وبهذا تعلمونَ أن الذين يَتَنَطَّعُونَ وَيَدَّعُونَ أنهم يُنَظِّمُونَ للبشريةِ نظامًا أحسنَ مِمَّا أنزلَ اللَّهُ، أنهم يدخلونَ في هذه الآيةِ، وَأَنَّ الملائكةَ سَتَضْرِبُهُمْ عِنْدَ الموتِ. ستضربُ وجوهَهم وأدبارَهم، وتقولُ لهم: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأنعام: آية ٩٣] ومعلومٌ أنه لا تشريعَ إلا للسلطةِ الْعُلْيَا. فالسلطةُ العليا الحاكمةُ على كُلِّ شيءٍ هي التي لَهَا الأَمْرُ وَالنَّهْيُ.
فهؤلاءِ الذين يَتَمَرَّدُونَ على نظامِ السماءِ، ويحاولونَ قَلْبَ الحكمِ السماويِّ لو جاءَ أحدٌ يريدُ أن يَقْلِبَ الحكمَ عليهم ويحكمَ بغيرِ ما شَرَّعُوا لَقَتَلُوهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، مع أنهم يتجاهرونَ بأن نظامَ خالقِ السماواتِ والأرضِ الحكيمِ الخبيرِ، الذي نَظَّمَ فيه علاقاتِ الدنيا، وَأَوْضَحَ فيه طُرُقَ الخيرِ في الدنيا والآخرةِ، وَأَتْبَعَ فيه متطلباتِ الروحِ بالتربيةِ والتهذيبِ، ومتطلباتِ الجسمِ على الوجوهِ الشرعيةِ، يقولونَ: إِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ، ولاَ يُنَظِّمُ الحياةَ، ولا يسايرُ التطورَ الْحَالِيَّ للحياةِ. الذين يقولونَ هذا والذين يَتَّبِعُونَهُمْ، لاَ شَكَّ أنهم دَاخِلُونَ في هذا الوعيدِ في قولِه: ﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ﴾. لأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ ما أنزلَه اللَّهُ: وَضْعُ النظامِ البشريِّ الذي يَمْشِي عليه البشرُ لِيُؤَاخِيَ بينهم، وينشرَ بينهم العدالةَ والطمأنينةَ والرخاءَ والمساواةَ في الحقوقِ الشرعيةِ.
قَدْ قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا كثيرةً (١): أَنَّ مَنِ ادَّعَى أن هنالك تَنْظِيمًا ينظمُ الحياةَ البشريةَ في الدنيا مثلَ تنظيمِ اللَّهِ أو أحسنَ من تنظيمِ اللَّهِ، أن هذه الدَّعْوَى كُفْرٌ بَوَاحٌ، لاَ يَشُكُّ فيه مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ، والآياتُ المُصَرِّحةُ بذلك بإيضاحٍ كثيرةٌ في القرآنِ العظيمِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من هذه السورة.
خيراً، ومن عهود الله التي يجب الوفاء بها: وَصَايَاه التي أوْصَانَا بها في هذه الآيات المحكمات، وجميع أوامره ونواهيه، وامتثال أمر الله واجتناب نهيه، كل هذه عهود الله على خَلْقِهِ في جميع التشريع يجب الوفاء بها، وكذلك عهدك على أخيك، كأن تقول له: لك عَلَيَّ كذا، أو أشترط عليك كذا، أو أعْهَدُ إليك بكذا، فإنه يجب الوفاء في ذلك.
وفي هذه الآية تعليم عظيم؛ لأن كثيراً من الفقهاء غلطوا غلطاً فاحشاً في حديث، يرفع ذلك الغلط آيات من كتاب الله، منها هذه الآيات؛ لأن النبي - ﷺ - جاء عنه في حديث أنه قال: «مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ» (١)، فكان ابن حزم (٢) ومَنْ غَرَّهُ كَلَامُه وكثير من الفقهاء الذين لم يتدبروا معاني القرآن يَظُنّون أن كل شرط لم ينص القرآن على عينه أنه باطل؛ ولذا أبطل بعض العلماء كثيراً من الشروط، كأن تَشْتَرِطَ عَلَى أخِيكَ كَذَا في البيع من أمر مباح، أو تشترط المرأة على الزوج في عقد النكاح أمراً مباحاً، ويقولون: هذه الشروط ليست في كتاب الله، فهي باطلة.
