الموتِ: سكراتُه وشدائدُه وكرباتُه. وأصلُ (الغَمْرَةِ) هي مَا يَغْمُرُ الشيءَ، كالماءِ الذي يغمرُ الواديَ فَيُغَطِّيهِ، كُلُّ ما غَمَرَ شَيْئًا حتى غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ (١). المصدرُ من ذلك: (غَمْرًا) والمرادُ بـ (غمراتِ الموتِ): شدائدُه وسكراتُه وكرباتُه، حين هُمْ في سكراتِ الموتِ وشدائدِه وكرباتِه. والحالُ: ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ بَاسِطُو أيديهم: يعني بَاسِطُوهَا إليهم بالضربِ الوجيعِ، والأَذَى الفظيعِ. والعربُ تُكَنِّي عن السوءِ بـ (بَسْطِ اليدِ)، كقولِه: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ﴾ [المائدة: آية ٢٨] وكقولِه: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾ [الممتحنة: آية ٢] والدليلُ على أن بسطَ الملائكةِ أيديَهم إليهم أنه للأَذَى والضربِ الوجيعِ: آياتٌ جَاءَتْ بِذَلِكَ، كقولِه: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: آية ٥٠] فضَرْبُهُمْ هَذَا لِوُجُوهِهِمْ وَأَدْبَارِهِمْ هو الذي بَسَطُوا إليهم أيديَهم بِهِ فِي قولِه: ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ هذا هو الأظهرُ (٢)،
خلافًا لِمَنْ قال: إنهم يَمُدُّونَ أيديَهم إليهم ليأخذُوا أنفسَهم وأرواحَهم من أبدانِهم، كما يَمُدُّ الغريمُ يدَه لغريمِه ليأخذَ حَقَّهُ عليه بِشِدَّةٍ وَعُنْفٍ.
وقولُه: ﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾ أَخْرِجُوا أنفسَكم: فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ (٣):
أحدُهما: أن المعنَى: أَخْرِجُوا أيها المُحتضَرونَ أنفسَكم من
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٣٨)، القرطبي (٧/ ٤١)، الدر المصون (٥/ ٤١).
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٣٨ - ٥٣٩)، القرطبي (٧/ ٤١)، الأضواء (٢/ ٢٠٣)..
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ٤٢).
ومعنى كونه بالقسط؛ أي: بالعدل التام، بحيث لا يزيد ولا يَنْقُص، فلا يطلب المشتري زيادة على حَقِّهِ، ولا ينقص البائع المشتري عن حَقِّهِ، فليكن الحق كاملاً وافياً من غير [زيادة] (١) ولا نقصان، وهذا معنى إيفائه بالقسط. ولما كان الإنسان قد يبالغ جهده في أن يوفي المكيل، وقد يتفاوت ذلك؛ فبعض المكاييل يبني عليه المكيل، ويرتفع بعضه فوق بعض، حتى يكون وافياً، وبعض الناس يجتهد في أن يفعل ذلك، ويختل عليه شيء من غير قصد منه، إذا كان الله يعلم صلاح نيته وقصده للإيفاء، إلا أنه وقع تقصير أو نقص من غير قصده، فهذا معفوّ عنه، بدليل قوله: ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [الأنعام: آية ١٥٢] فهذا الإيفاء في الكيل والوزن الذي كَلَّفْنَاكُمْ بِهِ إنما نعني به حسب ما تستطيعون، فمَنْ بَذَلَ مجهودَهُ في إيفاء الكيل والوزن ثم وقع نقص من غير قصده فهو معفوّ عنه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، هذا سبب نزول الآية (٢)، وهي عامة؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، أي: طاقتها، وهو الشيء الذي في طاقتها وقدرتها لا تعجز عنه، ولا يشق عليها مشقة عظيمة، وهذا من التسهيل على هذه الأمة، لا يكلفها الله ما أخطأت فيه وما نسيت، وقد جاء في الذكر المحكم: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب: آية ٥] وثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي - ﷺ - لما قرأ من خواتيم سورة البقرة ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: آية ٢٨٦] قال الله: نعم قد فعلت.
