من البشرِ وأنتَ تعلمُ أن التوراةَ أُنْزِلَ على مُوسَى (١)؟ يَذْكُرُونَ في قصتِه أنه كانَ حَبْرَهُمْ، وأنهم خَرَّجُوهُ بسببِ هذا، وَوَضَعُوا بعدَه كعبَ بنَ الأشرفِ، أو عبدَ اللَّهِ بْنَ صُورِيَا الأعورَ، كما هو مذكورٌ في التاريخِ.
والعلماءُ في هذا يقولونَ: إن مناظرةَ هذا اليهوديِّ أو غيرِه أنها متطبقةٌ على المناظرةِ الاصطلاحيةِ تَمَامًا؛ لأَنَّ هذا اليهوديَّ قال: ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ﴾ فهذه المقدمةُ التي جاء بها هي التي تُسَمَّى في الاصطلاحِ: (كُلِّيَةٌ سَالِبَةٌ). وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ حَذَفَ مقدمةً أُخْرَى، وأنه يَقْصِدُ: أنتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جُمْلَةِ البشرِ، والبشرُ جَمِيعُهُمْ - بالعنوانِ الأَعَمِّ الذين أنتَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ - ما أَنْزَلَ اللَّهُ عليهم مِنْ شَيْءٍ. ينتجُ من ذلك: أنتَ لَمْ يُنْزَلْ عليكَ شيءٌ، حيثُ كنتَ داخلاً في جملةِ البشرِ، وحيثُ إن البشرَ بالعنوانِ الأَعَمِّ حُجِبَ عن جميعِهم إنزالُ شيءٍ. ينتظمُ مِنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: أنتَ لَمْ يُنْزَلْ عليك شَيْءٌ!! وقد تَقَرَّرَ في فنونِ المناظرةِ: أن (السالبةَ الكليةَ) إنما تَنْقُضُهَا (مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ). فَالْخَصْمُ إذا أَرَادَ نقضَ كلامِ خَصْمِهِ؛ إذا كان مَبْنَى كلامِ خَصْمِهِ على (سَالِبَةٍ كُلِّيَّةٍ)؛ إنما يَنْقُضُهَا بـ (مُوْجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ)، كما هو معروفٌ. قالوا: وَلِذَا قال اللَّهُ: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ أَنْتَ قُلْتَ: ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ مَنْ هو الذي أَنْزَلَ الكتابَ الذي هو التوراةُ على مُوسَى؟! فهذا في قوةِ: مُوسَى بَشَرٌ، وأنتم يا يهودُ تُسَلِّمُونَ بشريةَ مُوسَى، مُوسَى أُنْزِلَ عليه الكتابُ، وهو التوراةُ، فَأَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ بَشَرِيَّتَهُ، ونزولَ الكتابِ عليه. ينتجُ:
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٢٢).
وزادوا أيضاً: فاعل فاحشة اللواط، فإنه جاء حديث عن النبي - ﷺ -: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بِهِ» (١)
وهذا الحديث أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم وغيرهم، وصحَّحه بعض الحفاظ، وبه عمِل جماعة من العلماء، قالوا: إن من فعل فاحشة قوم لوط إنه يُقتل الفاعل والمفعول معاً، ففي هذا الحديث زيادة على الثلاثة، فهذه أشْيَاء دَلَّتْ عَلَيْهَا نصوص أُخَر اختلف فيها العلماء، فمن يقول: إن صاحبها يُقتل. يقول:
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق (١٣٤٩٢)، وأحمد (١/ ٣٠٠)، وأبو داود في الحدود، باب فيمن عَمِل عَمَل قوم لوط، حديث رقم: (٤٤٣٨)، (١٢/ ١٥٣)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي، حديث رقم: (١٤٥٦)، (٤/ ٥٧)، وابن ماجه في الحدود، باب من عَمِلَ عَمَل قوم لوط (٢٥٦١)، (٢/ ٨٥٦)، والدارقطني (٣/ ١٢٤)، والبيهقي (٨/ ٢٣٢)، والحاكم (٤/ ٣٥٥)، وأبو يعلى (٢٤٦٣، ٢٧٤٣)، (٤/ ٣٤٨، ٥/ ١٢٨ - ١٢٩)، وابن الجارود (٢/ ١١٩ - ١٢٠) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) وانظر: الدراية (٢/ ١٠٣)، نصب الراية (٣/ ٣٣٩)، والإرواء (٨/ ١٦ - ١٧)، صحيح أبي داود (٣/ ٨٤٤)، صحيح الترمذي (٢/ ٧٦)، صحيح ابن ماجه (٢/ ٨٢ - ٨٣)، المشكاة (٣٥٧٥)، وضعفه الحافظ في الفتح (١٢/ ٢٠٤).
وجاء نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند الترمذي في الحدود، باب ما جاء في حَدِّ اللوطي (٤/ ٥٨). وقال: «هذا حديث في إسناده مقال، ولا نعرف أحداً رواه عن سهيل بن أبي صالح غير عاصم بن عمر العمري، وعاصم بن عمر يُضعف في الحديث من قِبَل حفظه» اهـ.
قال الحافظ في التلخيص (٤/ ٥٤): «وإسناده أضعف من الأول -يعني حديث ابن عباس- بكثير» اهـ. وقال أيضاً (٤/ ٥٥): «وحديث أبي هريرة لا يصح» اهـ. وكذلك ضعفه في الفتح (١٢/ ٢٠٤).
وانظر: نصب الراية (٣/ ٣٤٠)، الدراية (٢/ ١٠٣)، والإرواء (٨/ ١٧).
قولُه فيما يَذْكُرُ المفسرونَ وأصحابُ السيرِ والأخبارِ، أنه قال (١):
أَلاَ يَا قَيْلَ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ... لَعَلَّ اللَّهَ يَسْقِينَا غَمَامَا...
فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا... قَدَ امْسَوْا لاَ يُبِينُونَ الْكَلاَمَا...
مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو... بِهِ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَلاَ الْغُلاَمَا...
وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ... فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ أَيَامَا...
وَإِنَّ الْوَحْشَ تَأْتِيهِمْ جِهَارًا... وَلاَ تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا...
وَأَنْتُمُ هَا هُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ... نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا...

قَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ وَلاَ لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلاَمَا
هكذا يزعمُه المفسرونَ والمؤرخونَ، ويزعمونَ أَنَّ وقتَ إهلاكِ عادٍ أن الذين على مكةَ أنهم العمالقةُ. والناظرُ في التاريخِ يَسْتَرِيبُ في هذا ولا يُصَدِّقُهُ؛ لأن المعروفَ في التاريخِ أن بيتَ اللهِ الحرامَ لَمَّا انْدَرَسَ من أيام طوفانِ نوحٍ أنه لم يُبْنَ قبل أن بَنَاهُ إبراهيمُ وإسماعيلُ بِنَاءَهُمَا المشهورَ المذكورَ في القرآنِ العظيمِ، وأنه قَبْلَ ذلك كان مُنْدَرِسًا لا يُعْرَفُ له محلٌّ كما قال اللهُ: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ [الحج: آية ٢٦] ووجدوه في ذلك الوقتِ كانَ محلَّ مربضٍ لغُنَيْمَةٍ لرجلٍ من جُرْهُمٍ.
والمؤرخونَ يذكرونَ أن اللهَ لَمَّا أَنْبَعَ ماءَ زمزمَ لهاجرَ وإسماعيلَ أن أولَ من ساكنَها العمالقُ، وهم أولادُ عمليق. وهم من العربِ البائدةِ؛ لأنَّ العربَ نوعانِ: عربٌ بائدةٌ (٢): أي: هَلَكُوا عن آخِرِهِمْ
_________
(١) الأبيات في تفسير ابن جرير (١٢/ ٥١٠)، تفسير ابن كثير (٢/ ٢٢٥ - ٢٢٦)، البداية والنهاية (١/ ١٢٦ - ١٢٧).
(٢) وهم العرب العاربة. ولم يذكر النوع الثاني وهم العرب المستعربة.
لم يشهد بدرًا أحد منهم مع الكفار (١).
بعد ذلك كان للأخنس بن شريق شرف في بني زهرة، وهو حليف لهم، أصله من بني ثقيف، وابنه أبو الحكم بن الأخنس هو الذي قتل عبد الله بن جحش المُجَدَّع يوم أُحد كما تقدم في تفسير سورة آل عمران، وعندما جاءوا ونزلوا وراء الكثيب وراء العقنقل بالعدوة القصوى من بدر كان النبي ﷺ نزل بواد فيه دهس ورمل تسوخ فيه الأقدام من وراء عدوة بدر الدنيا التي تلي المدينة، وكان أولئك نزلوا وراء العقنقل -الكثيب الكبير- فأرسل الله مطرًا تلك الليلة التي وقعة بدر من صبيحتها، وكانت ليلة الجمعة، وهي الليلة السابعة عشرة من رمضان عام اثنين من الهجرة، فكان المطر الذي نزل على رسول الله وأصحابه واقعًا موقعه؛ لأن المحل الذي كانوا فيه كان الوادي فيه دهس؛ يعني: رمل تسوخ فيه الأقدام، وكانوا في عطش، وناموا تلك الليلة؛ لأن الله سلط عليهم النعاس كما هو أحد التفسيرين على ما سيأتي في قوله: ﴿إِذْ يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ﴾ [الأنفال: الآية ١١] فجاءهم الشيطان ووسوس لهم وسوسة ثقلت على بعض الصحابة ثِقلاً شديدًا، فقال لهم: أنتم تقولون إنكم على الحق -هذه وسوسة إبليس التي أثر عليهم بها- أنتم تقولون إنكم على الحق، وفيكم نبيُّ الله، وأنتم في عطَش، وعليكم الجنابة لا تجدون ماء تغتسلون به، فسيجهدكم العطش حتى إذا علم القوم أن العطش قطع أعناقكم جاءوكم فقتلوا من شاءوا، وأخذوا مَنْ شاءوا، فأرسل الله المطر حتى سال الوادي فاغتسلوا من الجنابة، وتطهروا وشربوا وسقوا دوابهم، وثَبَّتَ لهم المطر الأرض الدهسة، حتى صار المشي عليها
_________
(١) المصدر السابق ص٦٥٧.
البادئين بالقتالِ، والأشهرُ الْحُرُمُ إذا بُدِئَ المسلمونَ فيها بالقتالِ قَاتَلُوا، كما تَقَدَّمَ في قولِه: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: آية ١٩٤] وكما قَدَّمْنَاهُ في الكلامِ على قولِه تعالى: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: آية ١٩١] فهذا هو الذي أَجَابَ به العلماءُ عن حصارِ النبيِّ ﷺ لثقيفٍ على القولِ ببقاءِ حرمةِ الأشهرِ الْحُرُمِ.
يقول اللَّهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)﴾ [التوبة: الآيتان ٣٨، ٣٩].
وقولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾ [التوبة: آية ٣٨].
أَجْمَعَ كافةُ العلماءِ، أن هذه الآيةَ الكريمةَ من سورة براءة نَزَلَتْ لما اسْتَنْفَرَ النبيُّ ﷺ المسلمينَ إلى غزوِ الرومِ (١)، وفي غزوةِ تبوك، كان ذلك في ساعةِ العسرةِ، كما يأتِي منصوصًا في هذه السورةِ الكريمةِ، وكان وقتَ شدةِ الحرِّ، والأرضُ في غايةِ الجدبِ، وكان في المدينةِ النخيلُ حين أَزْهَتْ ثمرتُه، وطابت الظلالُ والمياهُ الباردةُ، فَرَكَنُوا إلى الدعةِ، وإلى نعيمِ الدنيا في
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٥١)، القرطبي (٨/ ١٤٠)، ابن كثير (٢/ ٣٥٧).


الصفحة التالية
Icon