آخَرَ: لا أحدَ أظلمُ من هذا، في شَيْءٍ آخَرَ؟
وللعلماءِ عن هذا السؤالِ أجوبةٌ معروفةٌ (١)، أشهرُها اثنانِ، فيهما الكفايةُ:
أَحَدُهُمَا: أنه لاَ معارضةَ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الآياتِ، وأن هؤلاء المذكورينَ لا يوجدُ أحدٌ أظلمُ منهم، وهم مُتَسَاوُونَ في مرتبةِ الظلمِ، فَلاَ يكونُ هنالكَ تعارضٌ، كما لو قُلْتَ: لاَ أَحَدَ أعلمُ في هذا البلدِ مِنْ زَيْدٍ، ولا أحدَ أعلمُ فيه من عمرٍو. فيكونُ زيدٌ وعمرٌو مُسْتَوِيَيْنِ في العلمِ، ولا يَفُوقُهُمَا أحدٌ فيه، فيكونُ كِلاَ الْمَقَالَيْنِ حَقًّا.
الوجهُ الثاني: أن هذه المواضعَ تتخصصُ بِصِلاَتِهَا. ومعنَى (تتخصصُ بِصِلاَتِهَا): أَنَّ كُلَّ واحدٍ منها تُفَسِّرُهُ صلةُ مِوْصُولِهِ، فيكونُ المعنَى هنا: لاَ أحدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا، ولا أحدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللَّهِ، ولاَ أحدَ مِنَ الْمُعْرِضِينَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عنها إلى آخِرِهِ.
وقولُه: ﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ افتراءُ الكذبِ: اختلاقُه. والكذبُ في أَصَحِّ مَعَانِيهِ: هو عدمُ مطابقةِ الخبرِ للواقعِ (٢)، فالكفارُ كَذَّابُونَ، خَبَرُهُمْ لاَ يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وإن ظَنُّوا في نفسِ الأمرِ أنه خيرٌ وَسَدَادٌ، كما قال جل وعلا: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: آية ٣٠] وقال جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
_________
(١) انظر: البحر المحيط لأبي حيان (١/ ٣٥٧، ٤١٥)، البرهان للزركشي (٤/ ٧٤ - ٧٥)، أضواء البيان (٤/ ١٤٣ - ١٤٤)، دفع إيهام الاضطراب (ملحق في آخر الأضواء ٩/ ٢٥)، قواعد التفسير (٢/ ٥٢٨).
(٢) انظر: التعريفات للجرجاني ٢٣٤.
أي: يبلغ الحلم، وُيؤنَس منه رُشد، فادفعوا إليه ماله، وأشهدوا عليه إذا دَفَعْتُمُوه إليه.
ثم قال: ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾ هذه أوامر اجتماعية عظيمة، تدل على كمال تشريع الإسلام، ورعاية دين الإسلام لمصالح البشر، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها.
والمكيال والميزان هما الآلتان التي جعلهما الله (جل وعلا) لتُضبط بهما المبيعات، وهذا من فَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ بخلقه؛ لأن الله خلق الإنسان محتاجاً للغذاء، ومُفْتَقِراً للنِّسَاء، وخلق له ما في الأرض جميعاً، ولم يَتْرُكْه سدًى، فَأَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَى طَعَامِ أخيك، وأخوك محتاج إلى طعامٍ آخر عندك، فلو لم يجعل الله المقادير بمكيال وميزان تَعْرِف به قدر ما تدفع وقدر ما تأكل لتَهَارَشْتُمْ على ذلك تَهَارُشَ الحُمُر والكلاب، فالميزان والمكيال آلات جعلها الله (جل وعلا) لِخَلْقِهِ ليأخذ كل واحد منهم غرضه من أخيه طيبة نفسه، عارفاً قدر ما أَخَذَ، وقدر ما أُخذ منه، طيب النفس بذلك، بحيث ينتفع كلٌّ من أخيه، وتتبادل المصالح عن طيب نفس وسماحة وسخاء، ولذا قال: ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ قال بعض العلماء: الكيل هنا معناه المكيال، وإيفاء الكيل وإيفاء المكيال راجعان إلى شيء واحد (١)،
وكذلك إيفاء الميزان وإيفاء الوزن معناهما واحد، والله (جل وعلا) يعلم أن بعض الأخِسَّاء من الذين يتولّون الكيل والوزن عندهم حيل دقيقة، ينقصون بها حقوق الناس إذا كانوا يكيلون
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ١٣٦)..
تُسَمَّى (الكاثبةَ) - أَخْرِجْ لنا منها ناقةً مخترجةً. معناه: هي كالبختيةِ، تكونُ جوفاءَ وَبْرَاءَ عُشراء، فان أخرجتَها لنا على هذا الوصفِ اتَّبَعْنَاكَ.
فأخذ صَالِحٌ عليهم عهودَ اللهِ ومواثيقَه أنه إن أَخرَجَ لهم اللهُ تلك الناقةَ من تلك الصخرةِ الصَّماءِ اتَّبَعُوهُ، فلما أَخَذَ عليهم المواثيقَ يقولُ المفسرونَ: إنه قام فصلَّى ركعتين وَدَعَا اللهَ تعالى وَهُمْ ينظرونَ، فلما دَعَا اللهَ تَحَرَّكَتِ الصخرةُ وَتَمَخَّضَتْ تمخضَ النَّتُوجِ عن وَلَدِهَا، فانشقت عن تلك الناقةِ، عُشْراءَ، وَبْرَاءَ، جَوْفَاءَ، ضخمةً بالغةً في غايةِ الضخمِ.
ثم إنها وَلَدَتْ فصيلاً ضخمًا مثلَها وهم ينظرونَ، فلما عَايَنُوا هذا أسلمَ رئيسُهم جندعُ بنُ عمرٍو وَمَنْ كان معه من الرهطِ الذين يُطِيعُونَهُ، وحاولَ كُبراءُ ثمودَ أن يُسلموا كلُّهم لَمَّا عَايَنُوا من آياتِ اللهِ، فجاءهم خبثاءُ منهم، منهم ذؤابُ بنُ عمرِو بنِ لَبِيدٍ، بعضُهم يقولُ: ابنُ عمرِو بنُ أَسَدٍ، والحُبابُ صَاحِبَا آلهتهم التي يَسْدنُونَهَا، وربابُ بنُ صمعر، وجماعةٌ من رؤسائِهم، فَزَيَّنُوا لهم الارتدادَ، وأن لا يتبعوا صَالِحًا، فَثَبَّتُوهُمْ على الكفرِ والعياذُ بالله. وكان فيهم رجلٌ يُسَمَّى: شهابَ بنَ خليفةَ، ابن عَمِّ سيدِهم جندعَ بنِ عمرٍو، كان من أَعَزِّ الفتيانِ في ثمودَ، ومن أفاضلِهم وأماثلِهم المتَّبعين، فدعاه مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قومِه من بني عمرو ليُسلم فمنعه الخبيثُ ذؤابُ بنُ عمرٍو وربابٌ وَمَنْ معهم من الأعزاءِ من كفرةِ ثمودَ. وكان شاعرُهم المُسلم يقولُ في ذلك (١):

وَكَانَتْ عُصْبةٌ مِنْ آلِ عَمْرٍو إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا
عَزِيزَ ثَمُودَ كُلَّهُمُ جَمِيعًا فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا
لأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا وَمَا عَدَلُوا بِصَاحِبِهِمْ ذُؤَابَا
_________
(١) الأبيات في ابن جرير (١٢/ ٥٣٠)، البداية والنهاية (١/ ١٣٤).
منهم سبعون يوم أحد لما أسروا السبعين هذه. هكذا قاله بعض المؤرخين، والذي جاء به القرآن أن الذين رأوا أن يقتلهم ويضعفوا شوكة الكفر بقتلهم أن رأيهم كان هو الصواب، وأن الله تعالى تجاوز لأهل بدر ولو ارتكبوا غير ذلك، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: الآية ٦٧] ومعنى: ﴿يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ أي: يوجع فيها قتلاً ليضعف شوكة الكفر بقتل الرجال وقتل الصناديد والرؤوس، ثم قال: ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨)﴾ [الأنفال: الآية ٦٨] ثم بعد ذلك قال: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا﴾ [الأنفال: الآية ٦٩].
