وكانَ أَخًا لعثمانَ بنِ عفانَ (رضي الله عنه) مِنَ الرضاعةِ، فَأَخْفَاهُ عثمانُ عندَه حتى سَكَنَتِ الحركةُ وَاسْتَأْمَنَ النبيَّ - ﷺ - لَهْ فَأَمَّنَهُ (١)، وحَسُنَ إسلامُه، وكانَ وَالِيًا لعثمانَ على جهةِ مصرَ، وهو الذي فَتَحَ إِفْرِيقِيَّةَ، وقتلَ مَلِكَهَا (جرجير)، والذي تَوَلَّى قتلَه عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ كما هو معروفٌ في التاريخِ (٢). أَنْزَلَ اللَّهُ فيه عندمَا ارْتَدَّ: ﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: آية ٩٣] ونظيرُه قولُ بعضِ الكفارِ: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [الأنفال: آية ٣١].
ثُمَّ إن اللَّهَ (جل وعلا) لَمَّا بَيَّنَ أنواعَ الكفرةِ الظالمين باجترائِهم على الكذبِ، كادعائِهم لِلَّهِ الأولادَ والشركاءَ، وكقولِ بعضِهم: إِنَّهُ أُوحِيَ إليه، وكقولِ بعضِهم: إنه قادرٌ على أن يُنْزِلَ مثلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ. بَيَّنَ وَعِيدَهُ لهؤلاء الكفرةِ، قال: ﴿وَلَوْ تَرَىَ﴾ يا نَبِيَّ اللَّهِ ﴿إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ حِينَ الظالمونَ كالذين يفترونَ على اللَّهِ الكذبَ، ويقولونَ: إنهم أُوحِيَ إليهم. أو يقولونَ: سَنُنْزِلُ مثلَ ما أنزلَ اللَّهُ. لو تَرَى حِينَ الظالمونَ أمثالُ هؤلاءِ حينَ هُمْ: ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ غمراتُ
_________
(١) سنن أبي داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد، حديث (٤٣٣٦، ٤٣٣٧)، (عون المعبود) (١٢/ ١٢ - ١٣)، النسائي في تحريم الدم، باب: توبة المرتد، حديث (٤٠٦٩) (٧/ ١٠٧)، والحاكم (٣/ ٤٥). وانظر: صحيح سنن أبي داود (٣/ ٨٢٣ - ٨٢٤)، صحيح سنن النسائي (٣/ ٨٥٣).
(٢) انظر: سير أعلام النبلاء (٣/ ٣٤، ٣٧١).
-مثلاً- قُرباؤُه: كأولاده أو ماله أو عرضه أو دينه، فإذا أصيب في دينه فتلافيه سهل؛ لأنه إذا أناب إلى الله قد يتوب الله عليه، وقد يكون انكسار التوبة يبلغ به مرتبة عند الله أحسن مما كان قبل فِعْلِ الذَّنْبِ؛ لأن الإنابة إلى الله والتوبة والتذلل والخضوع والانكسار من الذنوب قد يكسب العبد درجة أعظم من درجته قبل أن يواقع الذنب، والمال قد يخلفه شيء بسيط، فصفقة واحدة قد يربح منها أضعاف ما خسر، والأنفس قد تُعَوَّض بالولادة، فيموت له ولد فيولد له عشرة أولاد، قالوا: أما العِرْض فإذا ضاع من الإنسان فلا شيء يخلفه؛ لأنه إذا ضاع عرضه، وعُرفت الفضيحة أمام الناس لم يمكن أن يداوي ذلك، ولو رجع إلى مكارم الأخلاق، فتلك الفضيحة بقيت فيه، لكن فضيحة الدنيا وإن كانت من أعظم
المصائب، ففضيحة الآخرة أعظم وأطَمّ؛ لأن المفتضح في الآخرة إنما يُفْضَح بذنوب تؤديه إلى العذاب والنكال يوم القيامة -والعياذ بالله- فَعَلَى مَنْ وَلَّاه الله الكيل أو الوزن أن يَحْذَرَ من الله، ويخاف من فضيحة الآخرة، ويوفي الكيل إيفاءً تامّاً، ويوفي الميزان، ولا يغش وينصب فيستوفي لنفسه وينقص للناس، وهذا معنى قوله: ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ [الأنعام: آية ١٥٢] القِسْط في لغة العرب معناه: العدل، والقَسط -بالفتح- الجور (١)، فالمقسطون من أهل الجنة، والقاسطون من أهل النار، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)﴾ [الجن: آية ١٥] لأن القاسط اسم فاعل القَسْط -بالفتح- من قَسَط الثلاثية، وهو الجائر الحائد عن الهدى، والمُقْسِط: من القِسْط، وهو العدل.
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: قسط) (٦٧٠).
من الماءِ. يقولُ المفسرونَ والمؤرخونَ (١):
إن مصدعَ كَمَنَ لها في أصلِ صرفٍ وَكَمَنَ قدارُ بنُ سالفٍ في صخرةٍ أخرى، فَمَرَّتْ بهما الناقةُ فرماها مصدع فانتظمَ بسهمِه عَضَلَتَهَا، ثم مرت على قدارِ بنِ سالفٍ يزعمونَ أن الخبيثةَ - المرأةَ - كَشَفَتْ له عن بنتِها الجميلةِ وَحَرَّضَتْهُ على عقرِ الناقةِ فضربَ عرقوبَها فَسَقَطَتْ، فضربَ في لُبَّتِهَا فنحرها، وأنهم اقتسموا لَحْمَهَا.
واختلفت رواياتُ المؤرخين والمفسرين في الفصيلِ (٢)، ولا شيءَ في ذلك ثابتٌ، فمنهم مَنْ يقولُ: إن مصدعًا تَبِعَهُ فأخذه وَنَحَرَهُ معها واقتسموا لحمَه مع لَحْمِهَا. ومنهم مَنْ يقول: إنه رَغَا مَرَّاتٍ، وصار فوقَ جبلٍ، وانفتحت له صخرةٌ فدخل فيها، حتى إن قومًا ليزعمونَ أنه هو الدابةُ التي تأتِي في آخِرِ الزمانِ! وَكُلُّ ذلك قصصٌ لاَ مُعَوَّلَ عليها ولا ثبوتَ لها. واللهُ أعلمُ بقصةِ الفصيلِ؛ لأنَ القرآنَ لم يُبَيِّنْ ماذا كان مصيرُه، ولم يُبَيِّنْهُ ولم يثبت خبره بوحيٍ صحيحٍ، وإنما هي رواياتٌ يَحْكِيهَا المؤرخونَ والمفسرونَ.
فَلَمَّا عقروا الناقةَ - والعياذُ بالله - والذي تَوَلَّى عقرها قدارُ بنُ سالفٍ - قَبَّحَهُ اللهُ - هو أَشْقَى الأَوَّلِينَ، ويُزعَمُ أن أصلَه ابنُ زَنْيَةٍ، وُلِدَ على فراشِ سالفٍ، وهو خبيثٌ أحمرُ أزرقُ، عزيزٌ في قومِه عَارِمٌ، أنه لَمَّا عقروها -والقرآنُ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ عقرِهم لها- فبيَّن أن عاقرَها واحدٌ، وأسندَ عقرَها للجميعِ حيث قال: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩)﴾ [القمر: آية ٢٩] وقال في آياتٍ كثيرةٍ إن الذي عَقَرَهَا الجميعُ كقولِه: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ [الأعراف:
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٥٣١)..
(٢) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٥٣٣)، البداية والنهاية (١/ ١٣٥).
عنه فقال لها: «إِنَّهُ أَصَابَ جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ» (١).
والحاصل أن الستة الذين ماتوا شهداء من المهاجرين يوم بدر هم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبي وقاص، وعاقل بن البُكَير، وصفوان بن وهب المعروف بصفوان بن بيضاء، وذو الشمالين، واسمه: عمير بن عَبْد (٢). هؤلاء الستة هم الذين استشهدوا من المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبي وقاص، ومهجع مولى عمر، وذو الشمالين، وصفوان بن وهب، وعاقل بن البُكَير. هؤلاء ستة من المهاجرين (٣).
والاثنان اللذان ماتا في سبيل الله يوم بدر من الأوس هم (٤) مبشر بن عبد المنذر -أخو أبي لبابة بن عبد المنذر- وسعد بن خيثمة (رضي الله عنه)، فإن سعدًا هذا قُتل شهيدًا يوم بدر، وأبوه خيثمة قُتل شهيدًا يوم أحد.
