جَرَى مَجْرَى ذلك: ﴿وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ وَكُنْتُمْ عن آياتِه (جل وعلا) إِذَا تُلِيَتْ عليكم تَسْتَكْبِرُونَ، تتكبرونَ عنها وتأنفونَ مِنَ اتِّبَاعِهَا؛ لأَنَّ قادةَ الكفارِ ورؤساءَهم كانوا إِذَا تُلِيَ عليهم القرآنُ وَدُعُوا إلى الدِّينِ قالوا بِجَهْلِهِمْ: نحنُ الآنَ رؤساءُ مَتْبُوعُونَ، كيف نتنازلُ ونكونُ أتباعًا مأمورينَ مَرْؤُوسِينَ؟ لا يكونُ ذلك!! وَلِذَا أَجْرَى اللَّهُ العادةَ أن مَنْ يُنَاصِبُ الرسلَ بالعداوةِ هو أَشْرَافُ الناسِ والمترفونَ منهم، كما صَرَّحَ اللَّهُ به في آياتٍ من كتابِه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ: آية ٣٤] وفي حديثِ هرقلَ مع أَبِي سفيانَ الثابتِ في الصحيحِ: أن مَلِكَ الرومِ (هرقلَ) لَمَّا سَأَلَ أَبَا سفيانَ: أَأَشْرَافُ الناسِ يَتَّبِعُونَهُ أم ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قالَ: بَلْ ضعفاؤُهم. قال: أولئك أتباعُ الأنبياءِ (١).
أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بذلك، وَمِمَّا يوضحُ هذا أن أولَ الأنبياءِ الذين بُعِثُوا إلى الأرضِ بعدَ أن وَقَعَ الكفرُ والإشراكُ بِاللَّهِ: هو نوحٌ (عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ)، كان أتباعُه مِنْ ضُعَفَاءِ قَوْمِهِ؛ وَلِذَا قال له قومُه: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: آية ١١١] وقالوا لَهُ: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: آية ٢٧] وَآخِرُهُمْ نَبِيُّنَا - ﷺ -. كذلك قَدَّمْنَا في هذه السورةِ الكريمةِ العظيمةِ - سورةِ الأنعامِ - أن رؤساءَ الكفرةِ قالوا له: لاَ نُجَالِسُكَ حتى تَطْرُدَ عنا هؤلاء النَّتْنَى، يَعْنُونَ ضعفاءَ المسلمين. وقد مَرَّ معنا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فيهم في قولِه: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾
_________
(١) أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب (٦)، حديث رقم: (٧)، (١/ ٣١)، ومسلم في الجهاد والسير، باب كتاب النبي - ﷺ - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام. حديث رقم: (١٧٧٣)، (٣/ ١٣٩٣).
فإذا كان يزن قوله بميزان الشرع ولا يقول إلا عدلاً، كان هذا من أعظم الآداب الاجتماعية، وأكثر المنافع للمجتمع وأعظمها تفادياً لكثرة الأضرار الناشئة عن عدم العدل في القول؛ ولذا قال جل وعلا: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ يعني: لا تحملك قرابة أحد على أن لا تعدل في القول فتشهد له بباطل لِقَرَابَتِهِ، أو تشهد على خصمه بما يُؤْذِيه، أو تشهد على الشاهد لِخَصْمِهِ إن جرحه، أو نحو ذلك، فلا تحملنَّك القرابة أن تقول إلا عدلاً، ولا يصدر منك كلام إلا على الحق والعدل المطابق لما يرضي الله (١)، كما قدمنا في قوله: ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ﴾ [المائدة: آية ٨] وفي الآية الأخرى: ﴿كونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلهِ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [النساء: آية ١٣٥] أي: ولا يحملك أيضًا أن هذا فقير وهذا غني، فتشهد على الغني رحمة بالفقير، أو تكتم الشهادة على الفقير رحمة به للغني لا تفعل هذا، فَقُل الحق على بابه كائناً من كان على القريب وعلى الفقير وعلى الغني.