وقال النبي ﷺ للعباس: «افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخَوَيْكَ: عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفلَ بْنَ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ». فقال: لا مال عندي. قال له صلى الله عليه وسلم: «عِنْدَما أَرَدْت الخُروج أَخَذْتَ المَالَ الفُلاَنِيَّ ودَفَنْتَهُ فِي محلِّ كَذا وقُلْتَ لأُمِّ الفَضْلِ: إِنْ لَمْ أَرْجِعْ فَاسْتَعِينُوا بِهَذا». فقال: والله لا يعلم هذا غيري وغير أم الفضل، وأشهد أنك رسول الله. وفدى نفسه وابني أخويه وحليفًا له (١).
_________
(١) أخرجه الحاكم (٣/ ٨١) وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» اهـ ووافقه الذهبي. والبيهقي في الدلائل (٣/ ١٤٣)، وفي السنن (٦/ ٣٢٢)، وأبو نعيم في الدلائل (٢/ ٢٧١)، والواحدي في أسباب النزول ص ٢٤١. وذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (٣/ ٢٩٩) وعزاه لابن إسحاق. وذكره السيوطي في الدر (٣/ ٢٠٤).
وقولُه تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة: آية ٣٩] معناه: أنه (جلَّ وعلا) قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، فهو قادرٌ على ما شَاءَ، وقادرٌ أيضًا على ما لم يَشَأْ، فهو (جَلَّ وَعَلاَ) قادرٌ على هدايةِ أبِي بكرٍ الصديقِ، وقادرٌ على هدايةِ أبِي لَهَبٍ، لاَ شَكَّ أنه قادرٌ على الأَمْرَيْنِ، وقد أَرَادَ أحدَ الْمَقْدُورَيْنِ، وهو هدايةُ أبِي بكرٍ، وَلَمْ يُرِدِ المقدورَ الثانيَ وهو هدايةُ أبِي لهبٍ، فهو (جلَّ وعلا) قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، لا يَتَعَاصَى عليه شيءٌ، يقولُ للشيءِ: كُنْ فَيَكُونُ، خَلْقُهُ لجميعِ البشرِ كخلقِه لنفسٍ واحدةٍ ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: آية ٢٨] لأنه (جلَّ وعلا) لا يَتَعَاصَى على قدرتِه شيءٌ سبحانَه (جل وعلا).
[٧/ب] / يقولُ اللَّهُ جلَّ وعلا: ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)﴾ [التوبة: آية ٤٠].
هذه الآيةُ يقولُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) فيها للذين تَكَاسَلُوا عن غزوةِ تبوكَ وَتَثَاقَلُوا وَتَبَاطَؤُوا أن يَغْزُوا الرومَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ﴾ (إن) هي الشرطيةُ مدغمةً في (لا) والضميرُ المنصوبُ في (تنصروه) عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يعني: إن تَتَقَاعَسُوا وَتَتَثَاقَلُوا عن نصرةِ نَبِيِّهِ ﷺ في غزوةِ تبوكَ فإن الله نَاصِرُهُ لاَ محالةَ، سواء تَثَاقَلْتُمْ أَمْ لَمْ تَتَثَاقَلُوا. وقد بَيَّنَ (جَلَّ وعلا) أنه نَصَرَهُ في حالةِ الضعفِ والقلةِ، في حالةِ كَانَ هو وصاحبُه دَاخِلَيْنِ في غارٍ مُخْتَفِيَيْنِ عن المشركينَ، فَلَمَّا نصره اللَّهُ في حالةِ الضعفِ والقلةِ فكيفَ لاَ ينصرُه في حالةِ الكثرةِ والقوةِ؟ وهذا


الصفحة التالية
Icon