هذه الكرباتِ إن كانت لَكُمْ قُدْرَةٌ. والمعنَى: لاَ تَقْدِرُونَ على الخروجِ عَمَّا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يفعلَه فيكم.
القولُ الثاني: أن روحَ الكافرِ إذا عَلِمَتْ بما لها عِنْدَ اللَّهِ من العذابِ الشديدِ تَفَرَّقَتْ فِي جسدِه وَامْتَنَعَتْ مِنَ الخروجِ، فَهُمْ يقولونَ: ﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾ قَدِّمُوا أَرْوَاحَكُمْ وَأَخْرِجُوهَا مِنْ أَبْدَانِكُمْ لِنَأْخُذَهَا.
ثم قال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ الْهُونُ: هو أَشَدُّ الهوانِ، وهو الذُّلُّ والخزيُ - والعياذُ بِاللَّهِ - وإنما أضافَ العذابَ إلى (الهونِ) لأَنَّهُ عذابٌ موصوفٌ بأن صاحبَه يقعُ عليه أعظمُ الهوانِ وأشدُّه، كَقَوْلِكَ: رَجُلٌ سُوءٌ، وَعَذَابٌ هُونٌ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك (١).
وقولُه: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أن الذين يفترونَ على اللَّهِ الكذبَ لاَ أحدَ أظلمُ منهم في قولِه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾.
ثم بَيَّنَ أنهم عندَ الاحتضارِ تَتَوَفَّاهُمُ الملائكةُ، ويبسطونَ أيديَهم إليهم بضربِ الوجوهِ والأدبارِ. ثم بَيَّنَ عِلَّةَ ذلك: ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ في دارِ الدنيا: ﴿تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ كَادِّعَائِكُمْ لَهُ الأولادَ والشركاءَ، وأنه حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَأَحَلَّ ما لم يُحَلِّلْهُ، وكقولِ بعضِكم إنه أُوحِيَ إليه ولم يُوحَ إليهِ شيءٌ، وكقولِ بعضِ الكفارِ: إنه سَيُنْزِلُ مثلَ ما أنزلَ اللَّهُ. كُلُّ هذا من افتراءِ الكذبِ على اللَّهِ، الذي بَيَّنَ اللَّهُ أنه سببٌ لعذابِه وضربِ الملائكةِ إِيَّاهُ، حيثُ بَيَّنَ العلةَ بقولِه: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ مِنَ افْتِرَاءِ الكذبِ بادعاءِ الأولادِ والشركاءِ، وما
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٣).
(نعم) في رواية أبي هريرة، و (قد فعلت) في رواية ابن عباس، وكلتاهما ثابتة في صحيح مسلم (١)، والله (جل وعلا) يقول: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب: آية ٥] فالخطأ والنسيان وما لا يقصده الإنسان مَعْفُوٌّ عنه؛ ولذا قال: ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾.
ثم قال: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام: آية ١٥٢] وهذه الآية عظيمة جدّاً، وهي من الآداب الاجتماعية العامة، البالغة في العظمة، وهي تشمل أشياء كثيرة، إذا كنت تشهد بحق فلا تشهد عند القاضي إلا بعدل، واخش شهادة الزور لأجل قريب، أو رشوة أو غير ذلك، وإذا كنت قاضياً فلا تقل إلا الحق، واحذر أن تميل لقرابة أو لغرض أو رشوة ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: آية ٥٨] وإذا كلمت أخاك المسلم فلا تقل إلا عدلاً، ولا تقل له شيئاً يُؤْذِيه، ولا تكذب عليه، وإذا حدثت عن قصة ماضية فلا تقل إلا عدلاً ولا تكذب، وإذا حدّثت عن الله فلا تقل في صفاته إلا اللائق الكريم، وإذا قلت في كل قول فلا تقل إلا أمراً كريماً عدلاً.
ومن حفظ لسانه وكان لسانه معتدلاً لا يقول إلا ما يرضي الله فإن هذا من أحكم الآداب الاجتماعية التي يُطفَأُ بها الشرر العظيم المتفشِّي في المجتمع؛ لأن أكثر الأضْرَار الاجتماعية هي جنايات اللسان، وعدم اعتداله في قوله، فيقول على هذا ما لم يفعل، ويلمز هذا بما يؤذيه، ويشهد على هذا بالزور، ويحكم على هذا بالباطل،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٠) من سورة الأنعام.

