وبقولِه: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ تَمَسَّكَ جماعاتٌ من اليهودِ، قالوا: لَمْ يُرْسَلْ مُحَمَّدٌ - ﷺ - إِلاَّ إِلَى جزيرةِ الْعَرَبِ؛ لأنه قال لَهُ: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ في مَوْضِعَيْنِ (١).
وقد أَجْمَعَ العلماءُ، وَدَلَّ القرآنُ العظيمُ، وَالسُّنَّةُ الصحيحةُ، وإجماعُ العلماءِ، أن رسالةَ نَبِيِّنَا - ﷺ - شاملةٌ عامةٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ (٢). وعليه يقولُ السائلُ: ما الجوابُ عن قولِه: ﴿أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ والاقتصارُ على هذا هنا، وفي قولِه: ﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾؟
للعلماءِ عنه جَوَابَانِ (٣):
أحدُهما: أَنَّ ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ صادقٌ بالدنيا كلها؛ لأن الدنيا عِنْدَ اللَّهِ شيءٌ بسيطٌ كأنها نقطةٌ.
وقال بعضُ العلماءِ: غَايَةُ ما في البابِ أن هذه الآيةَ الكريمةَ اقْتَصَرَتْ على إنذارِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَسَكَتَتْ عَمَّا سوى ذلك، وَجَاءَتْ آياتٌ أُخَرُ صَرَّحَتْ في الإنذارِ بالتعميمِ، كقولِه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: آية ١] ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: آية ١٥٨] وقال جل وعلا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: آية ٢٨]
_________
(١) انظر: المصدر السابق.
(٢) انظر: ابن كثير (٢/ ١٥٦ - ١٥٧)، القاسمي (٦/ ٦٢٩).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٧٩)، ابن كثير (٢/ ١٥٦)، فتح القدير (٢/ ١٣٩)، القاسمي (٦/ ٦٢٩)، أضواء البيان (٧/ ١٥٨)، دفع إيهام الاضطراب (مطبوع في آخر الأضواء (٩/ ١١٩).
فالتي هي أحسن: المحافظة عليه من الضياع، والتثمير: هو تنميته بالرِّبْح بالوجوه المأمونة، التي يغلب على الظن -بحسب العادة- أن فيها سلامة وربحاً لا ضياعاً، ومن التي هي أحسن: أن القائم على مال اليتيم -وإن اشتغل في حفظه والتجارة فيه- إن كان له مال لنفسه يأكل من مال نفسه، ويثمّر لليتيم ماله مجاناً (١)، كما تقدم في قوله: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ﴾ [النساء: آية ٦] وهذه من الدلالات على أن هذا الشرع الكريم شرع سَمَاوِي، يراعي حقوق الضعيف، ويحافظ على مكارم الأخلاق.
وقوله: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ (حتى) حرف غاية بمعنى (إلى)، والمُغيَّا بها: النهي عَنْ قُرْبِ مَالِ اليتيم بغير التي هي أحسن، والمضارع بعد (حتى)، منصوب بـ (أن) محذوفة، وهو في محل جر بـ (حتّى) والمعني بـ (حتى): إلى، إلى أن يبلغ أشده؛ أي: إلى بلوغ أشُده. وظاهر هذه الغاية ليس مراداً بإجماع العلماء (٢)؛ إذ ليس
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢٢١)، القرطبي (٧/ ١٣٤).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٥٢)، الدر المصون (٥/ ٢٢٠)، أضواء البيان (٢/ ٢٧٨ - ٢٧٩).
رأسُه، وتسقطُ أُمُّ رَأْسِهِ. ويدلُّ على هذه قولُه تعالى: ﴿تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: آية ٢٠] والنخلُ المنقعرُ معناه: المنقلعُ من الأرضِ بعروقِه. وهذا يدلُّ على عِظَمِ أجسامِهم وَطُولِهَا، وأن اللهَ شَبَّهَهُمْ بقولِه: ﴿نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ وإن كان العربُ يُشَبِّهُونَ القتلى مُطْلَقًا بالنخلِ المنقعرِ، ومنه قولُ العباسِ بنِ مرداسٍ السلميِّ (١):

حَتَّى رَفَعْنَا وَقَتْلاَهُمْ كَأَنَّهُمْ نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف: آية ٧٢] وإنما عُبِّرَ عن الاستئصالِ بقطعِ الدابرِ لأن الدابرَ هو الذي يَمْشِي وراءَك عند دبركَ. تقول: مَشَى زيدٌ فَدبَرَهُ عمرٌو. معناه: كان يمشي في أثرِه عن دبرٍ منه. والأولادُ - النسلُ - كأنه دابرٌ للآباءِ، إذا ماتَ هؤلاءِ بَرَزَ هذا دُبرهم يمشي من بعدِهم حَيًّا خلفَهم. وقطْعُ الدابرِ معناه: إهلاكُ الجميعِ حتى لا يَبْقَى به نَسْلٌ يكونُ خَلفًا من الآباءِ. بل اللهُ دَمَّرَ الجميعَ وأهلَكَهم عن آخرهم. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ وهذا يدلُّ على أن التكذيبَ بآياتِ اللهِ مستوجبٌ للهلاكِ الْمُسْتَأْصِلِ.
