(١)، منها: أن الشيطانَ لَمَّا جاءَ تلامذتُه مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وجاءهم بوحيِ الشياطين، وقال لهم: سَلُوا مُحَمَّدًا - ﷺ - عن الشاةِ تُصْبِحُ مَيِّتَةً، مَنْ هُوَ الذي قَتَلَهَا؟ فَلَمَّا أَجَابَ وَقَالَ: «اللَّهُ قَتَلَهَا». أَوْحَى إليهم الشيطانُ أن قالوا: مَا ذَبَحْتُمُوهُ بأيديكم - يَعْنُونَ الْمُذَكَّى - تقولونَ: حَلاَلٌ. وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ - يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ - تقولونَ: هُوَ حَرَامٌ؟ فَأَنْتُمْ إِذًا أحسنُ مِنَ اللَّهِ؛ حيث كانت ذبيحتُكم أَحَلَّ من ذبيحتِه (٢)!! فهذه قضيةٌ اخْتَلَفَ الحقُّ والباطلُ فيها في مضغةِ لحمٍ، شاةٌ مَاتَتْ وَلَمْ تُذَكَّ، فجاء تشريعُ الشيطانِ بأنها: حَلاَلٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ هو الذي ذَبَحَهَا، وجاءَ نظامُ الإسلامِ، وتشريعُ السماءِ، على لسانِ سَيِّدِ الخلقِ: أنها حرامٌ؛ لأَنَّهَا لَمْ تُذَكَّ، ولم يُذْكَرْ عليها اسمُ اللَّهِ، فَصَرَّحَ اللَّهُ (جل وعلا) بأن الذين يَتْبَعُونَ قانونَ إبليسَ، ونظامَ الشيطانِ،
وَيُحَلِّلُونَ لحمَ الميتةِ الذي حَرَّمَهُ نظامُ السماءِ، أنهم كفرةٌ مُشْرِكُونَ؛ وَلِذَا قال اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ يعنِي الميتةَ. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ يُجَادِلُوهُمْ بوحيِ الشيطانِ: ما ذَبَحْتُمُوهُ حلالٌ وما ذَبَحَهُ اللَّهُ حرامٌ، فَأَنْتُمْ إِذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ. هذا معنَى قولِه: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾.
ثُمَّ قَالَ - وهو محلُّ الشاهدِ -: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] وإن أَطَعْتُمُوهُمْ في نظامِ إبليسَ في تحريمِ تلك اللحمةِ التي حَلَّلَهَا إبليسُ على لسانِ أَتْبَاعِهِ - بِدَعْوَى شبهةِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وَحَرَّمَهَا اللَّهُ في تشريعِه السماويِّ على لسانِ نَبِيِّهِ - ﷺ - صَرَّحَ اللَّهُ بأن مَنِ اتَّبَعَ نظامَ إبليسَ وَأَحَلَّ تِلْكَ الميتةَ، وَتَرَكَ نظامَ اللَّهِ الذي هو تحريمُها: أنه مُشْرِكٌ بِاللَّهِ،
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٣/ ٤٣٩).
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ٧٨)، ابن كثير (٢/ ١٧١).
مسلم، ولم يكن هذا الشرط يبيح حراماً حرّمه الله، أو يحرم حلالاً أحلّه الله، بل كان مشترطاً أمراً جائزاً، فهذا الشرط في كتاب الله؛ لأن الله أمر المسلمين بالوفاء بالعهود في آيات كثيرة، وهي شروط عامة، كقوله هنا: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ﴾ يعني: أن عهد الله هنا يشمل جميع الأمانات؛ من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ويدخل فيه الوفاء بالنذور، ويدخل فيه عهود المسلمين بعضهم على بعض، وشروط بعضهم على بعض؛ لأن المسلمين عند شروطهم، فكل شرط اشترطه مسلم على مسلم، وكان ذلك الشرط لا يحل حراماً حرَّمه الله، ولا يحرم حلالاً أحله الله، فهو في كتاب الله؛ لعموم الأدلة على وجوب الوفاء بالعهود، والشروط من أوكد العهود التي أمر الله بالوفاء فيها، وقد ثبت عن النبي - ﷺ - في الحديث المتفق عليه أنه قال: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» (١) فما تشترطه المرأة على زوجها بالعقد إن كان لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً.
