فيكونُ على أكملِ حالٍ في الدنيا والآخرةِ. فهو فيه البركاتُ والخيراتُ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ - للعملِ به - (جل وعلا)؛ وَلِذَا بَيَّنَّا مِرَارًا أنه أعظمُ نعمةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ على خَلْقِهِ؛ وَلِذَا عَلَّمَهُمْ أن يَحْمَدُوهُ على هذه النعمةِ والبركاتِ في هذا القرآنِ العظيمِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف: آية ١] وَبَيَّنَ أن إِيرَاثَهُ علامةُ الاصطفاءِ، وَبَيَّنَ أن ذلك فضلٌ كبيرٌ من اللَّهِ حيث قَالَ في (فاطر): ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ فَبَيَّنَ أن إيراثَ هذا الكتابِ أنه لاَ يكونُ إلا لِمَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. ثم قال في مَعْرِضِ التنويهِ به: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: آية ٣٢] أي: إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ هو الفضلُ مِنَ اللَّهِ الكبيرُ عليهم، كما قال هنا إِنَّهُ: ﴿مُبَارَكٌ﴾.
وقولُه: ﴿مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ مَعْنَاهُ: أن القرآنَ العظيمَ مصدقٌ للكتبِ السماويةِ التي قَبْلَهُ، وتصديقُه لها مِنْ جِهَاتٍ متعددةٍ منها (١): أنه لا يُخَالِفُهَا. أن العلاماتِ التي قَامَتْ عن النبيِّ وعن كتابِه الذي يُنَزَّلُ عليه جاءت كُلُّهَا مُطَابِقَةً، وأن ما تَدْعُو إليه الكتبُ السماويةُ من التوحيدِ وطاعةِ اللَّهِ ومكارمِ الأخلاقِ كذلك جاءَ القرآنُ آمِرًا به. وَمِنْ تَصْدِيقِهِ لِلْكُتُبِ
السماويةِ: أنه يُهَيْمِنُ عليها ويمنعُها من التحريفِ، كُلَّمَا أَرَادُوا أن يُحَرِّفُوا مَنَعَهُمُ القرآنُ، كما قال: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: آية ٤٨] وَبَيَّنَ اللَّهُ ذلك في مواضعَ من كتابِه حيث قال: ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [المائدة: آية ١٥] وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: آية ١٦٠] قال اليهودُ: لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْنَا إِلاَّ ما كانَ مُحَرَّمًا من الطعامِ على أَبِينَا إِسْرَائِيلَ. وهو
_________
(١) انظر: القاسمي (٢/ ١١٥).
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢)} [الماعون: الآيتان ١، ٢] والدَّعُّ: الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ؛ أي: يدفعه بقوة عن حَقِّهِ ويَظْلِمُه (١)، والله (جل وعلا) أرسل هذا النبي الكريم (صلوات الله وسلامه عليه) بكمال الإنصاف، ومكارم الأخلاق، والمحافظة على حقوق الضعيف الذي لا يقدر على الدفاع عن نفسه؛ ولذا نهى عن قُربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ونهى عن ظلم المرأة، وبيَّن أنَّ مَنْ ظَلَمَ المَرْأَةَ تعرض إلى بطش ملك جبار عظيم، حيث قال في سورة النساء: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ [النساء: آية ٣٤] أي: لا تظلموهن إن أطعنكم وكُنَّ غير ظالمات، ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ يعني: من يحافظ على حقوقهن وينتقم لمن ظلمهن عليَّ كبيرٌ عظيمٌ، يُرْهَب منه وتُخافُ سطْوَته.
كذلك قال هنا: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ﴾ تكلمنا على الحكمة في النهي عن قُرب الشيء، وأن المراد بها سدّ الذريعة والتباعد منه بالكلية، ومال اليتيم: هو ماله الذي هو ملك له، سواء ورثه من أبيه، أو حصل له بطريق أُخرى، واليتيم (فَعِيْل) من اليُتم، واليُتم في لغة العرب معناه: الانفراد، تقول العرب: هذه يتيمة عصماء، يعنون: ياقوتة منفردة لا نظير لها، وإنما قيل لليتيم (يتيم) لانفراده عن وَلِيِّهِ الذي من شأنه أن يَقُومَ بِأَمْرِهِ وهو أبوه (٢). واليتيم في بني آدم: هو مَنْ مَاتَ أبوه وإن كانت أمه حيّة، ولا يُتم بعد بلوغ بإجماع العلماء (٣)، فالبالغ لا يُسمَّى يتيماً بإجماع العلماء. واليتيم: هو
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: دع) (٣١٤).
