لو كان يخلقُ الخلقَ ولا يُكَلِّفُهُمْ ولاَ يُجَازِيهِمْ كَانَ خَلْقُهُ إياهم كأنه مِنَ الْعَبَثِ، وَمَنْ ظَنَّ أن اللَّهَ يفعلُ هذا لاَ لِحِكْمَةٍ فَوَيْلٌ لَهُ مِنَ النَّارِ، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: آية ٢٧] ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ [الدخان: الآيتان ٣٨، ٣٩] وقال جل وعلا: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: آية ١١٥] ثُمَّ نزَّه نفسَه عن هذا - وهو محلُّ الشاهدِ - فقال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: آية ١١٦] تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عن أن يخلقَ هذا العالمَ عَبَثًا من غيرِ تكليفٍ ولاَ جزاءٍ، لا يكونُ ذلك أبدًا. وَمِنْ هنا لَمَّا قالوا: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وليست هنالك كُتُبٌ على ضَوْئِهَا التكاليفُ والجزاءُ، بَيَّنَ اللَّهُ أنهم ما قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، ما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَلاَ عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حيث يتركُ هذا العَالَمَ سُدًى عَبَثًا: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: آية ٣٦] لاَ وَكَلاَّ. ثم قَالَ: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى﴾ وفي القراءةِ الأُخْرَى: ﴿يُمْنَى﴾ (١)
﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾ [القيامة: الآيات ٣٦ - ٣٨] فهؤلاء الذين نَفَوْا إنزالَ الكتبِ على الرسلِ وتكليفَ الخلائقِ ومجازاتِهم، هؤلاء ظَنُّوا باللَّهِ أنه خَلَقَ الخلقَ عَبَثًا، ولم يَخْلُقْهُ لِلْحِكَمِ البالغةِ، فما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، ولا عَرَفُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ ﴿إِذْ قَالُوا﴾ حِينَ قَالُوا: ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: آية ٩١] المعروفُ عندَ جماعةِ المفسرين: أن مالكَ بنَ الصيفِ لَمَّا قال: ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ﴾ قالوا: إِنَّ قَوْمَهُ قالوا: كيفَ تُنْكِرُ إنزالَ شيءٍ على أحدٍ
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ٤٥٣..
أما حديث ابن ماجه، وهو من رواية داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس (١). وبعض علماء الحديث يقولون: داود بن الحصين ثقة في غير عكرمة، كما هو معروف في محله (٢). ففي ظاهر حديث ابن عباس هذا الذي أقلّ درجاته الحُسْن أخذ بعض العلماء، فقال: يُقتل الزاني بالبهيمة، وتُقتل البهيمة معه. ومن العلماء من يقول: لا يُؤكل لحمها، ومنهم من يقول: يُؤكل لحمها، كما هو معروف في الفروع (٣)،
وأكْثَر العلماء يقولون: مَنْ زَنَى بِبَهِيمَةٍ لا يُقْتَل؛ لأن حديث ابن مسعود الذي حصر أكْثَر القتل في ثلاث لا يُنقَض حصْرُهُ بهذا الحديث الذي سَنَدُهُ أضْعَف منه (٤).
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق (١٣٤٩٢)، وأحمد (١/ ٢٦٩، ٣٠٠)، وأبو داود في الحدود، باب فيمن أتى بهيمة، حديث رقم: (٤٤٤٠)، (١٢/ ١٥٧) وقال: «ليس هذا بالقوي» اهـ. والترمذي في الحدود، باب ما جاء فيمن يقع على البهيمة، حديث رقم: (١٤٥٥)، (٤/ ٥٦)، وابن ماجه في الحدود، باب من أتى ذات محرم، ومن أتى بهيمة، حديث رقم: (٢٥٦٤)، (٢/ ٨٥٦)، والبيهقي (٨/ ٢٣٢، ٢٣٣، ٢٣٤)، والحاكم (٤/ ٣٥٥)، والدارقطني (٣/ ١٢٦ - ١٢٧)، وأبو يعلى (٢٤٦٢، ٢٧٤٣)، (٤/ ٣٤٦ - ٣٤٧، ٥/ ١٢٨ - ١٨٩) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) قال الحافظ في التلخيص (٤/ ٥٥): «وفي إسناد هذا الحديث كلام» اهـ. وانظر: الدراية (٢/ ١٠٤)، نصب الراية (٣/ ٣٤٢)، الإرواء (٨/ ١٣)، صحيح أبي داود (٣/ ٨٤٤)، صحيح ابن ماجه (٢/ ٨٣)، صحيح الترمذي (٢/ ٧٥).