والتحقيق: أن كل شرط لا يُحل حراماً، ولا يحرِّم حلالاً فهو في كتاب الله؛ لأن الله أمر بالوفاء بالعهد أمراً عامّاً، كقوله هنا: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا﴾ وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾ [المائدة: آية ١] فكل شرط اشترطه مسلم على
_________
(١) أخرجه البخاري في المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب، حديث رقم: (٢٥٦١)، (٥/ ١٨٧)، ومسلم في العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، حديث رقم: (١٥٠٤)، (٢/ ١١٤١).
(٢) انظر: المحلى (٩/ ٤٤).
أَيْ: وهجٌ مُؤْلِمٌ. ومنه بهذا المعنَى قولُه تعالى: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: منذرٌ. فالنذيرُ بمعنَى الْمُنْذِرِ. وقولُ عمرِو بنِ معدِ يكربَ الزبيديِّ في مطلعِ عَيْنِيَّتِهِ المشهورةِ (١):

أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
فقولُه: «السميع» يعنِي: الدَّاعِي الْمُسْمِع. فأطلق على المسمعِ السميعَ.
ومنه قولُه فيها أيضا (٢):
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍٍ تَحِيَّةُ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ
أي: ضَرْبٌ مُوجِعٌ. فهذا هو التحقيقُ.
﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ﴾ فيتسببُ عن مَسِّكُمْ إياها بالسوءِ أن يأتيكَم ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ العذابُ: نكالُ اللهِ (جلَّ وعلا) الذي يأتِي به لِمَنْ يستحقُّه بسببِ ارتكابِ الذنبِ. ﴿عَذَابٌ﴾ من اللهِ ﴿أَلِيمٌ﴾ أي: مُؤْلِمٌ، وهذا معنَى قولِه: ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾.
قولُه: ﴿تَأْكُلْ﴾ المضارعُ مجزومٌ بجوابِ الأمرِ، ويجوزُ رَفْعُهُ، إلا أنَّ عَامَّةَ مَنْ يُعْتَدُّ به من القراءِ على الجزمِ، وأكثرُ علماءِ العربيةِ: أن المضارعَ المجزومَ في جوابِ الطلبِ أن أصلَه مجزومٌ بجملةٍ شرطيةٍ محذوفةٍ (٣) وتقريرُ المعنَى: إن تَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أرضِ اللهِ. وهذا معنَى: ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ يعنِي: إن تَتْرُكُوهَا وتذروها تأكلْ في أرضِ اللهِ.
_________
(١) البيت في الأصمعيات ص١٧٢، الشعر والشعراء لابن قتيبة ص٢٤٠، (شرح الكافية الشافية) لابن مالك (٢/ ١٠٣٤).
(٢) البيت في الكتاب لسيبويه (٢/ ٣٢٣)، الدر المصون (٢/ ٤٧).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٦٩) من سورة البقرة.
العداوة لرسول الله، له قينتان تغنيانه بهجاء رسول الله- قدمه للقتل فقُتِلَ صَبْرًا، ولم يُقتل من الكفار في وقعة بدر صبرًا إلا رجلان: النضر بن الحارث هذا، وعقبة بن أبي معيط، قتل أولاً النضر بن الحارث في قُفوله في وادي الصفراء؛ فلما بلغ موضعًا آخر بعده يقولون: إن اسمه عرق الظبية قدم عقبة بن أبي معيط فقتله أيضًا (١)، ولما قَتَلَ النبيُّ ﷺ النَّضْرَ بن الحارث بن كلدة العبدري -قبحه الله- الذي سيأتي خبره في قوله في هذه السورة الكريمة: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ﴾ [الانفال: آية ٣٢] يأتي خبره في هذه السورة، وفي سورة الروم، وفي سورة المعارج -سورة (سأل سائل) - لما قتله ﷺ صبرًا وبلغ مقتله إياه بلغ أخته قتيلة بنت الحارث العَبْدَرِيَّة وقد أسلمت بعد ذلك وصارت صحابية (رضي الله عنها) أرسلت إلى النبي ﷺ شعرها المشهور، الذي لما قُرئ عليه ﷺ بكى حتى أَخْضَلَ الدمع لحيته لشدة رحمته وشفقته، وذكروا أنه قال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه (٢).