فَإِنْ تَقْتُلُونَا عِنْدَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فَلَسْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلْ
فقولُه: «فإن تَقْتُلُونَا» لو كان هو ميتًا مقتولاً لَمَا كان حَيًّا يُرزَق يقولُ الشعرَ، وإنما المرادُ: فإن تقتلوا بعضَنا.
فَلَمَّا عقروا الناقةَ واقتسموا لَحْمَهَا، قيل: وكذلك فصيلها. وقيل: دَخَلَ فصيلُها في الصخرةِ فَانْفَرَجَتْ له. ويزعم بعضُ المؤرخين: أن صَالِحًا لَمَّا عَلِمَ أنهم عقروها قال لهم: أَدْرِكُوا فَصِيلَهَا لعلَّ اللهَ يكشفُ عنكم العذابَ. وأنهم لم يستطيعوا أن يُدْرِكُوهُ، فلما أَخْبَرُوا نَبِيَّهُمْ صالحًا قال لهم ما حَكَى اللهُ عنه: ﴿فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: آية ٦٥] يعنِي: لكم متعةُ ثلاثةِ أيامٍ وبعدَ اليومِ الثالثِ يأتيكم العذابُ الْمُسْتَأْصِلُ. قالوا له: وما علامةُ ذلك؟ يذكرُ المفسرونَ والمؤرخونَ أنه قال لهم: تُصْبِحُونَ في اليومِ الأولِ وألوانُكم مُصْفَرَّةٌ، ثم في اليومِ الثانِي تحمرُّ ألوانُكم، ثم في اليومِ الثالثِ تسودُّ ألوانُكم، ثم في اليومِ الرابعِ يأتيكم عذابُ اللهِ المستأصلُ فيهلككم اللهُ. هكذا يقولونَ.
ويزعمُ المفسرونَ والمؤرخونَ: أن عَقْرَ الناقةِ كان يومَ الأربعاءِ - وكانوا يسمونَ الأيامَ بغيرِ هذه الأسماءِ المعروفةِ - فلما كان يومُ الخميسِ أصبحت وجوهُهم مُصْفَرَّةً، وصار بعضُهم يقولُ لبعضٍ: أَلاَ ترى هذه الصفرةَ التي في وَجْهِكَ؟ فعلموا بالهلاكِ، وَأَيْقَنُوا صِدْقَ النبيِّ صالحٍ، فلما كان يومُ الجمعةِ - فيما يزعمونَ - أصبحت ألوانُهم مُحْمَرَّةً، فازدادوا يقينًا بالهلاكِ، فلما كان يومُ السبتِ أصبحت ألوانُهم مُسْوَدَّةً (١). وبعضُ أهلِ العلمِ يقولُ: هو اليومُ الثالثُ
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٥٣٥)، البداية والنهاية (١/ ١٣٦).
