[الأنعام: آية ٥٢] وأنه - ﷺ - لَمَّا نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ كانَ يجلسُ مَعَهُمْ، فإذا كَانَتْ لَهُ الحاجةُ قَامَ عنهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: آية ٢٨] حتى صَارُوا يقولونَ: قُومُوا عَنِ النبيِّ - ﷺ - لِيُمْكِنَهُ أن يقومَ لحاجتِه. وَلَمَّا أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بِأَنَّ أولَ مَنْ يُكَذِّبُ الرسلَ وَيُنَاصِبُهُمْ بالعداوةِ الرؤساءُ المترفونَ قال هُنَا فيهم: ﴿وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾.
[١٠/أ] / ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُم مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: آية ٩٤].
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه الآياتِ من سورةِ الأنعامِ أنه لا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ ادَّعَى الوحيَ كَذِبًا، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ ادَّعَى أنه قادرٌ على إنزالِ مثلِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَبَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أن هؤلاءِ الظالمينَ الذين قالوا هذه المقالاتِ أنهم إذا حَضَرَتْهُمُ الوفاةُ بَسَطَتِ الملائكةُ أيديَهم إليهم بالعذابِ والنكالِ، وقالوا لهم: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ [الأنعام: آية ٩٣] بَيَّنَ حالتَهم التي يُبْعَثُونَ عليها، وشدةَ ضَعْفِهِمْ وعدمَ قُوَّتِهِمْ التي كانت هي سببَ تمردِهم فِي الدنيا.
وقولُه في هذه الآياتِ: ﴿سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ﴾ يَدْخُلُ في معناه: مَنِ ادَّعَى أنه يُنَظِّمُ للبشريةِ ما يُغْنِيهَا عَنْ نِظَامِ اللَّهِ (جل وعلا) الذي وَضَعَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَ هذا - والعياذُ بِاللَّهِ - فَقَدِ اتَّبَعَ أحدًا لاَ أظلمَ في الدنيا مِنْهُ - والعياذُ بِاللَّهِ - فالذي يُنْزِلُهُ اللَّهُ لاَ يقدرُ أحدٌ على أن ينزلَ مثلَه. وَمَنِ ادَّعَى أنه ينزلُ مثلَه صَرَّحَ اللَّهُ في هذه الآياتِ الكريمةِ أنه لاَ أحدَ أَلْبتَّةَ أَظْلَمُ منه.
تتصلون بها إلى ظلم الناس، وأخذ أموال الناس؛ اتباعاً للهوى ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ [النساء: آية ١٣٥] وتتخذوا من ذلك طريقاً تأخذون بها أموال الناس من غير رضاهم ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ فعلى المسلم أن يعمل بقوله: ﴿وَإذَا قُلْتُم فَاعْدِلوُا﴾ فإذا أراد أن يَتَكَلَّم تأمل في الكلام الذي يقوله، فإذا كان حقّاً صواباً مرضياً لله فليقدم عليه، وإذا كان جوراً غير حق فليُحْجِمْ عَنْه، كأن يعيب الإنسان، أو يشهد بشهادة الزور أو يحكم بباطل، أو يقول عن إنسان ما ليس فيه، أو يحكي قصة فيحرِّفها، إلى غير ذلك، وهذا من المصالح العامة التي تدل على أن هذا الدين سماوي، وأن هذا كلام خَالِق الخَلْق ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: آية ١٥٢] أي: ولو كان المقول عليه من شهادة أو حكم أو أنه ظالم ﴿ذَا قُرْبَى﴾ أي: صاحب قرابة، حتى ولو كان على نفسك، كما بيّنته آية النساء.