لأنه رؤوف رحيم (صلوات الله وسلامه عليه)، وكان شعرها الذي أرسلت إليه به الذي أبكاه ﷺ وقال: لو بلغه قبل أن يقتله لعفى عنه. هو قولها (٣):
يا راكبًا إن الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ من صُبحِ خامسةٍ وأَنْتَ موفَّقُ
أبلغْ بها مَيْتًا بأن تحيةً ما إن تزالُ بها النجائبُ تَخْفِقُ
مني إليكَ وعبرةً مسفُوحةً جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وأُخْرى تخنُقُ
_________
(١) السابق.
(٢) ذكره ابن هشام في السيرة ص٨٠٣.
(٣) السابق ص ٨٠٢ - ٨٠٣.
في شِدَّةٍ، وكانت أغنامُهم عازبةً، فَمَرَّ بها رسولُ اللَّهِ ﷺ ومعه أبو بكر وعامرُ بنُ فهيرةَ وعبدُ اللَّهِ بنُ الأريقطِ، فسألوها هل عندها لحمٌ أو تَمْرٌ يُبَاعُ؟ فقالت: لا شيءَ عندها. وقالت: لو كان عندنا القِرَى ما أَعْوَزَكُمْ؛ لأن الْحَيَّ في شدةٍ، والأغنامُ عازبةٌ، فَنَظَرَ رسولُ الله ﷺ إلى شاةٍ في كسرِ خيمتِها فقال: «مَا بَالُ هَذِهِ الشَّاةِ؟» قالت: خَلَّفَهَا الجهدُ. قال: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلُبَهَا؟» قالت: إن وجدتَ فيها حليبًا فاحلبها. فدعا بها رسولُ اللَّهِ ﷺ فَمَسَحَ ضرعَها وسمى الله، فَتَفَاجَّتْ وَاجْتَرَّتْ، ودعا بإناءٍ عظيمٍ فحلب فيه حتى امتلأ، فسقاها هي وَمَنْ معها، ثم سَقَى قَوْمَهُ، وشرب ﷺ وقال فيما يقولُ أهلُ الأخبارِ: «سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا» (١) ثم أخذَ الإناءَ وملأه مرةً أخرى وتركَه عندَها وخرجَ. فلم تَمْكُثْ إلا قليلاً أن جاء زوجُها أبو معبدٍ فوجدَ الإناءَ مملوءًا من اللبنِ، فعجب منه وقال: كيف هذا اللبنُ؟ ولا حلوبةَ في البيتِ؟ فقالت: جاءنا رجلٌ مباركٌ من صفتِه كيت وكيت، فقال: صِفِيهِ لِي يا أُمَّ مَعْبَدٍ. فَوَصَفَتْهُ وصفَها المشهورَ، فقالت له: رأيتُ رجلاً ظاهرَ الوَضَاءةِ، حَسَنَ الْخَلْقِ، مليحَ الوجهِ، لم تُعِبْهُ تُجْلَة (٢)، ولم تُزْرِ به صُعْلَةٌ، قَسِيمٌ وَسِيمٌ، في عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وفي
_________
(١) أخرجه ابن سعد (١/ ١/١٥٥) في خبر الهجرة. وهذه الجملة «ساقي القوم آخرهم شربًا» سردت أيضًا في مناسبة غبر سفر الهجرة كما في حديت أبي قتادة (رضي الله عنه) عند مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة رقم (٦٨١) (١/ ٤٧٢).
(٢) المثبت في أكثر الروايات (تُجلة)، وفي بعضها: (تُحْلَة). والثُّجلة: عظم البطن، والنحلة: الدقة والنحول.


الصفحة التالية
Icon