الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)} [الكهف: آية ١٠٣، ١٠٤] فقولُه: ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ كَمَنِ ادَّعَى لِلَّهِ الشركاءَ، أو ادَّعَى له الأولادَ، أو ادَّعَى أنه حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، أو أَحَلَّ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ، أو قال: أُوحِيَ إِلَيَّ. هذا دَاخِلٌ في افتراءِ الكذبِ، إلا أنه عَطَفَهُ عليه بـ (أو) لأَنَّهُ من أعظمِ أنواعِ الافتراءِ، كأنه لِعِظَمِهِ صارَ قِسْمًا مُقَابِلاً للافتراءِ وهو من أشنعِ أنواعِ الافتراءِ.
﴿أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ﴾ أي: قَالَ: إن اللَّهَ أَوْحَى إليه، كمسيلمةَ الكذابِ (رَحْمَنِ الْيَمَامَةِ)، وكالأسودِ العنسيِّ (صاحبِ صنعاءَ)، وَيَدْخُلُ في حُكْمِهْمْ غيرُهم من الْمُتَنَبِّئِينَ، حيثُ قال كُلُّ مِنْ هَؤُلاَءِ: إنه أُوحِيَ إِلَيَّ.
وَذَكَرُوا في تاريخِ مسيلمةَ أنه أرسلَ رسولاً إلى النبيِّ - ﷺ - يُذْكَرُ أنه ابنُ النواحةِ الذي قَتَلَهُ بعد ذلك ابنُ مسعودٍ، أَرْسَلَهُ إليه - بكتابٍ فيه: «مِنْ مسيلمةَ رسولِ اللَّهِ، إلى محمدٍ رسولِ اللَّهِ، إن الأرضَ نِصْفَانِ، نِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لَكَ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قومٌ يَعْتَدُونَ». فأجابَه النبيُّ - ﷺ -: «مِنْ مُحَمِّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (١).
ومعلومٌ أن ما يَدَّعِي أَنَّهُ قرآنٌ بَالِغٌ من التفاهةِ والسقوطِ مَا لاَ يَخْفَى على أَحَدٍ، كقولِه: «والطاحناتِ طحنًا، والعاجناتِ عجنًا، والخابزاتِ خبزًا، فالفارداتِ فردًا، فاللاقماتِ لقمًا». وغير ذلك من التُّرَّهَاتِ والخرافاتِ.
_________
(١) انظر: السيرة لابن هشام (٤/ ١٤٥٦ - ١٤٥٧)، زاد المعاد (٣/ ٦١١).
للناس، ويزيدون حقوقهم إذا كانوا يكيلون لأنفسهم، فحَذَّرَهُم الله من هذا الفِعْل الخسيس، وعظّم شأنه، وتوعد عليه التوعد العظيم الهائل بالويل؛ وذلك لأن المال هو شريان الحياة، والطعام الموزون المكيل هو الذي به حياة الدنيا وقوامها ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ [الأنبياء: آية ٨] فالآلات التي نُصبت عدلاً لذلك ينبغي الاحتياط الكامل في إقامتها على وجهها، وعدم الغش والخديعة فيها؛ ولذا كثر في القرآن العظيم الإيصاء بإيفاء الكيل والوزن، كما قال جل وعلا: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ (١٨٢)﴾ [الشعراء: الآيتان ١٨١، ١٨٢] وذكر الله عن نبيه شعيب مواضع متعددة من ذلك ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥)﴾ [هود: آية ٨٥] وفي آية أخرى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ (١)
[الأعراف: آية ٨٥]، والله جل وعلا يقول: ﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩)﴾ [الرحمن: الآيات ٧ - ٩] ومن عصى هذه الأوامر ولم يتتبعها فيا ويله! ويا ويله! لأن خالق السماوات والأرض يقول في الذين يُخسرون الكيل والميزان: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (١)﴾ ويكفيك من التهديد والوعيد لفظة (ويل) المتوجهة من الله إلى من يفعل هذا الفعل الخسيس الدنيء الرذيل، ثم فسَّر المطففين بأنهم ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطففين: الآيتان ١، ٢] يعني: إذا كان الكيل لهم من الناس كالوا كيلاً وافياً، وإذا كالوا من متاعهم للناس أو وزنوا للناس يخسرون؛ أي: ينقصون
_________
(١) والشاهد قوله تعالى قبله في نفس الآية: ﴿فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾..
إلى آخِرِ الأبياتِ المعروفةِ. فَأَسْلَمَتْ تلك الطائفةُ القليلةُ مع صالحٍ، وَبَقِيَ أكثرُهم في غايةِ الكفرِ والعتوِّ والتمردِ على اللَّهِ. وَلَمَّا أخرجَ لهم الناقةَ أمرَه اللهُ بأن يقولَ لهم: إن بئرَهم التي يشربونَ منها: نهارٌ منها للناقةِ لاَ يَشْرَبُ منها غيرُها أبدًا، والنهارُ الثاني لجميعهم يَسْقُونَ مواشيَهم وأنفسَهم وَيَدَّخِرُونَ ما شاؤوا من الماءِ، كما قال: ﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ﴾ [القمر: آية ٢٨] وقال: ﴿لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الشعراء: آية ١٥٥] يَذْكُرُ المؤرخونَ أن يومَ شُرْبِ الناقةِ أنها تأتِي من بَيْنِ الْجَبَلَيْنِ فَتُدْخِلُ رَأْسَهَا في البئرِ ولا تتركُ في البئرِ قطرةً من الماءِ، ثم إنها تُفَرِّجُ فَخِذَيْهَا فيحلبونَ منها كلما شاؤوا فيملؤونَ جميعَ أوعيتِهم، ويدخرونَ من لَبَنِهَا كلما شاؤوا فَيُغْنِيهِمْ ذلك عن الماءِ (١)، وَلَبَنُهَا من أصفَى اللبنِ وأعذبِه وأحلاه. فلما طَالَ عليهم ذلك عَقَرُوهَا - والعياذُ بالله - كما جاء في آياتٍ قرآنيةٍ كثيرةٍ، وسببُ عَقْرِهَا يقولُ المفسرونَ والمؤرخونَ (٢): إنه كانت فيهم عجوزٌ كافرةٌ، هي امرأةُ ذؤابِ بنِ عمرِو بنِ لبيدٍ، أو ابنِ عمرِو بنِ أسدٍ، هي من أقبحِ الناسِ وأشدِّهم كُفْرًا وَعَدَاوَةً لِصَالِحٍ، تُسَمَّى: عُنيزةَ بنتَ غُنْمٍ، وَتُكْنَى: أُمَّ غنم (٣)، وكانت ذاتَ بناتٍ حِسَانٍ، وهي زوجُ ذؤابِ بنِ عمرٍو - قَبَّحَهَا اللَّهُ - وأنها جاءت للقبيحِ قُدارِ بنِ سالفٍ - وكان قُدارُ بنُ سالفٍ قصيرًا أَحْمَرَ، أزرقَ العينين عزيزًا في قومِه، وجاء في الحديثِ وَصْفُهُ بأنه
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٥٣٠ - ٥٣١).
(٢) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٥٣١)، البداية والنهاية (١/ ١٣٥).
(٣) في البداية والنهاية (١/ ١٣٥): «عنيزة بنت غنيم بن مجلز وتكنى: أم عثمان».
وأنزل الله فيه -مع أنها في الأُسارى كلهم، إلا أن المفسرين يجعلونها في العباس؛ لأنه من أشهر من نزلت فيه-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٧٠] (١) فلما جاء النبي ﷺ مال البحرين وجاء العباس وقال: يا نبي الله فاديت نفسي وعقيلاً. فقال له: «خُذْ مِنْ هَذَا الذَّهَبِ». فهال منه العباس في ثوبه حتى أراد أن يقوم فَنَاءَ به ولم يقدر أن يقوم، فطلب أحدًا يساعده، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُسَاعِدُكَ أَحَدٌ، وَلاَ تَحْمِلْ مِنْهُ إِلاَّ قَدْرَ مَا تَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ». فهال منه عن ثوبه حتى قدر على حمله (٢)
ثم قال: «أما أحد الأمرين فقد عايناه، وهو: ﴿إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ﴾ فقد آتانا خيرًا مما أُخذ منا، وأما الثانية وهي قوله: ﴿يَغْفِرْ لَكُم﴾ فإنا نرجوها من الله جل وعلا» (٣).
وفي ذلك اليوم استُشهد وقُتل من أصحاب رسول الله شهيدًا يوم بدر أربعة عشر رجلاً (٤)، ستة من المهاجرين، والبقية من الأنصار، ستة منها من الخزرج، واثنان من الأوس. فشهداء بدر:
_________
(١) جاء ذلك صريحًا في سياق الرواية المخرجة في الهامش السابق. وقد أورد ابن جرير (١٤/ ٧٢ - ٧٥) جملة من الروايات في هذا المعنى، وكذا ابن كثير (٢/ ٣٢٧)، والسيوطي في الدر (٣/ ٢٠٤ - ٢٠٥).
(٢) خبر مجيء المال من البحرين وأخذ العباس منه أخرجه البخاري في الصلاة، باب القسمة وتعليق القنو في المسجد. حديث رقم: (٤٢١) (١/ ٥١٦).. وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الأحاديث رقم: (٣٠٤٩، ٣١٦٥).
(٣) مضى تخريجه قريبًا.
(٤) السيرة لابن هشام ص ٧٤٦.
معنَى قولِه: ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ﴾ فَاللَّهُ ناصرُه على كُلِّ حالٍ، ثم بَيَّنَ نَصْرَهُ له السابقَ في حالةِ الضعفِ والقلةِ ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ على أعدائِه حيث أَنْجَاهُ اللَّهُ منهم، وَخَيَّبَ مكرَهم وأبطلَه، ثم أظهرَه عليهم بَعْدَ ذلك. وهذا معنَى قولِه: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾.
﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حينَ أَخْرَجَهُ الذين كفروا وهم كفارُ مكةَ، ومعنَى إخراجِهم له أنهم اضْطَرُّوهُ وَأَلْجَؤُوهُ إلى أن يخرجَ؛ لأن النبيَّ ﷺ كان فِي حياةِ عَمِّهِ أبِي طالبٍ يدفعُ عنه مَكْرَ قريشٍ، وَيَحْمِيهِ منهم، ويقولُ له (١):

وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَلَمَّا مَاتَ أبو طالب وَجَدَ الأنصارَ وَبَايَعُوا النبي ﷺ بيعةَ العقبةِ خاف قريشٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَظُمَ عليهم أَمْرُهُ، وَهَالَهُمْ شأنُه، فقالوا: هذا الرجلُ صار له أتباعٌ في القبائلِ الأُخْرَى، فما نَأْمَنُ أن يَغْزُونَا بأتباعه فيحتلنا. واعتزموا على أن يقتلوه، وقد قَدَّمْنَا السببَ الذي أَلْجَأَ النبيَّ ﷺ إلى الهجرةِ في سورةِ الأنفالِ، في الكلامِ على قولِه تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)﴾ (٢) [الأنفال: آية ٣٠]. وذلك أن قريشًا لَمَّا هَالَهُمْ أمرُ النبيِّ ﷺ وَعَظُمَ عليهم شأنُه، وخافوا أن تتبعَه قبائلُ العربِ فيغزوَهم بهم حاولوا أن يقتلوه، فاجتمعوا في دارِ الندوةِ، واجتمعَ جميعُ ساداتِ قبائلِ قريشٍ في ذلك الاجتماعِ، وجاءهم إبليسُ - عليه لعائنُ اللَّهِ - في صورةِ شيخٍ جليلٍ جَائيًا من
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٣) من سورة التوبة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال.


الصفحة التالية
Icon