وهذا الأمرُ قَالَ بعضُ العلماءِ: هِيَ مُتَارَكَةٌ مَنْسُوخَةٌ (١)؛ لأَنَّ أهلَ الكتابِ كانَ النبيُّ - ﷺ - مَأْمُورًا بِتَرْكِهِمْ، حيث قال: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة: آية ١٠٩] ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فقال: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: آية ٢٩].
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام: آية ٩٢] لَمَّا قَالَ اليهودُ: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ﴾ وأن اللَّهَ (جل وعلا) كَذَّبَهُمْ تَكْذِيبَتَيْنِ: الأُولَى: قولُه: ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى﴾
ثم قَالَ في جوابِ هذا الاستفهامِ: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ اللَّهُ أَنْزَلَهُ. وهذا تكذيبٌ صريحٌ لقولِهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ من شيءٍ. ثُمَّ كَذَّبَهُمُ التكذيبةَ الأُخْرَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ على محمدٍ - ﷺ - أعظمَ كتابٍ، وهو الكتابُ المباركُ، حيث قال: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ وهذا أيضًا كتابٌ آخَرُ غيرُ الذي أُنْزِلَ على مُوسَى، أَنْزَلْنَاهُ عَلَى بَشَرٍ تَكْذِيبًا لِقَوْلِكُمْ: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ﴾ وصيغةُ الجمعِ في قولِه: ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ للتعظيمِ؛ لأَنَّ مُنْزِلَ هذا الكتابِ عظيمٌ جِدًّا، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّعْظِيمِ.
وقولُه: ﴿مُبَارَكٌ﴾ أَيْ: كثيرُ البركاتِ والخيراتِ، فهذا القرآنُ كُلُّهُ بركاتٌ وَخَيْرَاتٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال إنه مُبَارَكٌ. والمباركُ: كثيرُ البركاتِ؛ لأَنَّ فيه خيرَ الدنيا والآخرةِ، يعتقدُ الإنسانُ عقائدَه، وَيُحِلُّ حَلاَلَهُ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَهُ، ويتأدبُ بِآدَابِهِ، ويعتبرُ بأمثالِه وقصصِه،
_________
(١) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (٢/ ٣٢١).
الدماغ، وقد ذكرنا ما ذكره بعضهم جمعاً بين القولين: أن مركزه في القلب، كما قال الله ورسوله، وأن شعاع نوره متصل بالدماغ، فمن قال: إنه في الدماغ قد يكون هذا سائغاً على هذا القول؛ بناء على أن شعَاعَ نُورِهِ متصل بالدماغ، ولكن هذا القول قد قدمنا أنهم لم يستدلوا عليه إلا بدليل استقرائي غير مُقْنِع، والدليل الاسْتِقْرَائِيّ: هو تتبُّع الأفراد، وهو حجة عند الأصوليين، قالوا: قد اسْتَقْرَيْنا نوع البشر، ووجدنا كل رجل أو امرأة إذا كان طويل العنق طولاً مُفْرِطاً خارجاً عن عادة أعناق الناس، لا بد أن يكون في عقله دَخَل. قالوا: وذلك لتباعد ما بين طرفي العقل؛ لأنه إذا بعُد طرف نوره الأعلى من طرفه الأسفل قد يَتَغَشَّى النور الروحاني المعلوم الذي به الإدراك وينقص الإدراك. هكذا زعموا، ولا دليل عليه، والله أصدق من يقول.
يقول الله (جل وعلا): ﴿وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٥٢].
قوله (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ كانت عادة العرب أن يأخذوا من اليتيم ماله الذي ترك أبوه، ويظلموه في حقه، ويظلموا المرأة، ويقولون: إن الذي يستحق المال هو من يحمي الذمار، ويُدافع عن الحريم، وهم الرجال الذين يستعينون بالمال على الدفاع، أما اليتيم والمرأة فإعطاء المال لهما ضياع له، وإذا كانوا يدفعون اليتيم عن حقه ويظلمونه كما في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١)

يَعُدُّونَ الرَّبَابَ وَآلَ سَعْدٍ وَعَمْرًا ثُمَّ حَنْظَلَةَ الْخِيَارَا
وَيَسْقُطُ بَيْنَهَا الْمرِّيُّ عَفْوًا كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الْحُوَارَا
كذلك بنو مزينةَ الذين منهم زهيرٌ وأولادُه، وهم من أُدّ بنِ طابخةَ. هكذا يقول المفسرونَ. ثم لم يَزَلِ البيتُ عندَ خزاعةَ فَسَلَّطَهُمُ اللهُ على جرهم فطردوهم شَرَّ طردة، وَسَلَّطَ اللهُ الأمراضَ على جرهم، وَلَمَّا طلع الجرهميُّ على أحدِ جبالِ مكةَ ورأى خزاعةَ مُسْتَوْلِينَ على البيتِ ينحرون أباعرَ جرهم قال أبياتَه المشهورةَ المعروفةَ (١):
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحُجُونِ إِلَى الصَّفَا أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا صُروفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَائِرُ
وَكُنَّا وُلاَةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ
الأبيات المشهورة، ثم إن قُصَيًّا كان في الطائفِ ومعَه أبو غُبْشَانَ سيدُ خزاعةَ الذي بيدِه مفاتيحُ الكعبةِ، فسقاه خَمْرًا حتى سَكِرَ، واشترى منه البيتَ الحرامَ وسدانتَه، وأخذ مَفَاتِحَهُ وباعه له وهو سكرانُ بِزِقٍّ من خَمْرٍ، وكتب عليه صكَّ البيعِ، ولما استفاقَ ذلك وَصَحَا من سكره نَدِمَ وصار بينَ قريشٍ وخزاعةَ بعضُ حروبٍ على ذلك، وفي الواقعةِ يقولُ الشاعرُ (٢):
بَاعَتْ خُزَاعَةُ بَيْتَ اللَّهِ إِذْ سَكِرَتْ بِزِقِّ خَمْرٍ فَبِئْسَتْ صَفْقَةُ الْبَادِي
_________
(١) الأبيات لعمرو بن الحارث بن عمرو بن مُضاض، وهي في السيرة لابن هشام (١/ ١٣١)، البداية والنهاية (٢/ ١٨٥).