(٢) انظر: المصباح المنير (مادة: يتم) (٢٦٠)، المفردات (مادة: يتم) (٨٨٩).
(٣) انظر: المغني (٧/ ٣٠٦)، القاموس الفقهي ص ٣٩٢.
وَقَعَ بينَهم بعضُ الحروبِ والقتلى فيما يذكره الأخباريون وأهلُ السِّيَرِ، فاستعانَ قُصَيٌّ بأخيه لأُمِّهِ سيدِ قضاعةَ، وكانت القتلى أكثرَ في خزاعةَ، ثم تَحَاكَمُوا إلى يَعْمَرَ الشَدَّاخِ (يعمر الكناني) الذي يقولُ فيه امرئُ القيسِ (١):

كِنَانِيَّةٌ بَانَتْ وَفِي الصَّدْرِ وُدُّهَا مُجَاوِرَةٌ غَسَّانَ وَالْحَيَّ يَعْمَرَا
وكان من حكامِ العربِ، فحكم بأن تُشْدَخَ دماءُ خزاعةَ، أي: تُهْدَرَ، وحكم بصحةِ البيعِ، وأن الكعبةَ لِقُصَيٍّ (٢). فأخذَها قُصَيٌّ، وأخذَ الوظائفَ المشهورةَ، وأعطاها لبني عبدِ الدارِ في خبرٍ يَطُولُ.
والمقصودُ عندنا من هذا أن العمالقَ إنما سَكَنُوا مكةَ بعدَ أن نبعَ ماءُ زمزمَ لهاجرَ وإسماعيلَ، وهذا هو المعروفُ في التاريخِ. والمعروفُ أن عادًا هلكوا بأزمنةٍ طويلةٍ قبلَ وجودِ إبراهيمَ، وأن هودًا كان قبل إبراهيمَ، وهذا مما يُشَكِّكُ في أن هذه الأخبارَ السيريةَ ليست بصحيحةٍ كما هو معروفٌ، وَاللَّهُ تعالى أعلمُ. إلا أن المفسرينَ يذكرونَ القصةَ كما ذَكَرْنَا.
ومعنَى قولِه: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾ [الأعراف: آية ٧١] الرجسُ هنا العذابُ، قال بعضُهم: أصلُه من الارتجاسِ، وهو: الاضطرابُ؛ لأن الْمُعَذَّبَ يضطربُ من شدةِ العذابِ. والغضبُ: هو غضبُ اللهِ الذي حَلَّ بهم.
﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ السلطانُ: الحجةُ الواضحةُ التي لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا.
_________
(١) ديوان امرئ القيس ص٥٩.
(٢) انظر: السيرة لابن هشام (١/ ١٤٠)، البداية والنهاية (٢/ ٢٠٧).
رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)} [آل عمران: الآيتان ١٢٤ - ١٢٥] وبعض العلماء يقول: هذه الخمسة الآلاف التي ذُكرت في آل عمران دلت عليها آية الأنفال هذه؛
[٢/أ] لأنه في قراءة الجمهور (... ) (١) / نافع من السبعة: ﴿بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: الآية ٩] بصيغة المفعول (٢).
واختلف العلماء: هل باشرت الملائكة القتال أو لم تباشره؟ فكثير من المؤرخين -وقد جاء في بعض الآثار وبعض الأحاديث- أن الملائكة باشرت القتال يوم بدر، وأن بعض الصحابة يتبع رجلاً حتى يسقط أمامه لا يدري مَنْ قَتَلَهُ؟ قال بعضهم: كنت أتبع رجلاً من الكفار فسمعت صوت سوط ضربه، فإذا وجهه منشق، وجميع وجهه قد اخضرّ ومات (٣)، وبعضهم قال: أردت أن أمدّ سيفي إلى رجل فسقط رأسه قبل أن يصل إليه سيفي (٤). لأن الملائكة تقتلهم، وأظهر القولين: أن الملائكة في ذلك اليوم قاتلت، خلافًا لمن قال: إنها للتثبيت والعدد والمدد، وأنها لم تباشر القتال. والذين قالوا: لم
_________
(١) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل.
