وكذابِ صنعاءَ: الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ (١)، كُلٌّ مِنْهُمَا ادَّعَى أنه نَبِيٌّ كَذِبًا وافتراءً على اللَّهِ،
فَبَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أنه لاَ أحدَ أظلمَ مِمَّنْ يَفْتَرِي الكذبَ على اللَّهِ، أو يَدَّعِي أن اللَّهَ أَوْحَى إليه وهو لَمْ يُوحَ إليه.
وقولُه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ الاستفهامُ إنكاريٌّ. والمعنَى: لاَ أحدَ أظلمُ ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾.
وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أَنَّ مثلَ هذه الآيةِ فيه سؤالٌ معروفٌ؛ لأَنَّ مَعْنَى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ معناهُ: لاَ أحدَ أظلمُ. وإذا كانَ المعنَى في قولِه هنا: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى﴾ لاَ أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا. فَإِنَّ هَذَا تُشْكِلُ عليه آيَاتٌ أُخَرُ كقولِه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة: آية ١١٤] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [الكهف: آية ٥٧] إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: لاَ أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى، لاَ أَحَدَ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللَّهِ، لاَ أحدَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فأعرضَ عنها. فَيَنْشَأُ من هذا سؤالٌ، فيقولُ طالبُ العلمِ: كيفَ يقولُ: لاَ أحدَ أظلمُ من هذا، ثُمَّ يقولُ في موضعٍ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٣٣)، أسباب النزول للواحدي ٢٢٠، الدر المنثور (٣/ ٣٠). قال ابن عاشور تعقيبا على هذا القول: «وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادعى النبوة قبل هجرة النبي - ﷺ - إلى المدينة؛ لأن السورة مكية. والصواب: أن مسيلمة لم يدَّع النبوة إلا بعد أن وفد على النبي - ﷺ - في قومه - بني حنيفة - بالمدينة سنة تسع طامعا في أن يجعل له رسول الله - ﷺ - الأمر بعده، فلمَّا رجع خائبا ادعى النبوة في قومه. وفي تفسير ابن عطية أن المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسود العنسى المتنبئ بصنعاء. وهذا لم يقله غير ابن عطية، وإنما ذكر الطبري الأسود تنظيرا مع مسيلمة. فإن الأسود العنسى ما ادعى النبوة إلا في آخر حياة رسول الله - ﷺ -» اهـ التحرير والتنوير (٧/ ٣٧٥).
فشكوا ذلك إلى النبي - ﷺ -، فأنزل الله آية البقرة المعروفة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ﴾ (١)
[البقرة: آية ٢٢٠] ﴿لأعْنَتَكُمْ﴾ أي: لحملكم العنت والمشَقَّة بحفظ أموالهم وطعامِهم معزولاً عن طعامكم؛ لأن ذلك فيه حرج ومشقة، إلا أنه خَوَّفَهُمْ بقوله: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾ فمن خالط اليتيم، وخلط ماله بماله يريد مصلحة اليتيم والتوفير له، فالله يعلم نيته ويُثيبه، ومن كان يريد بمخالطة مال اليتيم وطعامه لطعامه أن يأكل مال اليتيم خديعة في غضون ذلك، فالله يعلم نيته، ويجازيه على ذلك، وهذا معنى قوله: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾ وقال هنا: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال، وأتمها وأحوطها وأحفظها لمال اليتيم، بالمحافظة عليه وتثميره وتنميته بالطرق المأمونة، التي يغلب على الظن أنها لا خسار فيها ولا ضياع، وهذا معنى قوله: ﴿إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾
_________
(١) أخرجه أبو داود في الوصايا، باب مخالطة اليتيم في الطعام، حديث رقم: (٢٨٥٤)، (٨/ ٧٣) والنسائي في الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه، حديث رقم: (٣٦٦٩، ٣٦٧٠)، (٦/ ٢٥٦)، والحاكم (٢/ ١٠٣، ٣٠٣، ٣١٨)، والبيهقي (٦/ ٢٨٤)، وابن جرير (٤/ ٣٤٩، ٣٥٠، ٣٥١، ٣٥٢، ٣٥٣، ٣٥٤)، والواحدي في أسباب النزول ص (٧٢) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وانظر: صحيح أبي داود (٢/ ٥٥٤ - ٥٥٥)، وصحيح النسائي (٢/ ٧٧٩) وقد جاء ذلك أيضاً في روايات مرسلة عن سعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وقتادة، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد. انظر ابن جرير (٤/ ٣٥٠ - ٣٥٢)، أسباب النزول للواحدي ٧١ - ٧٢.