أما الشرط الذي أحل حراماً أو حَرَّمَ حلالاً فهو ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن كان مئة شرط، وهذا معنى قوله: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا﴾.
ثم أعاد الله (جل وعلا) الوصية وكَرَّرَهَا علينا، ثم قال: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ ذلكم المذكور في هذه الآية من التباعد من أكل مال اليتيم، ومن بخس المكيال والميزان، ومن عدم العدل في القول، ومن الإيفاء بالعهد، هذه الأمور التي أمَرَكم الله بها، وحذركم عن
_________
(١) البخاري في الشروط، باب: الشروط في المهر عند عقدة النكاح، حديث رقم: (٢٧٢١)، (٥/ ٣٢٣)، وطرفه في (٥١٥١)، ومسلم في النكاح، باب: الوفاء بالشروط في النكاح، حديث رقم: (١٤١٨)، (٢/ ١٠٣٥).
ومعنَى قولِه: ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ﴾ أي: بأيِّ أَذًى من أنواعِ الأَذَى، من عَقْرٍ، أو نَحْرٍ، أو ضَرْبٍ، أو تَنْفِيرٍ، أو مَنْعٍ من المرعى، أو مَنْعِ نَصِيبِهَا من الماءِ ﴿فَيَأخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
ثم إن نَبِيَّ اللهِ صالحًا ذكَّر قومَه أيضًا بِنِعَمِ اللهِ قال: ﴿فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: آية ٧٤] أي: نِعَمَ اللهِ ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ﴾ يعني: في الأرضِ من بعد عَادٍ، مثلما قال [هود] (١) لقومِه: ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [الأعراف: آية ٦٩] وهذا قَرَّرْنَاهُ فيما مَضَى، أي: أَهْلَكَهُمْ وجعلكم مُسْتَخْلَفِينَ في الأرضِ بعدَهم تتمتعونَ فيها. واستدلَّ بعضُ العلماء (٢) بهذه الآياتِ على أن الكافرَ يصدقُ عليه أنه مُنَعَّمٌ عليه في الدنيا؛ لأن نَبِيَّ اللهِ هودًا - وهو هو - قال لقومِه: ﴿فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ﴾ فصرَّح بأن لله عليهم نِعَمًا في الدنيا، وكذلك قال نَبِيُّ اللهِ صالحٌ: ﴿فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ﴾ فَبَيَّنَ كُلٌّ مِنْ هودٍ وصالحٍ أن لله في الدنيا على الكفرةِ آلاء وَنِعَمًا بما أعطاهم من الرزقِ والعافيةِ ورغدِ العيشِ والتمتعِ بلذاتِ الدنيا، هذه الآياتُ دَلَّتْ على هذا.
وقال بعضُ العلماءِ: لا نعمةَ على الكافرِ أَصْلاً؛ لأن هذا استدراجٌ، واللهُ يقولُ: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٨٢، ١٨٣] فمنزلتُه منزلةُ الطعامِ اللذيذِ الذي فيه السمُّ الفتاكُ القاتلُ، فشربُه ليس بلذيذٍ، والإنعامُ به ليس بإنعامٍ!! وظاهرُ القرآنِ أَوْلَى بالإتباعِ؛ لأَنَّ اللهَ سمَّى
_________
(١) في الأصل: نوح. وهو سبق لسان.
(٢) انظر: القرطبي (٤/ ٣٣٠)، (٧/ ٢٤٠).
هل يسمعنَّ النضرُ إن ناديتُه... أم كيف يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ...
أمحمدٌ يا خيرَ ضَيْءِ كريمة... في قومِهَا والفَحْلُ فحلٌ مُعْرِقُ...
ما كان ضَرَّكَ لو مَنَنْتَ ورُبَّما... مَنَّ الفَتى وهو المغيظُ المُحْنَقُ (١)...
فالنَّضْرُ أقربُ مَنْ أَسَرْتَ قرابةً... وأحقُّهم إن كانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ...
ظَلَّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُه... للهِ أرحامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ...

صَبْرًا يُقادُ إلى المنيةِ مُتْعَبًا رَسْفُ المُقَيَّدِ وهو عان مُوثَقُ
ولما أراد قتل عقبة بن أبي معيط قال: أَأُقتل بين قريش صبرًا؟ من للصبية؟ قال له صلى الله عليه وسلم: «لهُمُ النَّارُ» (٢). وذكر بعض المؤرخين أنه قال: أَأُقتل بين قريش صبرًا؟ قال: «إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ يَهُودِ صفوريّة» (٣).
