يعقوبُ. فالقرآنُ كَذَّبَهُمْ وَأَلْقَمَهُمُ الحجرَ حيث قَالَ: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [آل عمران: آية ٩٣] (١). وَالْمُفَسِّرُونَ يقولونَ: إن هذا الذي حَرَّمَ على نفسِه هو لبنُ الإبلِ وَلَحْمُهَا. قالوا: إنه أَصَابَهُ مرضُ (عِرقِ النِّسَا) وأنه نَذَرَ لِلَّهِ إن شَفَاهُ اللَّهُ ليُحَرِّمَنَّ لِلَّهِ أَحَبَّ الطعامِ والشرابِ إليه، وأن ذلك كان جائزًا في شَرْعِهِ، فشفاه اللَّهُ، فَحَرَّمَ لبنَ الإبلِ ولحمَها. هكذا يَقُولُونَ (٢). ومحلُّ الشاهدِ قولُه: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: آية ٩٣] فهذا إلقامُ الحجرِ أنهم كاذبونَ على كتابِ اللَّهِ؛ وَلِذَا قال هنا: ﴿مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾.
وقولُه: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ يقولُ بعضُ العلماءِ (٣): المُعَلَّلُ محذوفٌ ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أَنْزَلْنَا إليكَ هذا الكتابَ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: هو معطوفٌ على معنَى مَا قَبْلَهُ. والمعنَى: كتابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليكَ لأَجْلِ البركاتِ المشتملِ عليها؛ ولتصديقِ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ؛ ولتنذرَ أُمَّ الْقُرَى. وأكثرُ العلماءِ على أن الْمُعَلَّلَ محذوفٌ، والمعنَى: ولتنذرَ أُمَّ القرى أَنْزَلْنَاهُ إليكَ. و (أُمُّ الْقُرَى) هي مكةُ المكرمةُ حَرَسَهَا اللَّهُ. ومعنَى ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ لتنذرَ أَهْلَهَا.
وقولُه: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ يعني: وَمَنْ حَوْلَ أُمِّ الْقُرَى.
_________
(١) انظر: ابن جرير (٧/ ٧).
(٢) انظر: ابن جرير (٧/ ١٣ - ١٥).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٧٩).
الصغير الذي لم يبلغ إذا كان أبوه قد مات، ولو كانت أمه حيّة، هذا هو اليتيم، ويُجمع على (يتامى)، ويستوي في الجمع ذكره وأُنثاه، تقول في جمع اليتيمة: يتامى، وفي جمع اليتيم: يتامى، كما تقدم في قوله: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ [النساء: آية ١٢٧] والمعنى: إذا مات والد الإنسان، وبقي الطفل صغيراً مسكيناً لا يقدر على الدفاع عن نفسه، ولا يقدر على حفظ ماله، فلا تأخذوا ماله وتظلموه لِضَعْفِهِ، بل لا تقربوا مَالَهُ إلا بالتي هي أحسن؛ أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال وأنفعها لليتيم، وذلك بالمحافظة عليه وتَنْمِيته وتثميره بالتجارة في مواقع النَّظَرِ والسَّدَادِ، كما قالت عائشة: «اتجروا في [٢٢/ب] أموالِ الْيَتَامَى لا تأكلها/ الزكاة» (١)،
_________
(١) الحديث بنحو هذا اللفظ جاء مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - بروايات متعددة (وكلها ضعيفة) ومنها:
١ - من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة مال اليتيم، حديث رقم (٦٤١)، (٣/ ٣٣)، وأشار عقبه إلى ضعفه، وأخرجه أيضاً الدارقطني (٢/ ١١٠)، وأبو عبيد في الأموال (١٢٩٩)، والبيهقي (٤/ ١٠٧).
٢ - عن يوسف بن ماهك مرسلاً عند عبد الرزاق (٤/ ٦٦)، والشافعي في الأم (٢/ ٢٩)، وأبو عبيد في الأموال (١٣٠٠)، والبيهقي (٤/ ١٠٧).