وقولُه: ﴿وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ تأكيدٌ. وما كانوا في عِلْمِ اللَّهِ مؤمنين أبدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ طَبَعَهُمْ على الشقاوةِ، والعياذُ باللهِ جل وعلا.
ويزعم المفسرونَ أن نبيَّ اللهِ هودًا هو وَمَنْ مَعَهُ إنما جاءهم من الرياحِ ريحٌ باردةٌ لَيِّنَةٌ قدرَ ما يكون مُسْتَلَذًّا من الريحِ، ولم يَنَلْهُمْ منها شيءٌ (٢).
_________
(١) البيت في ديوانه ص٧٢، وأوله: «حتى تولوا.. ».
(٢) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٥١٣)، البداية والنهاية (١/ ١٣٠).
استشهد، وكذلك لما جُرّ قتلى قريش إلى القليب، وكان أبوه عتبة يُجرّ إلى القليب، رُؤيت الكراهة في وجهه فاعتذر إلى رسول الله ﷺ وقال: إن الكراهية التي ظهرت في وجهي ليست انتصارًا لكافر، ولكن عتبة هذا كنت أعهد فيه عقلاً وحزمًا وحلمًا، كنت أظن أن عقله وحِجَاه يمنعه من ميتة السوء هذه، وأنه يؤمن بالله!! فاعتذر بهذا (١).
وممن نهى عنه صلى الله علي وسلم ذلك اليوم: أبو البختري بن هشام الذي كان من أحسن الناس معاملة لرسول الله وبني هاشم، لم يؤذهم قط، وأيام حصار قريش لهم في الشِّعب كان معهم، وهو من النفر الذين سعوا في نقض الصحيفة التي كتبوا فيها مقاطعتهم، فلم يؤذهم قط، فلم يجدوا منه إلا الإحسان، فنهى ﷺ عن قتله، فالتقى به الْمجذَّر بن زياد البلوي (رضي الله عنه) حليف الأنصار، فقال له: يا أبا البختري: إن نبينا ﷺ نهانا عن قتلك فلا نتعرض لك. وكان مع أبي البختري زميل يُسمى جنادة بن مليحة، فقال له أبو البختري: والزميل؟ قال: لم ينهنا ﷺ عن قتل الزميل. قال: أما أنا فلا يُقتل زميلي حتى أُقتل دونه، وذكر رجزه المشهور:
لا يُسْلِمُ ابنُ حُرةٍ زَميلَه... حَتى يَمُوتَ أو يَرَى سَبيلَه...
ولا يفارق جزعًا أكِيلَهُ (٢)
ولذا صار يقاتل المُجَذَّرَ دون ذلك الزميل فقتله المُجَذَّر (رضي الله عنه) وكان المُجَذَّر بن زياد البلوي (رضي الله عنه) يرتجز
_________
(١) السيرة لابن هشام ٦٨٠، البداية والنهاية (٣/ ٢٩٤).
(٢) السيرة لابن هشام ص٦٦٩.
[مريم: آية ٣٩] إِذْ قُضي الأمرُ وَذُبِحَ الموتُ واستقرَّ كلٌّ في منزلِه استقرارًا أبديًّا، فهذا الاستقرارُ الذي لا تَحَوُّل بعدَه، من أجلِه قِيلَ للدارِ (الآخرة) لأنها ليس بعدَها محطةٌ أخرى ينتقلُ إليها، فهي آخِرُ المحطاتِ التي ينتقلُ إليها، لا يبغونَ عنها حِوَلاً في الجنةِ، ولا خروجَ لهم من النارِ، وهذا هو معنَى قولِه: (الآخرة).
قولُه تعالى: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ﴾ أي: في جنبِها وبالنسبةِ والإضافةِ إليها ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ جِدًّا، قد جاء عن النبيِّ ﷺ أنه ضَرَبَ لذلك مَثَلاً بِمَنْ وَضَعَ إصبعَه في البحرِ، فَلْيَنْظُرْ بماذا يخرجُ به أصبعُه من البحرِ (١)، فذلك بمثابةِ قلةِ الدنيا بجنبِ الآخرةِ، وهذا معنَى قولِه: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ لأَنَّ الدنيا دارٌ قليلٌ ما فيها، وأهلُها الذين كانوا يتمتعونَ بها إذا بُعِثُوا يحلفونَ أنهم ما مَكَثُوا فيها إلا ساعةً كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ [الروم: آية ٥٥] وَبَيَّنَ أن أقواهم عقلاً وأثبتَهم نظرًا يَدَّعِي أنهم مَكَثُوا يومًا أو بعضَ يومٍ، وهو قولُه في (طه): ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا﴾ [طه: آية ١٠٤] وهذا معنَى قولِه: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ (الدنيا) تأنيثُ الأَدْنَى، وهي في غايةِ الدناءةِ والدنوِّ؛ لأنها قِيلَ من الدنوِّ بأنها عَرَضٌ عاجلٌ الآنَ، وقيل من الدناءةِ بالنسبةِ إلى الآخرةِ (٢).
_________
(١) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: فناء الدنيا. حديث رقم: (٢٨٥٨) (٤/ ٢١٩٣).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon