وقولُه: ﴿قَرَاطِيسَ﴾ (القراطيس) جمعُ (قِرْطَاسٍ)، و (القرطاسُ): الورقةُ. كما هو معروفٌ؛ لأَنَّ نُسْخَةَ التوراةِ الكبيرةَ كُلَّهَا فيها الحقُّ، فإذا أَرَادُوا التحريفَ أَخَذُوا أوراقًا مُفَرَّقَةً، وَكَتَبُوا فيها أشياءَ متعددةً مِمَّا يريدونَ أن يُحَرِّفُوهُ، وَتَرَكُوا نسخةَ الكتابِ الكبيرةَ غيرَ حاضرةٍ، فإذا أَرَادُوا التحريفَ قالوا: هذا القرطاسُ نَقَلْنَا فيه مِنْ محلِّ التوراةِ فِي المحلِّ الفُلاَنِيِّ كذا وكذا، وهذا نَصُّهُ!! وهو مُحَرَّفٌ، وَلَمْ يَأْتُوا بِأَصْلِ الْكِتَابِ؛ لأَنَّهُ لو جَاءَ لَظَهَرَتِ الحقيقةُ فيه. وهذا معنَى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا﴾ أي: القراطيسَ المحرفةَ على أهوائِكم ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ وَجَعْلُهُ بهذه القراطيسِ لِيَسْتَعِينُوا بها عَلَى إخفاءِ ما يُحِبُّونَ وإبداءَ ما يُحِبُّونَ؛ لأنه لو جَاءَتْ نسخةُ الكتابِ كاملةً لَعُرِفَ الحقيقةُ فيه؛ ولذلك يَكْتُبُونَهَا كُتُبًا مُحَرَّفَةً، كما قال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: آية ٧٩] وقال: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: آية ٧٨] وهذا معنَى قولِه: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا﴾ محرفةً للناسِ ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ في النسخةِ الكبيرةِ لاَ تُظْهِرُونَهُ. كانوا يُخْفُونَ صفاتِ النَّبِيِّ - ﷺ -، فيجدونَه في التوراةِ: (أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ)، فيكتبونَ لونًا غيرَ ذلك. يَجِدُونَ: (رَبْعَةً)، يكتبونَ: (طَوِيلاً مُشَذَّبًا). (جَعْدَ الشَّعَرِ): يكتبونَ: (سَبْطَ الشَّعَرِ) ويغيرونَ الحقائقَ؛ وَلِذَا قال تعالى: ﴿تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾.
ثم قال جل وعلا: ﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ﴾ أَظْهَرُ
فرعون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ [طه: آية ٤٤] أي: على رجائكما أنه يتذكر، والله يعلم أنه لا يذكر ولا يخشى.
القول الثاني: هو ما قالته جماعة من علماء التفسير: أن كل (لعل) في جميع القرآن معناها التعليل إلا التي في الشعراء: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: آية ١٢٩] زعموا أنها بمعنى: (كأنكم).
والتحقيق: أن (لعل) تكون حرف تعليل، هذا لا شك فيه، وعليه فالمعنى: وَصَّاكُمْ به لأجل أن تعقلوا هذه الوصية عنه، فتمتثلوا أمره، وقال تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)﴾ [النحل: آية ٧٨] أي: جعل لكم هذه الأسباب والنعم لأجل أن تشكروه، ومن إتيان (لعل) في كلام العرب بمعنى التعليل قول الشاعر (١):

فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُروبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِق
فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكْمِ كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالمَلَا مُتَأَلِّق
فقوله: (كفوا الحروب لعلنا نكف) أي: كفُّوا عنّا لأجل أن نكف عنكم. هذا معروف في كلام العرب.
وقوله: ﴿تَعْقِلُونَ﴾ معناه: تدركون بعقولكم؛ لأن العقل هو الذي فيه الإدراك، والعقل: نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية، وقد ذكرنا فيما مضى أن مركزه القلب لا الدماغ (٢)، كما صرح به الله، وصرح به نبيُّه - ﷺ -، ولا شك أن مَنْ
_________
(١) السابق.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة.