_________
(١) في الأصل: «تمام» وهو سبق لسان.
(٢) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٨١).
آية ٧٧] وكقولِه: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾ [الشمس: الآيات ١١ - ١٤] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ (١). وأجابَ العلماءُ عن أن اللَّهَ مرةً نَسَبَ العقرَ إلى واحدٍ وهو قولُه: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩)﴾ وتارةً نَسَبَ العقرَ إلى الجميعِ، قالوا: لأنهم كُلَّهُمْ مُتَمَالِئُونَ، وأنه لم يذهب لعقرِها حتى اتَّفَقَ جميعُهم، حتى إنه لَيَسْتَأْذِنُ المرأةَ في خِدْرِهَا فتقولُ: نَعَمْ. فَوَافَقُوا جميعًا على عقرها، والمتمالئون على شيءٍ، المتفقونَ عليه، كأنهم فَعَلُوهُ كُلُّهُمْ، وإن كان المباشرُ واحدًا منهم. هكذا قَالَهُ بعضُ العلماءِ، مع أن عادةَ اللغةِ العربيةِ إسنادُ الفعلِ للناسِ وفاعلُه بعضُهم (٢)، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، وكثيرٌ في القرآنِ العظيمِ، ومما يُوَضِّحُهُ كناية الإيضاحِ: قراءةُ (٣) حمزةَ والكسائيِّ ﴿فَإِن قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ (٤) [البقرة: آية ١٩١] لأنه لا يَصِحُّ أنه إن قتلوكم ومتم فاقتلوهم بعدَ أن قُتِلْتُمْ ومتم. هذا ليس من المعقول!
والمعنَى: فإنا قَتَلُوا بعضَكم فليقتلهم البعضُ الآخَرُ، فَأَطْلَقَ [الكلَّ وأرادَ البعضَ] (٥). وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ ابنِ مطيعٍ يومَ حرةِ واقمٍ لَمَّا جاءت جيوشُ يزيدَ بنِ معاويةَ يرأسُها (مجرم) الذي يُسَمَّى: مسلمَ بنَ عقبةَ، وفعلوا بالمدينةِ ما فَعَلُوا، وكان الشاعرُ يقولُ (٦):
_________
(١) راجع المصدرين السابقين.
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٣٢٤ - ٣٢٥).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة.
(٤) السابق.
(٥) في الأصل: «فأطلق البعض وأراد الكل». وهو سبق لسان.
(٦) مضى عند تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة.
(رضي الله عنه)، وعوف ومُعَوِّذ ابنا عفراء، أولاد الحارث بن عفراء، وهما أخوان ماتا ذلك اليوم، ورافع بن المعلى، وعمير بن الحمام (رضي الله عنه)، عمير بن الحمام بن الجموح، كان يأكل تمرات فسمع النبي ﷺ يقول: «أيها المسلمون قُومُوا إلى جنَّة عَرْضُهَا السماواتُ والأرْضُ، واللهِ لَنْ يَقْتُلَ هؤلاء رجلاً مِنْكُمْ مُقْبلاً غيرَ مُدْبِرٍ إلا أدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ». فقال له عمير بن الحمام (رضي الله عنه): أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ قال: «نعَم»، فلفظ التمرات من فِيه وقال: إني إن أكلت هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ثم أخذ سيفه (رضي الله عنه) فقاتل القوم حتى قتلوه (١).
هذه أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وستة من الخزرج، واثنان من الأوس قُتلوا شهداء يوم بدر (رضي الله عنهم وأرضاهم).