وآية النساء هذه: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ وما بعدها فيه سرّ أعظم وتعليم أكبر؛ لأن الله يعلم أنه سيأتي في آخر الزمان مذاهب هَدَّامة، تتصل إلى سلب حقوق الناس أموالهم بدعوى أن هذا فقير وأن هذا غني، وأن هذا الغني ابْتَزَّ ثروات الفقراء، وأنه ينبغي أن يُنْزَع مال الغنيّ ليستوي هو والفقير باسم العدالة الاجتماعية! فالله (جل وعلا) علم أن هذا سيقع، وبَيَّن حكمه قبل أن يقع، فقال: لا تتخذوا من كون هذا غنيّاً وكون هذا فقيراً طريقاً
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٨١).
من عَقْرِهَا، فهلاكُهم يومُ السبتِ. وبعضُهم يقولُ: هو صبيحةُ الأحدِ. وَلَمَّا أَيْقَنُوا بالهلاكِ يزعمونَ أنهم تَحَنَّطُوا بالأشياءِ المصبِّرةِ، ولبسوا الأشياءَ التي هي كالأكفانِ مستعدينَ للهلاكِ، فلما ارْتَفَعَتْ شمسُ اليومِ بعدَ اليومِ الثالثِ جاءتهم الصيحةُ، سَمَّاهَا اللهُ في آياتٍ صيحةً، كما قال: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ [هود: آية ٦٧] والمرادُ بهم قومُ صالحٍ، وَسَمَّاهَا هنا رجفةً فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨)﴾ [الأعراف: آية ٧٨] ولا منافاةَ بَيْنَ تسميتِها صيحةً وتسميتِها رجفةً؛ لأَنَّ الصيحةَ يصيحُ بهم الملكُ من فوقِهم نازلاً من السماءِ، فإذا صَاحَ بهم رَجَفَتْ بهم الأرضُ وَارْتَعَدَتْ من شدةِ صيحةِ الملكِ، فَفَارَقَتْ أرواحُهم أبدانَهم فلم يَبْقَ منهم دل ولا مجيبٌ والعياذُ باللهِ جل وعلا (١).
وهذا معنَى قولِه: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾ [الأعراف: آية ٧٣] ﴿آيَةً﴾: حالٌ مقدَّرةٌ، والعاملُ فيها معنَى الإشارةِ، أُشِيرَ إليها في حالِ كونِها آيةً. أي علامةً واضحةً على أنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ من اللَّهِ جِئْتُكُمْ. والتحقيقُ: أنها إنما كانت آيةً لانْفِلاَقِ الصخرةِ عنها، كما قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ ثم قال: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: آية ٥٩] خِلاَفًا لمن زَعَمَ أن كونَها آيةً: عِظَمُهَا، وأنها تشربُ البئرَ كُلَّهَا، ولا توجدُ ناقةٌ من إبلِ الدنيا تشربُ بِئْرًا كُلَّهَا وحدَها في وقتٍ واحدٍ!! وخلافًا لِمَنْ زعم أن كونَها آيةً: كثرةُ ما يُحْلَبُ منها من اللبنِ؛ لأنها يُحْلَبُ بها من اللبنِ ما يَسَعُ خلائقَ كثيرةً، كل هذا قيل به، والأظهرُ هو ما عليه جمهورُ المفسرينَ، ويدلُّ
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ١٣٦)، الدر المصون (٥/ ٣٦٩)، الأضواء (٢/ ٣٢٥).