وفي الكلام على هذه الرواية والتي قبلها، انظر: تنقيح التحقيق (٢/ ١٣٨٠ - ١٣٨٤، ١٣٨٦)، نصب الراية (٢/ ٣٣١ - ٣٣٢)، تلخيص الحبير (٢/ ١٥٧ - ١٥٨)، إرواء الغليل (٣/ ٢٥٨).
٣ - عن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، عند الطبراني في الأوسط (٤١٦٤).
انظر: نصب الراية (٢/ ٣٣٢)، التلخيص (٢/ ١٥٨)، الإرواء (٣/ ٢٥٩).
وقد ورد موقوفاً على عمر (رضي الله عنه)، عند مالك في الموطأ -بلاغاً- في الزكاة، باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها، حديث رقم: (٥٨٨) ص (١٦٧)، كما أخرجه الشافعي في الأم (٢/ ٢٩)، وأبو عبيد في الأموال (١٣٠١)، وابن أبي شيبة (٣/ ١٤٩ - ١٥٠)، والدارقطني (٢/ ١١٠)، والبيهقي (٤/ ١٠٧).
وانظر: الاستذكار (٩/ ٨٢)، تنقيح التحقيق (٢/ ١٣٨٤)، نصب الراية (٢/ ٣٣٣) تلخيص الحبير (٢/ ١٥٨)، إرواء الغليل (٣/ ٢٥٩).
وإنما الذي ورد عن عائشة (رضي الله عنها) في هذا الباب إنما هو من فعلها، والله أعلم.
قال بعضُ العلماءِ: هي من السلطنةِ والقهرِ؛ لأن المتمسكَ بها يقهرُ خصومَه. وقال بعضُ العلماءِ: الأَلِفُ والنونُ فيها زائدتانِ، وأصلُها من السليطِ الذي يُوقَدُ به ضوءُ المصباحِ؛ لأَنَّ الحجةَ الواضحةَ ضوؤها يكشفُ ظلامَ الجهلِ، وهو معروفٌ، ومنه قولُ الشاعرِ (١):

كَضَوْءِ السِّرَاجِ السَّلِيـ ـطِ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا
ثم قال: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: آية ٧١] صيغةُ الأمرِ هنا في قولِه: ﴿فَانْتَظِرُوا﴾ للتهديدِ وقد تَقَرَّر في فَنِّ المعانِي في مبحثِ الإنشاءِ (٢)، وفي فَنِّ الأصولِ في مبحثِ الأمرِ (٣): أن مِنَ [المعانِي التي تَرِدُ لها صيغةُ:] (٤) (افعل) التهديدَ.
﴿فَانْتَظِرُوا﴾ ومعنَى الانتظارِ: هو التربصُ لشيءٍ يأتِي.
﴿إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْنَاهُ﴾ أي: أَنْجَيْنَا هودًا وَأَنْجَيْنَا الذين آمنوا مع هودٍ: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ لأنهم مؤمنونَ بنا ﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: اسْتَأْصَلْنَاهُمْ بالهلاكِ، وذلك الهلاكُ بالريحِ العقيمِ.
ويذكرونَ في قصتِهم أن الريحَ تقلعُ الرجلَ من مكانِه فترفعُه إلى السماءِ كأنه ريشةٌ ثم تُلْقِيهِ في الأرضِ مُنَكَّسًا على رأسِه فينكسرُ
_________
(١) البيت للجعدي، وهو في تاريخ دمشق (٤٢/ ٤٦١)، وفي اللسان (مادة: سلط)، و (مادة: نحس)، جمهرة أشعار العرب للقرشي (١/ ١٣٧)، الكامل للمبرد (١/ ٤٧٧). وصدره في بعض المصادر: «يُضيء كضَوء سِرَاجِ... ». وفي بعضها: «تُضيءُ كمثلِ سِراجِ الذُّبال».
(٢) انظر: الإيضاح للقزويني ص١٤٨.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٤) في الأصل: «صيغ».
تباشر القتال قالوا: لأن مَلَكًا واحدًا لو شاء أن يفني ما على وجه الأرض لما أتعبه ذلك، فإن جبريل لما صاح بثمود أهلكهم مرة واحدة، ولما رفع قرى قوم لوط أهلكهم مرة واحدة، لو أراد أن يمسحهم بريشة من جناحة لما ترك لهم أثرًا.