وكانت في بدر أشعار كثيرة ومداولات بين المشركين وغيرهم، تكلم فيها كثير من شعراء المسلمين والكفار، فيها من شعر حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، وحسان بن ثابت، وغيرهما، وفيها من شعر الكفار: شعر ضرار بن الخطاب الفهري وغيره من شعراء قريش، وذلك باب إذا ذكرناه يطول بنا المقام، فنذكر منه قليلاً: فحسان (رضي الله عنه) شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر ما كان من
_________
(١) مسلم في الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، حديث رقم: (١٩٠١) (٣/ ١٥٠٩) وفيه التصريح أن ذلك يوم بدر، وأخرج البخاري نحوه في المغازي، باب غزوة أُحد، حديث رقم: (٤٠٤٦) (٧/ ٣٥٤) وليس فيه تسمية صاحب القصة، وفيه التصريح أن ذلك يوم أحد، وقد ذهب الحافظ إلى أنهما قصتان. الفتح (٧/ ٣٥٤).
وقرأ عليهم آياتٍ من أولِ سورةِ (يس) حتى بَلَغَ ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [يس: آية ٩] وَوَضَعَ على رأسِ كُلِّ واحدٍ منهم الترابَ. ثم خرجَ هو وأبو بكرٍ (رضي الله عنه).
قال بعضُهم: خرج من خوخةٍ في قَفَا دارِ أبي بكرٍ التي في بَنِي جُمَحَ، وذهب هو وأبو بكر إلى الغارِ، وهو غارٌ في جبلٍ من جبالِ مكةَ يُسَمَّى ثورًا، فدخل فيه هو والنبيُّ صلى الله عليه وسلم، وجاءَه ليلاً، ومكثوا فيه ثلاثَ ليالٍ بأيامِها حتى يرجعَ الطلبُ، وَآجَرُوا رجلاً من بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأريقطِ على دينِ كفرِ قريشٍ، يُقال: إن له خؤولةً في بَنِي سهمِ بنِ عمرِو بنِ هصيصِ بنِ كعبِ بنِ لؤيٍ، فَأَمَّنَهُ وَاسْتَأْجَرَهُ على راحلتيهما وواعدَه بعدَ ثلاثِ ليالٍ أن يأتيَهم بالراحلتين في غارِ ثورٍ، وكان كافرًا أمينًا، كَتَمَ سِرَّهُمَا وَحَفِظَ عليهما أمرَهما، وجاءهما في الموعدِ، وكان عبدُ اللَّهِ بنُ أبي بكرٍ (رضي الله عنهما) غلامًا ثَقِفًا شابًّا عاقلاً، كان يأتيهم بأخبارِ قريشٍ وَكُلِّ ما قالوا وَتَحَدَّثُوا به في شأنِهم في النهارِ يأتيهم به في الليلِ في الغارِ، وكانت أسماءُ (رضي الله عنها) تأتيهم بالطعامِ، وكان عامرُ بنُ فهيرةَ الطائيُّ (رضي الله عنه) مولَى أبي بكرٍ الصديقِ كان عبدًا مَمْلُوكًا لأولادِ أُمِّ رومانَ، وهي أُمُّ عائشةَ، كانت لها أولادٌ قبلَ أبِي بكرٍ، وكان عامرُ بنُ فهيرةَ هذا عَبْدًا لهم، فاشتراه أبو بكر (رضي الله عنه) فَأَعْتَقَهُ، فكان مولًى لأَبِي بكرٍ، كان يريحُ على النبيِّ وأبي بكر غَنَمًا لأبي بكر (رضي الله عنه) فيحلبُ لهم منها فيشربونَ بالليلِ، ثم إذا كان في آخِرِ الليلِ صَاحَ بها فأصبحَ مع رعاءِ قريشٍ، ولا يَدْرُونَ أنه كان معهم. فمكثوا فيها ثلاثَ ليالٍ، فجاءهم عبدُ اللَّهِ بنُ الأريقطِ الدؤليُّ - رفيقُهم - وَرَكِبَا، وكان خرِّيتًا ماهرًا، سار بهم في طرقٍ غيرِ معهودةٍ؛ لأَنَّ الطرقَ المعهودةَ عليها


الصفحة التالية
Icon