وكتعييره له في ميميته المشهورة التي هي من أشهر ما قيل في بدر (١):

تَبَلَتْ فُؤادَكَ في المَنَامِ خريدةٌ تَسْقِي الضَّجيعَ بِبَارِدِ بَسَّامِ
كالمِسْكِ تَخْلِطُهُ بماءِ سَحَابَةٍ أو عَاتِقٍ كَدَمِ الذَّبيحِ مُدَامِ
نُفُجُ الحَقِيبَةِ بَوْصُهَا مُتَنَصِّدٌ بَلْهَاءُ غَيْرُ وشِيكةِ الأَقْسَامِ (٢)
أما النهارُ فلا أُفَتِّرُ ذِكْرَهَا والليلُ تُوزِعُني بها أَحْلاَمي (٣)
يا مَن لِعَاذِلَةٍ تلوم سفاهة ولقد عصيتُ على الهوى لُوَّامي (٤)
إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتِني فَنَجوتِ مَنْجى الحارِثِ بن هشَامِ
تَرَكَ الأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُم ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ ولِجَامِ
وأجابه الحارث بن هشام (رضي الله عنه)، وكان المؤرخون يقولون: أحسن اعتذار اعتذر به معتذر عن جواب: اعتذار المَخْزُومِيَّيْن، أعني: اعتذار الحارث بن هشام يخاطب حسان لما قال له:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتِني فنجوتِ مَنْجَى الحارِثِ بن هشامِ
تَرَكَ الأحَبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُم ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ ولِجَامِ
أجابه الحارث يعتذر عن فراره قال (٥):
_________
(١) ديوانه ص٢١٣ - ٢١٤.
(٢) بعد هذا البيت بيتان أسقطهما الشيخ رحمه الله.
(٣) بعد هذا البيت بيت أسقطه الشيخ رحمه الله.
(٤) بعد هذا البيت بيتان أسقطهما الشيخ رحمه الله.
(٥) الأبيات في ديوان حسان (رضي الله عنه) ص٢١٦ وهي أربعة أبيات أسقط الشيخ (رحمه الله) البيت الثاني منها. وفي السيرة ص٧٧٣ ثلاثة أبيات.
حتى وصلوا المدينةَ. ومن أشهرِ ما حَصَلَ في طريقِهم إلى المدينةِ قصةُ أُمِّ معبدٍ، وقصةُ سراقةَ بنِ مالكِ بنِ جعشمَ. وَمِمَّا نَزَلَ من القرآنِ في هذا السفرِ، نَزَلَتْ فيه آياتٌ من القرآنِ منها قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: آية ٨٥] قال بعضُ العلماءِ: نَزَلَتْ في الجحفةِ في سفرِ الهجرةِ هذا، وفي هذا السفرِ مَرَّ على ديارِ بَنِي مُدْلِجٍ، يقول بعضُهم: هي قريبٌ من قديدٍ فقال رَجُلٌ: رأيتُ أشخاصًا كأنهم القومُ الذين يطلبهم قريشٌ. فعلم سراقةُ بنُ مالكٍ أنهم هُمْ، ولكنه طَمِعَ بأن يأخذَهم أو يقتلَهم فينال الجعائلَ التي جَعَلَتْهَا قريشٌ. فقال: لاَ، أولئك قومٌ خرجوا للكلأ. ثم بعدَ هنيهةٍ خَرَجَ وَأَمَرَ جاريتَه أن تُسْرِجَ فرسَه من وراءِ أَكَمَةٍ، ثم خرج مختفيًا فركب على فرسِه، فلما قاربَهما سَاخَتْ به قوائمُ فَرَسِهِ في الأرضِ، في القصةِ المشهورةِ، فطلب الأمانَ من رسولِ اللَّهِ ﷺ (١)،
قال بعضُ أهلِ السيرِ والأخبارِ: إن النبيَّ ﷺ كَتَبَ له رقعةً، وصار يُثَبِّطُ الناسَ ويردُّهم عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ بذلك الخبيثُ أبو جَهْلٍ، وأرسل إلى بَنِي مُدْلِجٍ يحذرُهم من نصرِ سراقةَ لِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويقولُ أبو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ في ذلك أشعارًا في غايةِ الكفرِ، ويعيبُ على سراقةَ نصرَه لِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ومما يقولُ في ذلك (٢):
بَنِي مُدْلِجٍ إِنِّي أَخَافُ سَفِيهَكُمْ سُرَاقَةَ مُسْتَغْوٍ لِنَصْرِ مُحَمَّدِ
_________
(١) خبر سراقة وما قبله مما يتعلق بالهجرة من روايات كل ذلك تقدم تخريجه في مواضع سابقة. منها عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال..
(٢) البيتان في البداية والنهاية (٣/ ١٨٦).


الصفحة التالية
Icon