كما ذكره بعضهم (٤).
وعقبة هذا كان شديد العداوة لرسول الله ﷺ ذكروه أنه مرّ عليه يومًا ساجدًا فوضع رجله على عنق رسول الله ﷺ وهو ساجد حتى آذاه -قبحه الله- فقتله الله وأراح المسلمين منه.
وهذا طرف من هذا المشهد العظيم والغزوة الكبيرة سنُلمّ في بعض أطرافه بعد هذا، وهذه السورة الكريمة كلها نازلة في هذه الغزوة، وسيُكرر بعض هذا ويأتي ما لم يذكر فيه في مناسبة قرآنية من
_________
(١) أسقط الشيخ (رحمه الله) بيتًا بعد هذا البيت.
(٢) أخرجه عبد الرزاق (٥/ ٢٠٥، ٢٠٦)، وأبو داود في المراسيل ص٢٣١، والبيهقي (٩/ ٦٤ - ٦٥) والحاكم (٢/ ١٢٤). وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ ووافقه الذهبي.
(٣) لم أقف على هذه الجملة الأخيرة إلا في «معجم ما استعجم» (٣/ ٨٣٧).
(٤) السيرة لابن هشام ص٦٨٤. وفي البزار (كشف الأستار) (٢/ ٣٢٠): «بكفرك بالله وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم».
أشفارِه حَوَرٌ، وفي صوتِه صَحَلٌ، أكحلُ أقرنُ أزجُّ، في عنقه سَطَعٌ، وفي لحيتِه كثافةٌ.
إذا صمت فعليه الوقارُ، وإذا تكلم سَمَا وعليه البهاءُ، حُلْوُ المنطقِ، فَصْلٌ ليس بنزرٍ ولا هَذْرٍ، كأن منطقَه خَرَزَاتُ نَظْمٍ يتحدَّرْن أو يَنْحَدِرْنَ، أجملُ الناسِ وأبهاهم من بعيدٍ، وأحسنُهم من قريبٍ، رَبْعَةٌ لاَ تَنسَؤهُ عينٌ لطولِه، ولا تَقْتَحِمُهُ عينٌ لقِصَرهِ، إلى آخِرِ ما ذَكَرَتْ من أوصافِه الكريمةِ الجليلةِ صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه (١).
وهذه المعانِي الجليلةُ قد لا يَفْهَمُهَا كُلُّ الناسِ، سنُشيرُ إلى ما لا يُفْهَمُ منها: فقولُها: (لم تَعِبْهُ التُّجلَةُ) (٢): بِضَمِّ التاءِ والجيمِ معناه عِظَمُ البطنِ وكبرُها. وقيل: ارتفاعُ الْخَاصِرَتَيْنِ ونتؤوهما.
(وَلَمْ تزْرِ به صُعْلَةٌ): الصُّعلَةُ: صِغَرُ الرأسِ صغرًا مفرطًا. يعنِي: ليس ضخمَ البطنِ، ولا صغيرَ الرأسِ جِدًّا، بل هو ضامرُ البطنِ، رأسُه ليس بصغيرٍ صغرًا مزريًا.
وقولُها: (في عَيْنَيْهِ دَعَجٌ): الدَّعَجُ: سوادُ العينِ مع سعتِها.
وقولُها: (في أشفارِه وَطَفٌ): الوَطَفُ: هو كثرةُ شعرِ الجفنِ.
وقولُها (أَزَجّ) تعني: قليلُ شعرِ الحاجبِ.
وقولُها: (أقرنُ): تعني أن شعرَ حَاجِبَيْهِ يمتدُّ طرفُ هذا حتى يقربَ من هذا مع الزَّجَجِ فيه.
_________
(١) هذه الأوصاف وردت في بعض الروايات عند الحاكم (٣/ ٩)، والبيهقي في الدلائل (١/ ٢٧٨ - ٢٧٩)، وابن سعد (١/ ١/١٥٦)، وابن عساكر (تهذيب تاريخ دمشق ١/ ٣٢٦ - ٣٢٧).
(٢) راجع الحاشية قبل السابقة.


الصفحة التالية
Icon