الدينُ؛ لأنه الخالقُ الرازقُ الْمُحْيِي المميتُ الذي بيدِه الأمرُ، وإليه يصيرُ كُلُّ شيءٍ، فهو المعبودُ وحدَه.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ الْبَيِّنَةُ: هي الدليلُ الذي يقومُ على الحقِّ فيتركُه واضحًا لا شبهةَ فيه، ومنه قِيلَ للشهودِ على الحقِّ: (بينة) لأنهم يُثْبِتُونَهُ ويظهرون أنه حَقٌّ حتى يبقَى لاَ لَبْسَ فيه. فَكُلُّ دليلٍ يُظْهِرُ الحقَّ وَيُبَيِّنُهُ حتى لا يبقى فيه لبسٌ تُسَمِّيهِ العربُ: (بَيِّنَةً). وهذه البينةُ جاءتهم من رَبِّهِمْ. (مِن) لابتداءِ الغايةِ. أعنِي: مبدأُ إتيانِها من ربكم. أي: خالقِكم وسيِّدكم ومدبرِ شؤونكم. فكأن قائلاً قال: ما هذه الْبَيِّنَةُ والمعجزةُ الواضحةُ التي لم تَتْرُكْ في الحقِّ لَبْسًا، وَأَنَّ صالحًا رسولٌ من ربِّ العالمين؟ فَسَّرَ البينةَ بقولِه: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأعراف: آية ٧٣] يذكرونَ في قصتِهم أن سيدَهم كان رجلاً يُسَمَّى: جندعَ بنَ عمرٍو. وَبَنُو عمرٍو من ساداتِ ثمودَ وبطونِهم الكبارِ العظامِ، فلما أَلَحَّ عليهم صالحٌ في الدعاءِ إلى اللَّهِ زَعَمَ المؤرخونَ (١) والمفسرونَ (٢) أنهم قالوا له: «اذْهَبْ مَعَنَا إلى عِيدِنَا الذي نجتمعُ فيه، فنذهبُ بأصنامِنا وندعو أصنامَنا وتدعُو أنتَ إِلَهَكَ، فإن اسْتُجِيبَ لأصنامِنا اتَّبِعْنَا وإن اسْتَجِيبَ لإِلَهِكَ اتَّبَعْنَاكَ. فقال لهم: نَعَمْ. فخرجَ معهم فَدَعَوْا أصنامَهم فلم يستجيبوا لهم بشيءٍ - كما هو معلومٌ لاَ يَخْفَى- فاقترحَ عليه سَيِّدُهُمْ، أو جماعتُهم - تَعَنُّتًا - قالوا: هذه الصخرةُ - يزعمونَ أنها كانت صخرةً كبيرةً كالهضبةِ، ويزعمونَ أنها
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ١٣٤).
(٢) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٥٢٨).
وأعط كل رجل لقريبه فليقتله؛ ليعلم الله أن لا هوادة بيننا وبين الكفار. قال بعضهم: وقال عبد الله بن رواحة: إنك في واد كثير الحطب فأضرم عليهم نارًا. قالوا: والنبي ﷺ فيما ذكره المؤرخون قال: «إن أبَا بَكْرٍ قالَ كَمَا قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)﴾ [المائدة: الآية ١١٨]، وإنَّ عُمَرَ قَالَ كَمَا قَالَ مُوسَى: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ [يونس: الآية ٨٨] وَإِنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ قالَ كَمَا قَالَ نُوحٌ: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ (٢٦) إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ﴾ [نوح: الآيتان ٢٦، ٢٧]» فاستقر أمره على أنهم يأخذونهم ليستعينوا بفدائهم على الحرب؛ لأنهم كانوا يحتاجون إلى المال (١).