المداولات في بدر ما كان بين حسان وبين الحارث بن هشام (رضي الله عنه) أخي أبي جهل بن هشام؛ لأن حسان دائمًا يُعيِّر الحارث بن هشام بفراره يوم بدر، وقتل إخوانه، وبقاء أخيه طريحًا في الملحمة -أعني أبا جهل قبحه الله- وكان حسان (رضي الله عنه) ذكر تَمَثُّل إبليس لهم في أبيات قال -يعني تمثل إبليس في صورة سراقة بن مالك- قال في ذلك (١):
سِرْنَا وسَارُوا إلى بدر لِحينِهمُ لو يَعْلَمُونَ يَقينَ الأَمْرِ ما سَارُوا
دَلاَّهُمُ بغرورٍ ثم أَسْلَمَهُم إن الخَبِيثَ لمن والاهُ غَرَّارُ
وقال إني لكم جَارٌ فَأَوْرَدَهُم شَرَّ المَوَاردِ فيه الخِزْيُ والعَارُ
وكان حسان (رضي الله عنه) يذكر في أشعاره بدرًا، له فيها قصائد، وفيها لحمزة بن عبد المطلب وغيرهم من الصحابة، وفيها لجماعة من قريش، منهم ابن الزبعرى، ومنهم ضرار بن الخطاب الفهري وغير ذلك، وكان حسان (رضي الله عنه) قال (٢):
لَقَدْ عَلِمَتْ قُريشٌ يومَ بدرٍ غَداةَ الأَسْرِ والقَتْلِ الشَّدِيدِ
بأنَّا حينَ تشْتَجِرُ العَوَالي حُمَاةُ الحرب يومَ أبي الوليدِ
قَتَلنا ابني ربيعةَ يومَ سارُوا إلينا في مضاعَفَةِ الحديدِ
ومرَّ بها حكيمٌ يومَ جَالَتْ بنُو النجارِ تخطرُ كالأُسودِ
وَوَلَّتْ عند ذاكَ جموعُ فِهْرٍ وأَسْلَمَها الحويرثُ من بعيدِ
الحويرث: يعني الحارث بن هشام؛ لأنه ينكد عليه في شعره دائمًا، كقوله هنا:
وأَسْلَمَهَا الحويرثُ من بعيد
_________
(١) الأبيات في السيرة لابن هشام ص٧٠٦.
(٢) ديوانه ص٨٧ - ٨٨.
الرصدُ والعيونُ، وكانت قريشٌ أَخَذُوا قائفًا خبيرًا بِقَصِّ الأثرِ يقال هو سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جعشمَ، ويقال هو غيرُه، فَاقْتَصَّ بهم الأثرَ حتى بلغ الغارَ، وقال: مِنْ هَاهُنَا ضاعَ الأثرُ. ويقول أصحابُ الأخبارِ وَالسِّيَرِ: إن الله قَيَّضَ العنكبوتَ فَنَسَجَتْ على الغارِ (١)،
وَقَيَّضَ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَبَاضَتَا على فَمِ الغارِ (٢)، فلما جاء كفارُ مكةَ وَوَصَلُوا فَمَ الغارِ، قال أبو بكر لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أن أحدَهم نَظَرَ تحتَ قَدَمَيْهِ لَرَآنَا. فقال له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَالُكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟» (٣)
فرجعوا خَائِبِينَ. فلما كان بعدَ ثلاثِ ليالٍ ورجعَ الطلبُ جاءهم عبدُ اللَّهِ بنُ الأُريقطِ براحلتيهما وَرَكِبَا ومعهما عامرُ بنُ فهيرةَ. وكان عامرُ بنُ فهيرةَ رديفَ أبِي بكرٍ والنبيُّ ﷺ على إحدى الناقتين اللتينِ اشتراهما أبو بكر لهذا الْغَرَضِ، وهي ناقتُه العضباءُ المشهورةُ، وَلَمَّا عرضها عليه أبو بكر (رضي الله عنه) أَبَى أن يَقْبَلَهَا إلا بالثمنِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، فخرجَ بهما في طريقٍ يُسَمَّى طريقَ الساحلِ، وجاء إلى طرقٍ غيرِ معهودةٍ، وابنُ إسحاقَ ذَكَرَ الْمَحَالَّ التي جاء منها (٤)، تارةً يَصِلُونَ إلى الطريقِ المعهودةِ، وتارةً يخرجونَ عنها
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال..
(٢) أخرجه ابن سعد (١/ ١٥٤)، والبزار (كشف الأستار ٢/ ٢٩٩) ولا يصح في بيض الحمامتين شيء. وانظر: أحاديث الهجرة ص ١٣٨.
(٣) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، منهم أبو بكر رقم (٣٦٥٣) (٧/ ٨). وانظر الأحاديث رقم (٣٩٢٢، ٤٦٦٣).
وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق. رقم (٢٣٨١) (٤/ ١٨٥٤).
(٤) نقله عنه ابن هشام ص٥١٤ - ٥١٦، وابن كثير في البداية والنهاية (٣/ ١٨٩). وقد جاء ذلك في بعض الروايات عند الحاكم (٣/ ٨)، وابن سعد (١/ ١/١٥٧) وانظر مجمع الزوائد (٦/ ٥٥).


الصفحة التالية
Icon