(٢) انظر: تهذيب التهذيب (٣/ ١٥٧)، التقريب ص (٣٠٥).
(٣) انظر: المغنى (١٠/ ١٦٤ - ١٦٥)..
(٤) المصدر السابق: (١٠/ ١٦٣ - ١٦٤).
رَقَّ لأخوالِه وأصهارِه عادٍ، وَأَسَاءَتْهُ حالةُ وَفْدِهِمْ، ولم يَقْدِرْ أن يُبَيِّنَ لهم شيئًا لئلا يظنوا أنه مُسْتَثْقِلٌ بضيافتِهم، فاستشارَ قينتيه فَقَالَتَا: قُلْ شعرًا تنبههم به ونغنيهم بذلك الشعرِ لينتبهوا، وأن معاويةَ بنَ بكرٍ ابتدعَ الشعرَ المذكورَ المعروفَ الذي نَبَّهُهُمْ به، وأن الجرادتين [غنتاهم] (١) بذلك الشعرِ، [وأنهم لما غنتاهم] (٢) الجرادتان به انتبهوا وذهبوا إلى بيتِ اللهِ الحرامِ فقام قَيْل يدعو عندَ البيتِ، ويزعمُ المؤرخونَ والمفسرونَ أنه طَلَعَتْ سَحَابَاتٌ، وناداه منادٍ: اخْتَرْ أيها شِئْتَ؟! وأنه اخْتَلَى السوداءَ، وأنه سَمِعَ فيها قائلاً يقولُ: اخْتَرتَ رمادًا رمددًا، لا يترك من عادٍ أحدًا، لا والدًا ولا ولدًا. وأن تلك السحابةَ ذَهَبَتْ إليهم وجاءت مِنْ قِبَلِ وادٍ لهم يسمونَه: المغيثَ، ففرحوا بها وقالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: آية ٢٤] ويزعمُ المؤرخونَ أن منهم امرأةً تُسَمَّى: مميد (٣)، أنها صُعِقَتْ، فلما أَفَاقَتْ قالوا: ما بَالُكِ؟ قالت: رأيتُ في العارضِ الذي تظنونه مطرًا شيئًا كالنارِ مَعَهُ رياحٌ، تَقُودُهُ رجالٌ، وفيه هلاكٌ. فأرسل اللهُ عليهم الريحَ العقيمَ، ما تذرُ من شيءٍ أَتَتْ عليه إلا جَعَلَتْهُ كالرميمِ، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧)﴾ [الحاقة: الآيتان ٦، ٧] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ.
والشعرُ الذي اخترعَه معاويةُ بنُ بكرٍ وَنَبَّهَ به وفدَ العاديين هو
_________
(١) في الأصل: «غنتهما».
(٢) في الأصل: «وأنهما لما غنتهما».
(٣) هكذا في تفسير ابن كثير (٢/ ٢٢٦)، وفي البداية والنهاية (١/ ١٢٧): (فهد). وفي تفسير ابن جرير (١٢/ ٥١٢)،: (مَهْدَد).
