الأقوالِ فيها: أَنَّ المرادَ بِهِمُ اليهودُ الذين أُنْزِلَ عليهم التوراةُ، أن الله عَلَّمَهُمْ بواسطةِ القرآنِ من غرائبِ ما في التوراةِ وعجائبِه ما كانوا جَاهِلِينَ به؛ لأَنَّ القرآنَ مُهَيْمِنٌ على الكتبِ، وَكَانَتْ أشياءُ غامضةً عليهم لا يَعْرِفُونَهَا، فَبَيَّنَهَا القرآنُ حتى عَرَفُوهَا، وَعَلِمُوا بِوَاسِطَةِ الْقُرْآنِ مِنْ أَسْرَارِ التوراةِ ما لَمْ يكونوا يَعْلَمُونَهُ، كما قال جل وعلا: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: آية ٧٦] وقال اللَّهُ جل وعلا: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [المائدة: آية ١٥] إلى غَيْرِ ذلك. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ أَيْ: وعُلِّمْتُمْ الشيءَ الذي لم تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ وَلاَ آباؤكم من قبلُ، عَلَّمَكُمُ اللَّهُ إياه بواسطةِ القرآنِ العظيمِ؛ لأَنَّهُ مهيمنٌ على الكتبِ يُبَيِّنُ مَا فِيهَا، كما قَالَ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: آية ٧٦] مِمَّا كَانُوا لا يَعْلَمُونَهُ.
ثم قال جل وعلا: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ قولُه: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ جوابٌ للاستفهامِ في قولِه: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ قُلْ لَهُمْ: مَنْ هُوَ الذي أَنْزَلَ الكتابَ الذي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للناسِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بالجوابِ: قُلْ لَهُمْ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ (جل وعلا). ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تُفْحِمَهُمْ ﴿ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ ﴿ذَرْهُمْ﴾ معناه: اتْرُكْهُمْ.
وَمَعْنَى: ﴿فِي خَوْضِهِمْ﴾ أي: فِي خَوْضِهِمْ في الباطلِ والكفرِ والتكذيبِ بآياتِ اللَّهِ ﴿يَلْعَبُونَ﴾ يتخذونَ ذلك لَعِبًا واستهزاءً.
خَلَق العقل وأبْرَزَهُ مِنَ العدم إلى الوجود، أنه أعلم بموضعه من كَفَرَةِ الفَلَاسِفَة الذين يَتَحَكَّمُون على الله ويخالفونه من غير دليل ولا برهان، وهؤلاء الذين ينفون هذا؛ لأنهم يقولون -زعموا- أن بعض الناس صار يُجعل له قلبُ واحدٍ آخر، ولو أن هذا -لو فرضنا- صح، وأنه يدل على أن العقل ليس في القلب، فهذا لا دليل فيه؛ لأن العقل أصله نور روحاني -آلة للنفس- تُدْرِكُ بِهِ النَّفْسُ العُلُومَ الضَّرُورِيَّة والنظرية، ومحله القلب الذي في الصدر، كما قال: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: آية ٤٦] فَلَوْ فرضنا أن الله خرق العادة وأزال القلب، ولم يمت الإنسان، لم يمنع أن يكون العقل باقياً في محله الذي كان فيه، وقد زالت الأداة الذي كان فيها.
وكذلك لو جُعل قلب آخر، فقد دل القرآن في سورة النور أن القلب كأنه زجاجة، ونور الإيمان فيها الذي يُضاء به كأنه نور، وإذا انكسرت الزجاجة فلا مانع من أن تأتي زجاجة أخرى ويكون فيها النور الذي كان في الزجاجة التي قبلها، وعلى كل حال فلا أحَدَ أصْدَق من الله ولا مِنْ رَسُول الله ﴿أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ﴾ [البقرة: آية ١٤٠] والله يقول في نبيه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣، ٤] وقد صرح الله ونبيه أن العقل محله القلب، ومن خلق العقل أعلم بمحل العقل، ونحن نعرف أن جميع ما يُؤثِّر على الدماغ يُؤثِّر على العقل، وهذا لا يقتضي أن يكون محل العقل الدماغ؛ لأنه كَمْ مِنْ مَوْضِع من الجسد إذا اخْتَلَّتْ خَانَة من خانات الدماغ اختل ذلك الموضع، وليس يلزم أن ذلك الموضع المختل كان محلُّه في الدماغ، بل هو خارج عن الدِّمَاغ، مشروط بسلامة الدماغ، فالعقل محلّه القلب، ولكن سلامته مشروطة بسلامة
الخبيثُ (١).