وقد سقط هنا - بعد البيت الأول - بيت من أبياتها وهو قوله:
فقُلتُ لها والقَلبُ منيّ كأنما يُلَجْلِجهُ بين الجَنَاحَيْنِ طائرُ
(٢) البيت في نهاية الأرب (١/ ٢٤٧).
الحارث، ويا حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب.
فجاءوهم فقالوا: مَنْ أَنْتُم؟ لأنهم لا يعرفونهم؛ لأن القوم مقنعون في الحديد، فانتسب كل واحد منهم. فقال عبيدة: أنا عبيدة بن الحارث بن المطلب. وقال حمزة: أنا حمزة ابن عبد المطلب. فلما انتسبوا لهم قالوا: أكفاء كرام. فكانت المبارزة بين عبيدة وعتبة، وبين حمزة وشيبة، وبين الوليد وعلي، أما علي (رضي الله عنه) فلم يلبث أن قتل الوليد، وأما حمزة (رضي الله عنه) فلم يلبث أن قتل شيبة، وأما عبيدة وعتبة فاختلفا ضربتين فأثبت كل واحد منهما صاحبه، وكان عتبة قطع قدم عبيدة بنصف ساقه، فَذَفَّفَ عليه عليّ وحمزة فقتلا عتبة، وحملا صاحبهما عبيدة حتى وضعاه عند النبي ﷺ ورجله تشخب دَمًا، سقطت قدمه بنصف ساقه، وعند ذلك قال: يا رسول الله لو كان أبو طالب حيًّا لعلم أنا أحق منه بقوله (١):
وَنَمْنَعُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا والحَلاَئِلِ
وحملوه ومات بالصفراء، وهم قافلون من بدر.
فلما وقع هذا الْتَحَمَ القِتَالُ، واخْتَلط الحابل بالنابل، واشتدت مناجاته ﷺ واستغاثته بربه، فأنزل الله الملائكة مددًا، فقال هنا: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ﴾ [الأنفال: آية ٩] وقد قدمنا في سورة آل عمران أن مددهم إلى خمسة آلاف كما تقدم في قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ
_________
(١) البيت في البداية والنهاية (٣/ ٢٧٤).
هو معروفٌ، ثم بعدَ أن حَصَلَ رجلٌ وامرأةٌ صَارَ طريقةُ وجودِ الإنسانِ على طريقِ التناسلِ المعروفةِ، يكونُ أولاً من نطفةٍ أمشاجٍ من ماءِ الرجلِ وماءِ المرأةِ، ثم يخلقُ اللَّهُ تلك النطفةَ علقةً وهي الدمُ الجامدُ الذي إذا صُبَّ عليه الماءُ الحارُّ لم يَذُبْ، ثم يجعلُ اللَّهُ تلك العلقةَ مضغةً، ثم المضغةَ عِظَامًا، ثم يَكْسُو العظامَ لَحْمًا، ويخلقُ هذا البشرَ السويَّ الذي تنظرونَ إليه، الذي كُلُّ موضعِ إبرةٍ منه فيها من غرائبِ صُنْعِ اللَّهِ وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، وقد ذَكَرْنَا مِرَارًا أن أعظمَ مَا فُتِنَ به ضعافُ العقولِ من المسلمينَ حِذْقُ الإفرنجِ، في حالةِ الدنيا، وَمِنْ أبرعِ ما بَرَعُوا فيه الطبُّ، وأنا أقولُ لكم: إنه لو اجتمعَ اليومَ جميعُ مَنْ في المعمورةِ مِنْ مهَرَةِ الأطباءِ يريدونَ أن يعملوا عمليةً في جَنِينٍ في رَحِمِ أُمِّهِ فإنهم لا يقدرونَ أن يعملوا العمليةَ حتى يَشُقُّوا بطنَها وَرَحِمَهَا والمشيمةَ التي على الولدِ، ثم يأتوا بالأشعةِ الكهربائيةِ ليمكنَهم أن يَرَوْا، ثم يعملوا، فقد تموتُ وهو الأغلبُ!! وهذا خالقُ السماواتِ والأرضِ (جلَّ وعلا)، ليس فِينَا ولا فيهم ولا في غيرِنا أحدٌ إلا وهو يعملُ فيه آلافَ العملياتِ الهائلةِ وهو في بطنِ أُمِّهِ، من غيرِ أن يحتاجَ إلى شَقِّ بطنِها، ولا إلى شَقِّ رَحِمِهَا، ولا إلى شَقِّ المشيمةِ التي على الولدِ ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [الزمر: الآية ٦].
هذه الأعينُ قد فَتَحَهَا اللَّهُ (جلَّ وعلا) وأنتم في بطونِ أمهاتِكم، وَصَبَغَ بعضَها بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وَأَنْبَتَ عليها هذا الشعرَ، وجعلَ لها هذا الوعاءَ من الجفونِ، وهذا الدماغَ خَلَقَهُ وجعلَه في هذا الوعاءِ، وَخَاطَ عليه هذه العظامَ هذه الخياطةَ الهائلةَ، وهذا


الصفحة التالية
Icon