وقال بعض العلماء: لا مانع من قتال الملائكة، ولم يُنسب الأمر إلى الملائكة ليجعلهم عددًا ومددًا، فيكون الفتح والظفر والنصر كأنه على أيدي الصحابة؛ إذ لو كان المَلَك أهلكهم لما كان للصحابة في هذه الوقعة العظيمة مزية، فلما اختلطوا يعني صاروا يقتلونهم فأنزل الله المدد من السماء، وثبَّت قلوب المؤمنين، وألقى الرعب في قلوب الكافرين، كما سيأتي في قوله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢)﴾ [الأنفال: الآية ١٢].
وقد نهى ﷺ في ذلك اليوم عن قتل بعض الناس (١)، نهى عن قتل العباس بن عبد المطلب عمه (رضي الله عنه). وقد بدرت من أبي حذيفة بن عتبة (رضي الله عنه) تلك البادرة التي ندم عليها، وصار في خوف دائمًا، حتى استشهد فيمن استشهد من الصحابة في اليمامة أيام قتال مسيلمة؛ لأن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة (رضي الله عنه) - أعني أبا حذيفة - لما نهى ﷺ عن قتل العباس قال: أنقتل أبناءنا وإخواننا ونترك العباس؟ والله إن لقيته لألجمنه السيف (٢). ولما قالها ندم وجزع منها وصار خائفًا منها دائمًا حتى
_________
(١) السيرة لابن هشام ص٦٦٨، البداية والنهاية (٣/ ٢٨٤).
(٢) البيهقي في الدلائل (٣/ ١٤٠)، السيرة لابن هاشم ص٦٦٨، البداية والنهاية (٣/ ٢٨٤).
يكونُ من السرعةِ ليأخذَ زَادَهُ ويستعدَّ عدتَه لبقيةِ هذا السفرِ العظيمِ الهائلِ الشاقِّ، ثم بعدَ هذه المرحلةِ ننتقلُ جميعًا إلى مرحلةٍ تُسَمَّى مرحلةَ القبورِ، نصيرُ جميعًا إلى القبورِ كما صَارَ إليها مَنْ قَبْلَنَا. وَذَكَرُوا أن أعرابيًّا بدويًّا سمع قارئًا يقرأُ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢)﴾ [التكاثر: الآيتانِ ١، ٢]. قال: انْصَرَفُوا وَاللَّهِ من المقابرِ إلى دارٍ أُخْرَى (١). لأن الزائرَ مُنْصَرِفٌ لا محالةَ، ثم إنهم يومَ القيامةِ يُخْرَجُونَ من القبورِ إلى محطةٍ أخرى وهي محطةُ عرصاتِ الحشرِ، يجتمعونَ فيها جميعًا في صعيدٍ واحدٍ ينفذُهم البصرُ ويُسمعُهم الدَّاعِي، ثم يَقْضِي اللَّهُ بينَ خلقِه بالشفاعةِ الكبرى، شفاعةِ سيدِ الأنبياءِ محمدٍ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، فإذا انْقَضَى حسابُهم وَتَمَّتْ مجازاتُهم، عندَ ذلك صدورًا أشتاتًا ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾ [الزلزلة: آية ٦] فمذهوبٌ به ذاتَ اليمينِ إلى الجنةِ، ومذهوبٌ به ذاتَ الشمالِ إلى النارِ، ولاَ يجتمعونَ بَعْدَ ذلك، وهذا قولُه تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾، وهذه الأشتاتُ قَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ معناها في سورةِ الرومِ، في قولِه تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)﴾ [الروم: الآيات ١٤ - ١٦].
فإذا دَخَلُوا أماكنَهم دَخَلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، وفي ذلك الوقتِ يُدْعَى بالموتِ في صورةِ كبشٍ أملحَ، في مَرْأَى كُلٍّ منهم ثم يُذْبَحُ، ويُقال: يا أهلَ الجنةِ خلودٌ فلاَ موتَ، ويا أهلَ النارِ خلودٌ فلاَ موتَ، وذلك هو معنَى قولِه: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾
_________
(١) ذكره ابن كثير في التفسير (٤/ ٥٤٥).


الصفحة التالية
Icon