(٢) ستأتي القراءات عند تفسير الآية.
(٣) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، حديث رقم: (١٧٦٣) (٣/ ١٣٨٣).
(٤) أورد السيوطي نحوه في الدر (٣/ ١٧٣) عن أبي داود المازني رضي الله عنه، وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه. وقد أخرجه ابن جرير (٧/ ١٧٥ - ١٧٦)، وذكره ابن هشام في السيرة ص٦٧٢.
وأخرج البيهقي في الدلائل (٣/ ٥٦) بهذا المعنى عن سهل بن حنيف (رضي الله عنه). وعند البيهقي في الدلائل (٣/ ٥٦)، وابن إسحاق عن أبي واقد الليثي، كما نقل ابن كثير في البداية والنهاية (٣/ ٢٨١).
الأنفُ خلقَه وثقبَه، وهذا الفمُ خلقَه وثقبَه، وجعلَ اللسانَ، وَأَجْرَى في الفمِ عَيْنًا باردةً هي الريقُ، يبتلعُ بها الطعامَ، لو أَمْسَكَ عنه الريقَ لَمَا ابتلعَ الزبدَ الذائبَ، وَشَقَّ له مجاريَ البولِ، ومجاريَ الغائطِ، ومجاريَ العروقِ والشرايين للدورةِ الدمويةِ، ولو نُظِرَ إلى موضعِ عضوٍ واحدٍ من الإنسانِ لوُجِدَ فيه من غرائبِ صنعِ اللَّهِ وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، ومع هذا كلِّه فخالقُ السماواتِ والأرضِ يجعلُ هذه العملياتِ الهائلةَ فيكم وأنتم في بطونِ أمهاتِكم، من غيرِ أن يحتاجَ إلى بِنْجٍ، بل بِنْجُ القدرةِ وعظمةِ الخالقِ، يُفْعَلُ للمرأةِ جميعُ هذا وهي تضحكُ وتفرحُ وتمرحُ وتعصِي خالقَ السماواتِ والأرضِ، لاَ تشعرُ بشيءٍ، لعظمةِ وقدرةِ هذا الإلهِ الخالقِ العظيمِ (جلَّ وعلا)، ثم إن الله (جلَّ وعلا) يخلقُ هذا الإنسانَ بما فيه من الغرائبِ والعجائبِ الذي كُلُّ موضعِ إبرةٍ منه يبهرُ العقولَ بما أَوْدَعَ فيه اللَّهُ مِنْ بارعِ صنعِه وغرائبِ عجائبِه، ثم يخرجُه من بطنِ أُمِّهِ ويسهلُ له طريقَ الخروجِ من ذلك المكانِ الضيقِ كما يأتِي في قولِه: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)﴾ [عبس: آية ٢٠] ثم يُلْهِمُهُ أَخْذَ الثديِ وهو في ذلك الصغرِ، ويلطفُ به حتى يكبرَ ويعظمَ ويكونَ قويًّا يجادلُ في رَبِّهِ، وتلك المحطةُ هي التي نَحْنُ فيها الآنَ، فقد جَاوَزْنَا ما قبلَها من المحطاتِ، وهي التي نحنُ فيها الآنَ، وهذه المحطةُ التي نحنُ فيها هي المحطةُ التي يُؤْخَذُ منها الزادُ، والسفرُ أمامَها طويلٌ، وَالشُّقَّةُ هائلةٌ، فَكَأَنَّ الإنسانَ يُقال له: يا مسكينُ، أنتَ في رحلةٍ عظيمةٍ، وَآخِرُهَا أعظمُ من أَوَّلِهَا، أشدُّ مسافةً وأكبرُ خطرًا وأعظمُ غررًا، فَخُذْ أهبتَك في وقتِ الإمكانِ، وليس موضع يمكنكَ به أخذُها
إلا في هذا الزمنِ، الذي لا تَدْرِي في أَيِّ وقتٍ يقطعُك الموتُ فيه وَيَخْتَرِمُكَ، فعلى الإنسانِ أن يبادرَ بأعظمِ ما


الصفحة التالية
Icon