والستة الذين استشهدوا من الخزرج -ماتوا شهداء- منهم (٥): يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر الخزرجي
_________
(١) البخاري في الجهاد، باب من أتاه سهم غرب، حديث رقم: (٣٩٨٢) (٦/ ٢٥)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (٣٩٨٢، ٦٥٥٠، ٦٥٦٧).
(٢) المثبت في ابن هشام ص٧٤٦، والتمهيد (١/ ٣٦٣ - ٣٦٤)، والاستذكار (٢/ ٢٣٣)، ونظم الفرائد للعلائي ص٦١ - ٧٠، والبداية والنهاية (٣/ ٣٢٧): ذو الشمالين بن عبد عمرو.
(٣) السيرة لابن هشام ص٧٤٦.
(٤) السابق ص٧٤٧.
(٥) السابق.
أبو بكرٍ (رضي الله عنه)، فقالوا: نَحْنُ لاَ نحبُّ أن نخفرَ ذمتَك، وإن صاحبَك صَارَ يفعلُ ما لم يَحْصُلْ عليه الاتفاقُ، فكلم ابنُ الدغنةِ أَبَا بكرٍ (رضي الله عنه) فقال: إما أن تَفِيَ بالشرطِ الذي تَوَافَقْنَا عليه، وإما أن تَرُدَّ إِلَيَّ ذمتي. فقال له أبو بكر (رضي الله عنه): رَدَدْتُ إليكَ ذمتَك، وأنا في ذمةِ اللَّهِ تعالى. وكان أبو بكر لَمَّا أرادَ أن يهاجرَ أشارَ له النبيُّ ﷺ أنه يطمعُ أن يُؤْذَنَ له في الهجرةِ، فقعد أبو بكر (رضي الله عنه) طَمَعًا في أن يُؤْذَنَ لرسولِ اللَّهِ ﷺ في الهجرةِ فيكون رفيقَه، واشترى رَاحِلَتَيْنِ، وكان يعلفُهما الْخَبَطَ، وهو ورقُ السمرِ، شجرٌ معروفٌ، علفهما إياه أشهرًا عديدةً، أربعةً، أو ستةً، أو غيرَ ذلك.
فلما اجتمعت قريشٌ لقتلِ النبيِّ ﷺ وكان النبيُّ ﷺ يأتِي بيتَ أبِي بكرٍ كُلَّ يومٍ إما أولَ النهارِ أو آخرَه، فبينما هُمْ ذاتَ يومٍ إِذْ قَدِمَ عليهم رسولُ اللَّهِ ﷺ في حَرِّ الظهيرةِ، فقال أبو بكر: هذا وقتٌ ما جَاءَنَا به رسولُ الله، وَاللَّهِ ما جاء إلا لأَمْرٍ حَدَثَ. ثم لَمَّا دَخَلَ عليه رسولُ الله ﷺ قال لأبِي بكرٍ: أَقِمْ مَنْ عِنْدَكَ. فقال: هُمْ أَهْلُكَ يا رسولَ اللَّهِ، هُمُ ابْنَتَايَ - يعني عائشةَ وأسماءَ (رضي الله عنهما) - فأخبرَ النبيُّ أبا بكر (رضي الله عنه) أن اللَّهَ أَذِنَ له في الهجرةِ، فقال: الصحبةَ يا رسولَ اللَّهِ. فقال: الصحبة. قالت أسماءُ (رضي الله عنها): ما رأيتُ أحدًا يبكي من الفرحِ قبلَ ذلك اليومِ، فأبو بكر يَبْكِي من الفرحِ. كذا قاله غيرُ واحدٍ من أهلِ الأخبارِ وَالسِّيَرِ، ثم إن قريشًا اجتمعوا لتنفيذِ الخطةِ وقتلِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ جبريلُ فأخبرَ النبيَّ ﷺ وَأَمَرَهُ بالخروجِ، فنادى النبيُّ ﷺ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ (رضي الله عنه) وأمرَه أن يضطجعَ في مكانِه، وأن ينامَ في البُرْدِ الذي كان ينامُ فيه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم إن اللَّهَ أَخَذَ بأعينِهم فَمَرَّ بهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم


الصفحة التالية
Icon