ما ذكرنا عن أبي لهب - قبحه الله - وذكر أصحاب المغازي المطعمين منهم (١) فقالوا: عندما خرجوا من مكة نحر لهم أبو جهل عمرو بن هشام -قبحه الله- عشرًا من الإبل، ثم من الغد نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعًا من الإبل؛ لأنهم يومًا ينحرون عشرًا ويومًا تسعًا، ثم نحر لهم بقديد سهيل بن عمرو عشرًا من الإبل، ثم من قُديد ذهبوا إلى المياه إلى جهة ساحل البحر فأقاموا هناك يومًا، فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعًا من الإبل، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشرًا من الإبل، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم منبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان عشرًا من الإبل، ثم نحر لهم العباس عشرًا من الإبل، ونحر لهم أبو البختري بن هشام على ماء بدر عشرًا من الأبل، وأرسل لهم إيماء بن رحفة الغفاري عشرًا من الإبل. وغير ذلك كانوا يأكلون من أزوادهم، فلما نجى أبو سفيان أرسل إلى قريش: أن ارجعوا فإنكم كنتم تريدون أن تمنعوا أموالكم وعيركم وقد نجاها الله فارجعوا فلا حاجة لكم بقتال محمد وأصحابه. فقال اللعين أبو جهل: والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، وتعزف علينا القيان، ونشرب الخمور، وتسمع العرب بنا فتهابنا. وكانت بدر موسمًا من مواسم العرب في الزمن القديم، وكان الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، فلما سلمت العير ونجت وكان فيها رجل واحد من بني زهرة، بعضهم يقول: هو مخرمة بن نوفل، فقال الأخنس بن شريق: والله لترجعن يا بني زهرة، وهذا ابن بنتكم إن غلب الناس كُلاً فَعِزُّهُ وشرفه لكم، وإن غلبته العرب كفتكم إياه. فرجع ببني زهرة ولم يشهدها زهري أبدًا، ولم يخرج من مكة فيها عدوي أبدًا، فبنو عديّ وبنو زهرة
_________
(١) ابن هشام ص٧٠٧.
السؤالُ أجابَ عنه جماعةٌ من العلماءِ بما مُلَخَّصُهُ في نُقْطَتَيْنِ وَهُمَا (١):
أن حصارَ النبيِّ ﷺ لثقيفٍ كان ابتداؤُه في شهرٍ حلالٍ، والدوامُ قد يغتفرُ فيه ما لا يغتفرُ في الابتداءِ؛ لأن مِنَ المسائلِ ما يُحَرَّمُ فيها الابتداءُ ولا يحرمُ فيها الدوامُ، ألا تَرَوْنَ أن الرجلَ الْمُحْرِمَ لا يجوزُ له أن يبتدئَ تزويجًا، ولو تزوجَ قبل إحرامِه ثم أَحْرَمَ لم يَنْفَسِخْ تزويجُه بهذا الإحرامِ الطارئِ على تزويجِه، وكذلك الإحرامُ يُمْنَعُ ابتداءُ الطِّيبِ فيه، فلو كان مُتَطَيِّبًا قبلَه، لاَ يمنعُ الدوامَ على الطِّيبِ الأولِ الإحرامُ عندَ جماهيرِ العلماءِ، فالشاهدُ أن الدوامَ في بعضِ الصورِ قد يُغْتَفَرُ فيه ما لا يُغتفر في الابتداءِ، وفي هذه الصورةِ يتأكدُ بشيءٍ آخَرَ وهو ما قَدَّمْنَا في كلامِنا على غزوةِ حُنَيْنٍ (٢) في تفسيرِ آيةِ: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ [التوبة: آية ٢٥] أن النبيَّ ﷺ لَمَّا فَتَحَ مكةَ في رمضانَ عامَ ثمانٍ، ولم يكن يريدُ أن يغزوَ هوازنَ، سَمِعَ أن مالكَ بنَ عوفٍ النصريَّ، سيدَ هوازنَ جَمَعَ مَنْ أَطَاعَهُ من هوازنَ وفيهم ثقيفٌ؛ لأن ثقيفًا من هوازنَ؛ لأن ثقيفَ بْنَ منبهِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ بنِ منصورٍ، وأنهم تَجَمَّعُوا له يريدونَ حربَه، فَهُمُ الذينَ بدؤوا بإرادةِ الحربِ، ولم يَكُنِ النبيُّ ﷺ قَاصِدًا حربَهم في ذلك الوقتِ قبلَ ذلك، فَلَمَّا هَزَمَهُمُ النبيُّ ﷺ يومَ حنينٍ واستفاءَ أموالَهم، رَجَعَ فَلُّهُمْ (والفَلُّ بقيةُ المنهزمينَ) فَتَحَصَّنُوا بحصنِ الطائفِ.
فحصارُه ﷺ للطائفِ ليستنزلَ الذين كانوا يقاتلونَه في غزوةِ حنينٍ من تمامِ غزوةِ حنينٍ، وكانوا هم
_________
(١) انظر: تفسير ابن كثير (٢/ ٣٥٦).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon