْرَاجِهَا، فإن أبَى أُخِذَت منه قَهْراً، فإن جاء دونها قُوتل حتى يُقْتَل، هذا هو المعروف.
وفي كون تارك الصلاة يُقْتَل عند الجمهور، عند من يقول إنه يُقْتَل كُفْراً، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد، وهو رواية عن مالك، ودلت عليه أحاديث صريحة صحيحة في صحيح مسلم وغيره أنه كافر، وعلى قول مالك والشافعي: أنه يُقتل حدّاً، قالوا: لم يُعْرَف عن السلف أن الذي كان لا يصلي أنهم لا يَرِثُون بعده، ويجعلونه كالكافر المُرْتَدّ الذي يُرد نصف ماله إلى بيت مال المسلمين، هكذا قالوا، والخلاف مشهور، فبهذا نعلم أن تارك الصلاة: الشرع يقتله، وأن الحياة التي يعيش بها ليست حياة شرعية، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حسّاً، فمثال تارك الصلاة عند أرْبَابِ العُقُولِ مثال الميتة، الإنسان الميت الذي هو منتن في ريحه، فيمشي بين الناس يأكل
_________
(١) انظر: المغني (٢/ ٤٣٥ - ٤٣٨).
﴿سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ هم الذين اخترقوا لها هذه الأسماءَ بلا مسمياتٍ، إِذِ الأسماءُ التي وَضَعْتُمْ لها ليس لها أساسٌ من الحقيقةِ ولاَ من الصحةِ. فليست بآلهةٍ ألبتةَ، وليست بمستحقةٍ للعبادةِ ألبتةَ، كما صَرَّحَ اللهُ بذلك في قولِه: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ [يونس: آية ٦٦] يعني: هؤلاء الذين يتبعونَهم ليسوا شركاءَ ألبتةَ في الحقيقةِ.
ثم قال: ﴿مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ لأن هذه الآلهةَ التي تعبدونَ ﴿مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا﴾ أي: بعبادتِها واستحقاقِها للعبادةِ ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أي: من حُجَّةٍ واضحةٍ أبدًا، بل الذي نزَّله اللهُ من الحججِ القاطعةِ مَنْعَ عبادتِها، وكُفْرَ عابدِها، وخلودِه في النارِ.
ثم قال: ﴿فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾ انتظرُوا ماذا يحدثُ عليكم من اللهِ وهو الغضبُ والهلاكُ الذي وعدتُكم به أنه وَجَبَ وحقَّ عليكم.
﴿إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ وسوفَ تعلمونَ عن طريقِ ذلك الانتظارِ هل يقعُ عليكم ما وعدتُكم به أو لا يقعُ. وهو تهديدٌ عظيمٌ.
ثم إن اللهَ بَيَّنَ مصيرَ الجميعِ، قال: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ [الأعراف: آية ٧٢] فَأَنْجَيْنَا هودًا والذين آمنوا معه - وهم طائفةٌ قليلةٌ - أنجيناهم برحمةٍ مِنَّا. وذلك الإنجاءُ من عذابٍ شديدٍ، كما قال تعالى في سورةِ هودٍ: ﴿وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [هود: آية ٥٨].
دياركم لعل بني بكر أن تأتي بلدكم بعدكم وتأخذ نساءكم وصبيانكم وأموالكم ليس دونهم رجال، وكان بين قريش وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة حرب (١) سببها أن رجلاً من بني عامر بن لؤي وهو ابن لحفص - رجلٌ من بني عامر بن لؤي، أخو مكرز بن حفص (رضي الله عنه) الصحابي المشهور- كان قتله رجل من بني بكر بن كنانة، فأخذ مكرز بن حفص بثأره فقتل الكناني، فصارت بين قريش وبين كنانة قاتل ومقتول، وصارت بينهم حرب، فلما خافوا كنانة جاءهم إبليس اللعين علنًا متمثلاً لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم (رضي الله عنه)، وهو الذي ساخت به قوائم فرسه لما تبع النبيّ ﷺ في سفر الهجرة، وهو سراقة بن مالك بن جعشم (رضي الله عنه) صار من أصحاب رسول الله - أسلم - وهو سيد بني مدلج من بني بكر بن كنانة، جاء الشيطان في صورته، وهم يعرفون سراقة، كأنه سراقة لا ينكرون منه شيئًا، وهو الشيطان متمثل في صورة ذلك الرجل، وقال لهم: أنا سراقة بن مالك بن جعشم، إني جار لكم من كنانة، لا يمكن أن يصلوا إليكم بسوء.
كما سيأتي تفاصيل هذا في هذه السورة الكريمة؛ لأنه قال: ﴿لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٨] هو الشيطان لما تمثل لهم بصورة سراقة بن مالك (رضي الله عنه)، ولم يزل معهم يَقِيلُ معهم حيث قالوا، ويبيت معهم حيث باتوا، حتى تراءى الجمعان يوم بدر، ورأى الشيطَان الملائكة ينزلون من السماء -لنصر دين الله- لما رأى الملائكة خاف القبيح وقال لهم: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ﴾ نكص على
_________
(١) المصدر السابق ص٦٤٨.
استدارةِ الزمانِ كهيئتِه يومَ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ (١).
فهذا لاَ شَكَّ في أنه فَاسِدٌ باطلٌ؛ لأن اللَّهَ صَرَّحَ في كتابِه بقولِه في حجةِ أبِي بكرٍ بالناسِ عامَ تِسْعٍ: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ [التوبة: آية ٣] وقد أذن ببراءة عَلِيٍّ (رضي الله عنه) وَمَنْ معَه يومَ الحجِّ الأكبرِ، ومعلومٌ أن اللَّهَ لاَ يُنْزِلُ في كتابِه يومَ الحجِّ الأكبرِ يريدُ أنه مِنْ ذي القعدةِ! فهذا من الباطلِ الذي لاَ شَكَّ فيه، فهذا كُلُّهُ لاَ يصحُّ، فالتحقيقُ أن هذه الصورةَ التي نَزَلَ بها القرآنُ التي كان يفعلُ لهم الكنانيونَ أنهم سَنَةً يُحَرِّمُونَ صَفَرًا ويحلونَ المحرَّم مكانَه، وفي سَنَةٍ يُبْقُونَ الأمرَ على حالِه فيحلونَ المحرَّم سَنَةً ويحرِّمونه سنةً ويواطئوا بذلك - يوافقوا - عدةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، وهي أربعةُ أشهرٍ من السنةِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾.
العامُ: السنةُ، والألفُ التي في مكانِ عينِه منقلبةٌ عن واوٍ، فَيُكَسَّرُ على (أعوامٍ) فعينُه واوٌ.
﴿لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [التوبة: آية ٣٧] المواطأةُ: الموافقةُ، أي لِيُوَافِقُوا عدةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ؛ لأن اللَّهَ حَرَّمَ أربعةَ أشهرٍ من السنةِ فَهُمْ يُحَرِّمُونَ قدرَ ما حَرَّمَ اللَّهُ إلا أنهم يعصونَ اللَّهَ بتغييرِه عن محلِّه، فالعدةُ هي العدةُ وَلَكِنَّ عينَ الزمانِ ليست هي عينَ الزمانِ، فهم يصيبونَ في العدةِ ويخطئونَ في تعيينِ المعدودِ، ومن هنا كانوا عصاةً بذلك. هذا هو الصحيحُ في معنَى الآيةِ الذي لا إشكالَ فيه، والصورُ الأُخَرُ فيها نظرٌ، ليست بصوابٍ، وإن قال بها مَنْ قال بها من
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٤٨)، القرطبي (٨/ ١٣٧)، ابن كثير (٢/ ٣٥٦ - ٣٥٧).


الصفحة التالية
Icon