ثم قال: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ﴾ هذه أيضاً من الآيات العظام الشاملة للمسائل الاجتماعية والإلهية، فهي من غرائب التشريع؛ لأنها شملت أحكام دين الإسلام؛ لأن العهد المضاف إلى الله هنا هو على التحقيق يشمل أمرين:
أحدهما: عهد بين المخلوق والخالق، كالنذور التي ينذرها طاعة لله، والله يقول: ﴿وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ [الحج: آية ٢٩] وقد مدح أهل الجنة بذلك حيث قال: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧)﴾ [الإنسان: آية ٧] وقد يكون عهد الله فيما بين عبيده؛ لأن العهد فيما بينك وبين أخيك هو عهد لله؛ لأنه أخذ على كل منكما العهد أن يفي لأخيه بما عاهده عليه، وأن لا يفعل معه إلا
عليه ظاهرُ القرآنِ أنها معجزةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صالحٍ، وهذا معنَى قولِه: ﴿فَذَرُوهَا تَأكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ [الأعراف: آية ٧٣].
﴿فَذَرُوهَا﴾ معناه: اتْرُكُوهَا ﴿تَأكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾؛ لأن الأرضَ التي تأكلُ فيها ليست لكم، والعُشْب الذي تَأْكُلُهُ ليس من إِنْبَاتِكُمْ، بل هي أرضُ رَبِّهَا، والنباتُ الذي أنْبَتَهُ مَنْ خَلَقَهَا، فليست الأرضُ لكم، ولستُم أنتم الذين أَنْبَتُّمْ النباتَ ﴿فَذَرُوهَا تَأكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ﴾ أي: لا تَتَعَرَّضُوا لها بشيءٍ فيه سوءٌ: من عَقْرٍ، ولا نَحْرٍ، ولاَ طَرْدٍ، ولاَ مَنْعِهَا من نصيبِها من الماءِ، إلى غيرِ ذلك.
﴿فَيَأخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فهذه فاءُ السببيةِ، والمضارعُ منصوبٌ بـ (أن) مضمرةٍ بعدَها يجبُ حَذْفُهَا، والمعنَى: لا تَمَسُّوهَا بسوءٍ فيتسببُ عن ذلك أن يأتيَكم عذابٌ أليمٌ. والأليمُ معناه: الْمُؤْلِمُ. والصحيحُ: أن (الفعيل) في لغةِ العربِ تأتِي بمعنَى (المُفْعِل) وما يذكرُه بعضُ علماءِ العربيةِ عن الأصمعيِّ من إنكارِه إتيانَ (الفَعِيْل) في اللغةِ بمعنَى (المُفْعِل) وَاغْتَرَّ به بعضُ المفسرين فقال: أليمٌ معناه: مُتَأَلَّمٌ منه، فجعلَه بصيغةِ اسمِ المفعولِ. كُلُّ ذلك غيرُ صحيحٍ، بل غَلَطٌ، والتحقيقُ: أن (الفَعِيل) تأتِي في اللغةِ العربيةِ بمعنَى (المُفْعِل) (١) كقولِه: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بمعنَى: مُؤْلِمٍ. ومنه قولُ الشاعرِ (٢):

وَنَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتٍ يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
_________
(١) انظر: تفسير الألوسي (١/ ١٥٠)، التحرير والتنوير (١/ ٢٨٢).
(٢) البيت لذي الرمة. وهو في الكامل للمبرد (١/ ٢٦٠). والشمردلات: الإبل الطوال. ونرفع: أي: نستحثها في السير. والوهج: الحر الشديد.
اللهُ يعلمُ ما تركتُ قتالَهُم... حتى رموا فَرسي بأَشْقَرَ مُزْبد...
وعَلمتُ أني إنْ أُقَاتِلْ واحدًا... أُقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوي مَشْهدي...
فَصَدَدْتُ عنهم والأَحِبَّةُ فيهم طمعًا لهم بقتال يوم مُرْصِدِ
هذا هو المخزومي الأول، والمخزومي الثاني: هبيرة بن أبي وهب، زوج أم هانئ بنت أبي طالب (رضي الله عنها)، فإن النبي ﷺ لما فتح مكة عام ثمان هرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى نجران ومات بها كافرًا - والعياذ بالله - وكان يعتذر عن فراره من رسول الله وأصحابه يوم الفتح، ويخاطب زوجه أم هانئ بنت أبي طالب (رضي الله عنها):
لَعَمْرُكِ مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّدًا... وَأَصْحَابَهُ جُبْنًا وَلاَ خِيفَةَ القَتْلِ...
وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ... لِسَيْفِي غَنَاءً إِنْ ضَرَبْتُ وَلاَ نَبْلِي...
وَقَفْتُ فَلَمَّا خِفْتُ ضَيْعَةَ مَوْقِفِي رَجَعْتُ لِعَوْد كالهِزَبْرِ أَبِي الشِّبْلِ (١)
فهذا اعتذاره كاعتذار الحارث بن هشام.
ولما أخذ ﷺ الغنائم، ومكث في عرصة بدر ثلاثة أيام، ورجع قافلاً إلى المدينة، وأرسل ابن رواحة إلى العوالي يبشرهم، وزيد بن حارثة إلى أهل المدينة يبشرهم بما فتح الله على نبيه (٢)، لما نزل وادي الصفراء راجعًا قدَّم النضر بن الحارث للقتل (٣) -النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، وكان من بني عبد الدار، وكان شديد
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأعراف، ولفظ البيت الثالث عند ابن هشام:
وقفتُ فلما لم أجد لي مُقدَّمًا صدرتُ كضرغَامِ هِزَبرٍ أبي شِبلِ
(٢) السيرة لابن هشام ص٦٨٢.
(٣) السابق ص٦٨٤.
عَلَيْكُمْ بِهِ أَلاَّ يُفَرِّقَ شَمْلَكُمْ فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عِزٍّ وَسُؤْدَدِ
فسمع بشعرِه سراقةُ بنُ مالكٍ وأرسلَ إليه بأبياتِه المشهورةِ التي ذَكَرَهَا غيرُ واحدٍ من المؤرخينَ وأصحابِ السيرِ وهو قولُه (وكان أَبُو جهلٍ يُكَنَّى أبا الحكم (١):
أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا لأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ
عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ
عليكَ بكفّ القوم عنه فإنني أرى أمره يومًا ستبدو معالمه
بِأَمْرٍ يَوَدُّ النَّاسُ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا يُسَالِمُهْ
وَمَرَّ في هذه الطريقِ بعاتكةَ بنتِ خالدٍ الخزاعيةِ المعروفةِ بِأُمِّ مَعْبَدٍ (رضي الله عنها)؛ لأنها أَسْلَمَتْ وقد رَوَيْتُ قصتَها عنها وعن أخيها حُبيشِ بنِ خالدٍ ويقال خنيس بن خالد وغيرهما (٢)
أنهم كانوا
_________
(١) الأبيات في دلائل النبوة للبيهقي (٢/ ٤٨٩)، البداية والنهاية (٣/ ١٨٦) مع اختلافات يسيرة في الأبيات الثلاثة الأولى، أما البيت الأخير فنصه في البداية والنهاية:
بأمرٍ تودُّ النصرَ فيه فإنهم وإنَّ جميعَ الناس طُرًّا مُسالِمُهْ
وفي الدلائل:
بأمر يود النصر فيه بإِلْبِهَا لو أن جميع الناس طُرًّا تسالمه
(٢) أخرجه البيهقي في الدلائل (١/ ٢٧٦)، (٢/ ٤٩١)، والحاكم (٣/ ٩)، وابن سعد (١/ ١/١٥٥)، وابن عساكر (انظر: تهذيب تاريخ دمشق (١/ ٣٢٦)، والآجري في الشريعة ص٤٦٥.
وذكره الهيثمي في المجمع (٦/ ٥٥) من حديث جابر (رضي الله عنه) مختصرًا، وعزاه للبزار، وقال: «وفيه من لم أعرفه» اهـ وأورده من حديث حبيش بن خالد (رضي الله عنه) (٦/ ٥٥) وقال (٦/ ٥٨): «رواه الطبراني في إسناده جماعة لم أعرفهم» اهـ.
كما أورده من حديث قيس بن النعمان (٦/ ٥٨) وقال: «رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح» اهـ.


الصفحة التالية
Icon