وقال بعض المؤرخين: إن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: خَيِّر أصحابك أن يقتلوهم أو يفدوهم ويستعينوا بالمال على أن يُقتل منهم قدر الأُسارى في العام القادم. وأنهم قالوا: نستعين بالمال الآن وينال الشهادة منا هذا العدد في العام القادم (٢). فكر بعضهم هذا، وأنه قُتل
_________
(١) أحمد (١/ ٣٨٣) وابن أبي شيبة (٥/ ٤١٧)، وعبد الرزاق (٥/ ٢٠٨)، والترمذي في الجهاد، باب ما جاء في المشورة، حديث رقم: (١٧١٤) (٤/ ٢١٣)، وأخرجه في موضع آخر، انظر الحديث رقم: (٣٠٨٤)، والحاكم (٣/ ٢١)، وابن أبي حاتم (٥/ ١٧٣١)، والبيهقي في الدلائل (٣/ ١٣٩).. وذكره السيوطي في الدر (٣/ ٢٠١) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.
(٢) أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في قتل الأُسارى والفداء. حديث رقم: (١٥٦٧) (٤/ ١٣٥)، والنسائي في الكبرى، كتاب السير، باب قتل الأسرى. حديث رقم: (٨٦٦٢) (٥/ ٢٠٠)، والبيهقي في السنن (٩/ ٦٨)، وفي الدلائل (٣/ ١٣٩)، والحاكم (٢/ ١٤٠) وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ. ووافقه الذهبي. وابن حبان (الإحسان ٧/ ١٤٣) عن علي (رضي الله عنه). وقال ابن كثير (٣/ ٢٩٨) «غريب جدًّا» اهـ.
وأخرجه عبد الرزاق (٥/ ٢١٠)، وابن سعد (٢/ ١٤) عن عبيدة مرسلاً.

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
فَعَطَفَ النساءَ على القومِ، وربما دَخَلَتِ النساءُ في اسمِ القومِ بحكمِ التبعِ إذا دَلَّتْ على ذلك قرينةٌ خارجيةٌ، ومنه قولُه تعالى في سورةِ النملِ: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣)﴾ [النمل: آية ٤٣].
وقولُه: ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾ قال بعضُ العلماءِ: الضميرُ المنصوبُ في «تَضُرُّوهُ» عائدٌ إلى اللَّهِ، أي: لاَ تَضُرُّوا اللَّهَ شيئًا بعدمِ امتثالِكم أمرَه ولاَ سعيِكم في إعلاءِ كلمتِه (١). وهذا الوجهُ هو الذي يشهدُ له القرآنُ كقولِه (جلَّ وعلا): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ [محمد: آية ٣٢] وتدلُّ على هذا الآياتُ القرآنيةُ الكثيرةُ أن اللَّهَ غَنِيٌّ عن خَلْقِهِ الذين يدعوهم لطاعتِه، فإنما يَدْعُوهُمْ لنفعِهم، فامتثالُهم نَفْعُهُ لهم، وتمردُهم ضررُه عليهم، كما قال تعالى: ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن: آية ٦]، ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: آية ٨]، ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: آية ٧] إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ.
وقال بعضُ العلماءِ: الضميرُ المنصوبُ عائدٌ إلى النبيِّ ﷺ (٢)، أَيْ: لاَ
تَضُرُّوا النبيَّ ﷺ بذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ له بنصرِه، كما يأتِي في قولِه: ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ... ﴾ الآيةَ [التوبة: آية ٤٠]
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ١٤٢)، ابن كثير (٢/ ٣٥٨).
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ١٤٢).


الصفحة التالية
Icon