وخزاعةُ على قولِ مَنْ يقول: إنهم خِنْدَفيون لا أنهم من سبأٍ، وأن أحدَ أولادِه (٢) اصطادَ أَرْنَبًا فطبخه فسُمي طابخة، وهو جدُّ تميمٍ، وأن تميمَ بنَ مر بن أُدِّ بن طابخةَ، وقبائل الرَّباب: بنو تيمٍ، وبنو عدي، وبنو عكل، وضبة وبنو ثور وبنو عجل (٣) وهم قبائلُ الربابِ الذين تَحَالَفُوا على رُبٍّ (٤) مع تميمٍ وصاروا يُنْسَبُونَ إليهم وقال فيهم الشاعرُ (٥):

يَعُدُّ النَّاسِبُونَ إِلَى تَمِيمٍ بُيُوتَ الْمَجْدِ أَرْبَعَةً كِبَارَا
_________
(١) انظر: تاريخ الطبري (٢/ ١٨٩)، السيرة لابن هشام (١/ ٨٨)، البداية والنهاية (٢/ ١٩٩).
(٢) أي. أولاد إلياس.
(٣) انظر: المعارف لابن قتيبة ص٧٤، الأنساب للسمعاني (٣/ ٣٩)، بلوغ الأرب (١/ ٢١)، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (١/ ٤٠٢).
(٤) جاء في الأنساب (٣/ ٣٩): «وإنما سموا الرباب لأنهم ترببوا- أي: تحالفوا- على بني سعد بن زيد مناة. وقال الكلبي في كتاب الألقاب قال: إنما سموا الرباب... أنهم غمسوا أيديهم في رُب فتحالفوا على بني تميم فسموا الرباب جميعًا، وخُصت تيم بالرباب» ا. هـ. ولم أقف على من عَدَّ بني عجل من الرباب، ففي الأنساب: نقلاً عن أبي عبيدة: «تيم الرباب: ثور وعدي وعكل ومزينة بنو عبد مناة بن أُدّ، وضبة بن أُدّ» ا. هـ. ونقل عن ابن الكلبي أنهم: «تيم وعدي وعوف والأشيب وثور أطحل وضبة بن أُدّ» ا. هـ. وفي بلوغ الأرب (١/ ٢١) (هامش): «الرباب - بالكسر - خمس قبائل تجمعوا فصاروا يدًا واحدة وهم: ضبة وثور وعكل وتيم وعدي» ا. هـ.
(٥) الأبيات في بلوغ الأرب (١/ ٢١). وصدر البيت الأخير: «ويذهب فيهما المري لغوًا».
عريش (صلوات الله وسلامه عليه)، وكان في العريش هو وأبو بكر، وسعد بن معاذ متوشحًا سيفه في قوم من الأنصار يحرسون رسول الله ﷺ فجاء النبي ﷺ وصف الصفوف ورجع للعريش يهتف بربه ويناديه: «رَبِّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي، رَبِّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي»، فلما نظر إلى قريش مُتَصَوِّبَة من كثيب بدر من العقنقل الكبير فإذا هم ألف مقاتل، وإلى أصحابه فإذا هم نيف وثلاثمائة رجل هتف [صلى الله عليه وسلم] (١) بربه، وألح في مسألة رَبِّهِ والاستغاثة به كما يأتي في تفسير قوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)﴾ [الأنفال: آية ٩] فصف ﷺ الصفوف فلما جاء القوم برز عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وولده الوليد بن عتبة بن ربيعة -وربيعة: ابن عبد شمس بن عبد مناف- برزوا للقتال، فبرز لهم نفر من الأنصار، وقالوا إنهم: معاذ ومعوذ ابنا الحارث، وهما المعروفان بـ (ابني عفراء)، أمهما (عفراء) اشتهرا بها؛ لأن أولاد الحارث الثلاثة -وهم: عوف، ومعوذ، ومعاذ- اشتهروا بالنسبة إلى أمهم عفراء (رضي الله عن الجميع) قال بعض المؤرخين: قال العبشميون للأنصار: لا حاجة لنا بقتالكم إنما نريد بَنِي عَمِّنَا مِنْ قريش. وقال بعض المؤرخين: قالوا: أكفاء كرام، ولكنا نريد بني عمنا. فطلبوا مبارزين من بني عمهم، فأخرج النبي ﷺ إليهم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف -وهو أسن أهل بدر جميعًا، وقد شهد بدرًا أخواه، وهما: الحصين والطفيل، شهدها من بني الحارث بن المطلب ثلاثة: عبيدة بن الحارث أحد المبارزين، وأخواه: الطفيل والحصين- قال: قم يا عبيدة بن
_________
(١) في الأصل: (جل وعلا). وهو سبق لسان.
قولِه: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾. قد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا أن تسميةَ اللَّهِ (جلَّ وعلا) في كتابِه للدارِ الذي نَؤُولُ إليها تسميته إِيَّاهَا (الآخرة) ينبغي للمسلمِ أن ينظرَ فيه ويعتبرَ فيه، وقد أَوْجَبَ اللَّهُ على كلِّ إنسانٍ أن ينظرَ في مبدئِه، وإذا نَظَرَ في مبدئِه دَعَاهُ ذلك إلى النظرِ في انتهاءِ أَمْرِهِ الذي يَؤُولُ به إلى مُسَمَّى الآخرةِ، وإيضاحُ ذلك أن اللَّهَ قال بصيغةِ أَمْرٍ سَمَاوِيٍّ من اللَّهِ ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥)﴾ [الطارق: آية ٥] لامُ الأمرِ في قولِه: ﴿فَلْيَنْظُرِ﴾ لامُ أمرٍ صادرةٌ مِنْ خَالِقِ السماواتِ والأرضِ، متوجهةً إلى مُسَمَّى الإنسانِ، يأمرُه اللَّهُ أن ينظرَ إلى الشيءِ الذي خُلِقَ منه ليعلمَ مبدأَ أمرِه وَمِنْ أينَ جَاءَ؟ وما سببُ وجودِه؟ وعلى أَيِّ طريقٍ جَاءَ؟ ثُمَّ ليَنْظُرْ بعدَ ذلك في مصيرِه، وإلى أين يُذْهَبُ به، وإلى أين يَصِيرُ، وإلى أين يكونُ آخِرُ أَمْرِهِ؟ وقد بَيَّنَ لنا هذا المحكمَ المنزلَ الذي جَمَعَ اللَّهُ به علومَ الأولينَ والآخرينَ، مبدأُ هذا الإنسانِ الضعيفِ ومنتهاه، ومصيرُه النهائيُّ الذي لا يحيدُ عنه إلى شيءٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ أن أولَ الإنسانِ ترابٌ بَلَّهُ اللَّهُ بماءٍ، وهو قولُه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ﴾ [الحج: آية ٥] فمبدأُ رحلةِ الإنسانِ ومنشؤُه من الترابِ، بَلَّهُ اللَّهُ بالماءِ، فصارَ طِينًا، وهو قولُه تعالى: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: آية ٦١] ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّنْ طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ [الصافات: آية ١١] ثم جَعَلَ نسلَه من سلالةٍ من طِينٍ، ثم إن الله خَمَّرَ ذلك الطينَ حتى صَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، ثم أَيْبَسَهُ حتى صَارَ صلصالاً كالفخارِ، ثم خَلَقَ منه آدمَ وجعلَه لَحْمًا وَدَمًا، ثم خَلَقَ منه زوجَه، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾
[النساء: آية ١] هي آدمُ ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ يعني حواءَ. وَذَكَرَ ذلك في الأعرافِ وفي الزمرِ كما


الصفحة التالية
Icon