الْمَسْعَى!! وأشارَ لهما أبو طالبٍ في لاَمِّيَّتِهِ المشهورةِ حيث قال (١):
وَحَيْثُ يُلْقِي الأَشْعَرُونَ رِحَالَهُمْ بِمَلْقَى الرِّفَاقِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ
فَلَمَّا بغى جرهمٌ وَطَغَوْا في الأرضِ سَلَّطَ اللهُ عليهم خزاعةَ. وخزاعةُ أصلُهم من العربِ المذبذبةِ، أكثرُ المؤرخين يقولونَ: إنهم من سبأ، وأن اللهَ لَمَّا أرسلَ سيلَ العرمِ على سبأٍ: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ صارت خزاعةُ منهم إلى الحجازِ ونزلوا على جرهمٍ في بيتِ اللهِ الحرامِ (٢).
وبعضُ العلماءِ يزعمُ أنَّ خزاعةَ من أبناءِ قَمَعَةَ الذين منهم عمرُو بنُ لحيِّ بنِ قَمَعَةَ (٣)، وقمعةُ بنُ إلياسَ. وإلياسُ أولادُه هم الذين يُسَمَّوْنَ: خِنْدَفًا؛ لأن إلياسَ بنَ مضرَ جَدَّ النبيِّ ﷺ يزعمُ أهلُ السيرِ والأخبارِ (٤) أن امرأتَه تُسَمَّى: ليلى، وهي بنتُ الحارثِ بنِ قضاعةَ (٥)، وأن إبلَهم ضَاعَتْ فَتَبِعَهَا عمرُو بنُ إلياسَ فأدرك الإبلَ فسُمِّي مدركةَ، وهو جَدُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مدركةُ بنُ إلياسَ. وأن قمعةَ قَمَعَ بالبيت فقام به فسُمِّي قمعة (٦). وَمِنْ نسلِه عمرُو بنُ لُحَيٍّ
_________
(١) البيت في البداية والنهاية (٢/ ١٩١).
(٢) المصدر السابق (٢/ ١٨٧)، السيرة لابن هشام (١/ ١٠٦).
(٣) انظر: السيرة لابن هشام (١/ ٨٨)، البداية والنهاية (٢/ ١٩٩).
(٤) السابق.
(٥) في طبقات ابن سعد (١/ ٣٦)، تاريخ الطبري (٢/ ١٨٩) ومعجم البلدان (٢/ ٥٠٨)، ومعجم ما استعجم (٣/ ٨٥٩): «ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة». وتُسَمَّى أيضًا: خِنْدَفًا.
(٦) في تاريخ الطبري (٢/ ١٨٩): «وانقمع عمير في الخباء فلم يخرج، فسمِّي قمعة» ا. هـ. والروايات في مدركة وطابخة متناقضة، فبعضها كما ذكر الشيخ هنا، وبعضها على العكس حيث تقول: إن عَمْرًا هو طابخة، وأن أخاه عامرًا هو مدركة.
صدره، كذا قال- فغضب عند ذلك عتبة وقال: سيعلم مصفر استك غدًا من الجبان! وأمر أبو جهل -قبحه الله- عامر بن الحضرمي أخا عمرو بن الحضرمي أن ينشد ثأره، فقام عامر بن الحضرمي وقال: واثأراه، واعَمْرَاه، فاحتدم الناس للقتال، وأفسد أبو جهل كل ما أراد عتبة وحكيم وعمير أن يصلحوه (١)، فلما وقع ذلك قال بعض المؤرخين (٢):
أول قتيل قُتل من الكفار قبل المبارزة: الأسود بن عبد الأسد، جاء وأراد أن يقتحم الحوض الذي بناه ﷺ وأصحابه؛ لأن النبي ﷺ وأصحابه سبقوا إلى بدر، وأقام النبي ﷺ عند أول قليب فجاءه الحُباب بن المنذر بن الجموح (رضي الله عنه) وقال له: يا نبي الله إن كان هذا وحيًا من الله فلا ينبغي لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، وإن كان الرأي والحرب والمكيدة فلنا منه حول. فقال: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ والحَرْبُ والمَكِيدَةُ». قال: الأصلح في ذلك أن نذهب إلى أقرب قليب من القوم ونُغَوِّر جميع القُلُب، ونترك ذلك القليب ونبني عليه حوضًا، ونلقي فيه الأواني، فإن غلبنا القوم: شربنا ومنعناهم من الماء، وإن غلبونا قدرنا على أن نشرب (٣).
فذلك الحوض لم يشرب منه أحد إلا مات، إلا حكيم بن حزام جاء الأسود هذا ليشرب منه فقتله حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) ثم إنه لما احتدم القتال جاء ﷺ وصف أصحابه للقتال، وبُني له
_________
(١) دلائل النبوة للبيهقي (٣/ ٦٤)، وانظر المصدر السابق ص٦٦١ - ٦٦٣.
(٢) انظر: السيرة لابن هشام ص٦٦٣..
(٣) رواه الحاكم (٣/ ١٢٦، ١٢٧)، وأورده ابن هشام في السيرة.
وكذا الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (٣/ ٢٦٧). وضعفه الألباني في تعليقه على فقه السيرة ص٢٤٠.
وقولُه: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾ الهمزةُ همزةُ إنكارٍ؛ لأَنَّ أَسْفَهَ الناسِ وأقلَّهم عقلاً هو مَنْ يرضى بالدنيا بدلاً من الآخرةِ؛ لأنه يعتاضُ القليلَ التافهَ من الكثيرِ الذي لا يُقَدِّرُ قدرَه إلا اللَّهُ، وفي هذا وَبَّخَهُمْ؛ لأنه نَقْضٌ ضِمْنِيٌّ للعقدِ الذي عَقَدَهُ معهم؛ لأن اللَّهَ (جلَّ وعلا) عقد عُقْدَةً بينَه وبينَ عبادِه المؤمنينَ وَأَبْرَمَهَا، وهو أنه اشْتَرَى منهم أنفسَهم وأموالَهم بالجهادِ، يشتري من المؤمنِ حياتَه الدنيويةَ وهي حياةٌ قصيرةٌ مُنغَّصَةٌ مشوشةٌ بالأمراضِ والمصائبِ والبلايا والمشاقِّ، يشتريها منه بحياةٍ أبديةٍ سرمديةٍ، لا شيبَ فيها ولا هرمَ ولا مرضَ ولا غضبَ ولا أَلَمَ ولا تشويشَ، ويشتري منه مالاً قليلاً وَعَرَضًا زائلاً من الدنيا بِالْحُورِ الْعِينِ والوِلْدانِ وغُرَفِ الجنةِ وأنهارِها وثمارِها، والنظرِ إلى وَجْهِ اللَّهِ الكريمِ. فهذا هو البيعُ الرابحُ، وَاللَّهُ يقولُ في هذه السورةِ الكريمةِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)﴾ [التوبة: آية ١١١] هذا هو البيعُ الرابحُ والمعاملةُ الراجحةُ، أما الذي يَنْقُضُهَا وينكثُها ويقدمُ للدنيا على الآخرةِ فهذا سَفِيهٌ يستحقُّ أشدَّ الإنكارِ؛ ولذا أَنْكَرَ اللَّهُ عليه بقولِه: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾ فإنه لا يَقْنَعُ بِالدُّونِ إلا مَنْ هو في غايةِ الدونِ، وقد صَدَقَ مَنْ قال (١):
إِذَا مَا عَلاَ الْمَرْءُ رَامَ الْعُلاَ وَيَقْنَعُ بِالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا
فلاَ يقنعُ بالدونِ إلا مَنْ هو دُونَ كما لاَ يَخْفَى، وهذا معنَى
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٦٨) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon