الذين يَدَّعُونَ النبوةَ - كمسيلمةَ والأسودِ العنسيِّ - لا أحدَ أظلمُ منهم، حيث قالوا: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إليهم - ولم يُوحَ إليهم - ظُلْمًا وَعُدْوَانًا. وهذا معنَى قولِه: ﴿أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ والحالُ: ﴿وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾.
﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ﴾ (من) في قولِه: ﴿أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ﴾ هذا كُلُّهُ معطوفٌ على المجرورِ في قولِه: ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ قال: أُوحِيَ إِلَيَّ [وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ] (١)، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
وقولُه: ﴿سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ﴾ هذه نَزَلَتْ في عبدِ اللَّهِ بنِ سعدِ بنِ سَرْحٍ، على قولِ أكثرِ المفسرين (٢). أسلمَ أَوَّلاً، وكانَ مِنْ كُتَّابِ الْوَحْيِ للنبيِّ - ﷺ -، وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سورةِ (قد أفلح المؤمنون): ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: الآيات ١٢ - ١٤] عَجِبَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سعدِ بنِ أَبِي سرحٍ من تفصيلِ اللَّهِ هذا لخلقِ الإنسانِ فقال: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أحسنُ الخالقين» فقال له النبيُّ - ﷺ -: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ» فَشَكَّ فِي كلامِ النبيِّ - ﷺ -، قَالَ: إِنِّي أُوحِيَ إِلَيَّ مثلَ ما أُوحِيَ إليه، إن كان صادقًا فقد أُوحِيَ إلي مثلَ ما أُوحِيَ إليه، وإن كان كَاذِبًا فقد جئتُ بمثلِ ما جاءَ به. وَارْتَدَّ عن الإسلامِ - والعياذُ بالله (٣)
- وهو مِمَّنْ أَمَرَ النبيُّ - ﷺ - بقتلِهم يومَ فتحِ مكةَ،
_________
(١) مابين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(٢) انظر: المستدرك (٣/ ٤٥)، ابن جرير (١١/ ٥٣٣ - ٥٣٤)، أسباب النزول للواحدي ٢٢٠، لباب النقول ١١٩، الدر المنثور ٣/ ٣٠.
(٣) هذا الخبر بهذا التفصيل لم أقف عليه بسند صحيح. وإنما ورد في بعض الروايات الضعيفة، وعامتها من المراسيل. فالله تعالى أعلم. قال ابن عاشور معقبا على القول بأنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح: «وهذا أيضا مما لا ينثلج له الصدر؛ لأن عبد الله بن أبي السرح ارتد بعد الهجرة ولحق بمكة، وهذه السورة مكية» اهـ التحرير والتنوير (٧/ ٣٧٥)..
بالحيل الخفية؛ لأن مَنْ تَمَرّن على الكيل والوزن يعلم حيلاً لا يعلمها غيره، يحسب الناظر أن المكيال تام، وأن الميزان بتمام، وهناك نقص خَفِيّ يعرفه أصحاب الصنعة بحيلهم الدقيقة، هذا معروف، فحذرهم الله من هذا، وهذا يدل على أن كل مَنْ تَوَلَّى مصلحة اجتماعية عليه أن ينصح إخوانه المسلمين فيها، فالقرآن يُذكر منه الآيات ليُنَبَّه بها على غيرها.
فهذه مصلحة اجتماعية عامة؛ لأن كل الناس يحتاج إلى طعام يكيله، أو إلى حاجة يزنها، وهذا به قوام الناس في حاجاتهم ومصالحهم المتبادلة، فالذي يغش فيه وينقص ويُخسر خسيس من أخبث خلق الله، ويكفيه خبثًا ورداءة أن خالق السماوات والأرض يهدده بالويل، وأي شيء أعظم من تهديد الله للعبد بالويل؟! ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)﴾ ثم قال: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾ [المطففين: الآيات ١ - ٦] ويُفهم من فحوى الآيات: أنهم إذا بُعثوا إلى ذلك اليوم العظيم وقام الناس لرب العالمين واجتمع الخلائق الأولون والآخرون في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويُسمعهم الداعي، أن ذلك الخائن الناقص في الكيل والوزن يُنادى به على رؤوس الأشهاد، ويفتضح على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وفضيحة القيامة ليست كفضيحة الدنيا؛ لأن الإنسان يفتضح في الدنيا ويضيع عرضه ويبقى صحيح البدن سالماً يأكل ويشرب غير متألم، وإذا كان رذيلاً دنيّاً لا يُؤْلمُه ضياع العرض، إنما يتألم مِنْ ضياعِ الأعراض أصْحَابُ الشّؤون والهيئات والشرف، وقد ذكر العلماء أنَّ أعْظَمَ ما يصاب فيه الإنسان بعد نفسه إنما هو
عارمٌ عزيزٌ في قومِه (١).
والعارمُ: شديدُ الشرِّ - وقالت له: إن أنتَ عقرتَ هذه الناقةَ أعطيتُك أَيَّ بَنَاتِي شِئْتَ. وكان عندها بناتٌ حِسَانٌ، ذواتُ جمالٍ، ويزعمونَ أن امرأةً منهم أخرى تُسَمَّى: صدقةَ أو صدوقَ (٢) بنتَ الْمُحَيَّا، وكانت ذاتَ جمالٍ بارعٍ، وَكِلْتَا المرأتين لهما أغنامٌ وآبال وأبقارٌ كثيرةٌ، وكانت الناقةُ لِعِظَمِهَا إذا رأتها مواشيهم تَفِرُّ منها خوفًا منها، وكانت الناقةُ زمنَ الصيفِ تخرجُ عن حرِّ الوادي، فإذا رَأَتْهَا مواشيهم نَفَرَتْ منها واضطُرت إلى حرِّ الوادي، وإذا كان في الشتاءِ دَخَلَتِ الناقةُ في الوادي لِتَتَدَفَّأَ به، فنفرت منها مواشيهم، فتضرروا بذلك، وكانوا يتمنونَ عَقْرَهَا. وأكثرُ المفسرين يقولونَ: إن السببَ فيه هاتانِ المرأتانِ، وأنَّ قُدارَ بنَ سالفٍ - لَمَّا أَغْرَتْهُ الخبيثةُ عنيزةُ بنتُ غنمٍ - قَبَّحَهَا اللَّهُ - وَخَيَّرَتْهُ في بناتِها مع جَمَالِهِنَّ إن هو عَقَرَ الناقةَ - انتدبَ واحدًا من قومِه يُسَمُّونَهُ مصدعَ، وأن هذين الرَّجُلَيْنِ اتَّبَعَهُمَا سبعةٌ من قومِهم فصاروا تسعةً، وأنهم هم المذكورونَ في سورةِ النملِ: ﴿وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ (٤٨)﴾ [النمل: أية ٤٨] وأنهم ذهبوا إلى الناقةِ وَكَمِنُوا لها يومَ شُرْبِهَا عندما صَدَرَتْ من الماءِ، والمؤرخونَ يزعمونَ أنها لا يمكنُ أن تصدر من الفجِّ الذي جاءت منه لِعِظَمِهَا (٣)؛ لأنها يصعب عليها أن تَنْثَنِيَ، فتطلع من فَجٍّ آخَرَ، فكمنوا لها وهي صادرةٌ
_________
(١) أخرجه البخاري في التفسير (تفسير سورة والشمس وضحاها) حديث رقم (٤٩٤٢) (٨/ ٧٠٥)، وأطرافه (٣٣٧٧، ٤٩٤٢، ٥٢٠٤، ٦٠٤٢).
(٢) في البداية والنهاية (صدوق) (١/ ١٣٥)، وفي تفسير ابن جرير (١٢/ ٥٣١): (صدوف).
(٣) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٥٣٥)، البداية والنهاية (١/ ١٣٥).
ستة منهم من المهاجرين، وستة منهم من الخزرج، واثنان منهم من الأوس؛ لأن الأوس في ذلك اليوم أقل من الخزرج؛ لأن ديار الخزرج في داخل المدينة قرب رسول الله، وديار الأوس في العوالي وقباء، كديار بني عمرو بن عوف، فالذين في داخل المدينة أكثرهم من الخزرج؛ ولذا كانوا هم الحاضرين فتمكنوا من الخروج، والنبي لم ينتظر الغائبين (١).
والستة الذين استُشهدوا من المهاجرين هم: عبيدة بن الحارث بن المطلب الذي ذكرنا أن قدمه بنصف ساقه قطعها عتبة بن ربيعة في المبارزة، ومنهم: عمير بن أبي وقاص (رضي الله عنه) أخو سعد بن أبي وقاص، قتله عمرو بن عبد ود، وقد كان أخوه سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) قتل ذلك اليوم العاص بن هشام، ومن الذين استُشهدوا - أول من قُتل من المسلمين في ذلك اليوم - مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب (٢)، ومِهْجَع هذا أصله رجل من بني عك، أصابه سباء فأعتقه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فكان مولاه، ويقال له مهجع عمر، وهو أول قتيل من المسلمين استشهد يوم بدر، ومات بعده من المسلمين رجل من الخزرج يُسَمَّى حارثة بن سراقة (رضي الله عنه) (٣)، وهو الذي سألت أمّه النبي صلى الله عليه وسلم
_________
(١) قال ابن هشام في السيرة (ص٧٣٢): «فجميع من شهد بدرًا من الأوس مع رسول الله ﷺ ومن ضرب له بسهمه وأجره: واحد وستون رجلاً» اهـ. ونقل عن ابن إسحاق (ص٧٤٥): «فجميع من شهد بدرًا من الخزرج مائة وسبعون رجلاً» اهـ.
(٢) السابق ص٦٦٦.
(٣) انظر: البداية والنهاية (٣/ ٢٧٤).
بلادِ نَجْدٍ، وقال لهم: قد علمتُ بما اعتزمتُم عليه. وَأَرَادَ أن يجلسَ معهم ليتبادلَ معهم الرأيَ، أَدْخَلُوهُ معهم، فَتَشَاوَرُوا في أمرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال قائلٌ منهم، يقال هو أبو البختريِّ: احْبِسُوهُ وَنَتْرُكُهُ مَحْبُوسًا حتى يموتَ. فقال ذلك الشيخُ الذي هو إبليسُ في صورةِ ذلك الشيخِ: ليس هذا لكم بِرَأْيٍ؛ لأنكم إن حبستموه جاء بَنُو عَمِّهِ وأتباعُه فَانْتَزَعُوهُ منكم، وَغَلَبُوكُمْ عليه. فقال آخَرُ: نرى أن نخرجَه من بلادِنا وأرضِنا ونصلحَ شأنَنا بعدَه إذا أَخْرَجْنَاهُ. فقال لهم إبليسُ اللعينُ في صورةِ ذلك الشيخِ: ليس هذا وَاللَّهِ بِرَأْيٍ؛ لأنكم إن أَخْرَجْتُمُوهُ فقد عرفتُم حلاوةَ منطقِه، وعذوبةَ لسانِه، فقد يَتْبَعُهُ الناسُ فيغزوكم في ديارِكم فيغلبَكم على أَمْرِكُمْ.
فقال أبو جهلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إن عندي لَرَأْيًا ما أراكم ذَكَرْتُمُوهُ، خُذُوا من كُلِّ قبيلةٍ من قبائلِ قريشٍ شابًّا حدثًا قويًّا وَأَعْطُوهُ سَيْفًا وأْمُرُوهُمْ يضربوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ فَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ في قبائلِ قريشٍ، فلن يستطيعَ بَنُو عبدِ منافٍ أن يُحَارِبُوا جميعَ قريشٍ، فيقبلوا منا عقلَه، فنعقلَه ونعطيَهم دِيَتَهُ، ونستريحَ من شَأْنِهِ. فقال لهم إبليسُ اللعينُ: هذا وَاللَّهِ هو الرأيُ. فَأَجْمَعُوا رأيَهم على هذا وأنهم يقتلونَه، واجتمعوا لتنفيذِ ذلك عندَ بابِ الدارِ التي ينامُ فيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكان أَبْو بَكْرٍ (رضي الله عنه) قبلَ ذلك هَاجَرَ إلى الحبشةِ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَلَقِيَهُ عمرُو بنُ الدغنةِ سيدُ بَنِي القارةِ، وهم بنو الهونِ بنِ خزيمةَ بنِ مدركةَ بنِ إلياسَ، فقال لأبِي بكرٍ: أنتَ لاَ تذهبُ، وأنتَ فِي ذِمَّتِي. فرجع به في ذمتِه، وَأَعْطَاهُ قريشٌ ذمةَ ابنِ الدغنةِ على أن لا يُظْهِرَ قراءتَه ولا دِينَهُ، وأن يجعلَ دينَه سِرًّا في بيتِه، فلما طال ذلك على أبي بكرٍ (رضي الله عنه) صار يُظْهِرُ صلاتَه وقراءتَه، فَأَرْسَلَتْ قريشٌ إلى عمرِو بنِ الدغنةِ، الذي كان في ذمتِه


الصفحة التالية
Icon