وقد بَيَّنَ (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ، أن أولئك الْمُسْتَكْبِرِينَ في دارِ الدنيا، الذين يستكبرونَ عَنْ آياتِه، الذين كان لَهُمْ في الدنيا خَدَمٌ وَحَشَمٌ وَأَتْبَاعٌ، وَأُبَّهَةٌ، أنهم يومَ القيامةِ يُبْعَثُونَ وَيُعْرَضُونَ إلى رَبِّهِمْ لاَ أَتْبَاعَ لَهُمْ، ولاَ حَشَمَ وَلاَ خَدَمَ حتى وَلاَ نِعَالَ وَلاَ ثِيَابَ، كُلُّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل: آية ١١١] ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: آية ٩٤] لأَنَّ الإنسانَ يَخْرُجُ مِنْ بطنِ أُمِّهِ وحيدًا فريدًا، لاَ مالَ لهُ حَافِيًا عَارِيًا لاَ نِعَالَ لَهُ وَلاَ لِبَاسَ، غَيْرُ مَخْتُونٍ، لاَ خدمَ لَهُ، ولاَ حَشَمَ، كذلك يخرجُ مِنْ قَبْرِهِ وحيدًا فريدًا متجردًا مِنَ الأُبَّهَةِ التي كَانَ فِيهَا، ليس معَه خادمٌ، ولا وزيرٌ، ولا مالٌ، ولا نعلٌ، ولا لباسٌ، يُحْشَرُونَ يومَ القيامةِ حفاةً عُراةً غُرْلاً. أي: غَيْرَ مَخْتُونِينَ؛ وَلِذَا يقولُ اللَّهُ لِلَّذِينَ يستكبرونَ ويكفرونَ - كانوا يَجْمَعُونَ في دارِ الدنيا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: التكبرُ، والتعاظمُ، وعدمُ الإذعانِ لآياتِ اللَّهِ والإيمانِ به، ويزعمونَ أن الأصنامَ التي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهَا تشفعُ لهم يومَ القيامةِ، وَتُنَجِّيهِمْ من كرباتِ يومِ القيامةِ، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ العظيمَ - قال: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا﴾ هُوَ مَجِيئُهُمْ يومَ القيامةِ مَحْشُورِينَ مَعْرُوضِينَ على خَالِقِهِمْ (جل وعلا) ﴿فُرَادَى﴾ الفُرَادَى: جَمْعُ فَرْدٍ أو فَرَدٍ. خلافًا لِمَنْ قال: إِنَّ وَاحِدَهُ (الفَرْدَان) كالسكرانِ والسكارى. وَوَاحِدُهُ في الحقيقةِ: الفَرْدُ والفَرَدُ، وتقولُ: هو فَرْدٌ وفَرَدٌ، إذا كان واحدًا (١). وَرُبَّمَا قيل فيه: فَرِدٌ، وَيُرْوَى بهما معًا قولُ نابغةِ ذبيانَ (٢):
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٢٠٤).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧١) من سورة البقرة.
بالقرآن العظيم بعده فقال: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: آية ١٥٥] ومثل هذا يَتَكَرر في القرآن، كقوله في التوراة: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: آية ٩١] ثم قال: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: آية ٩٢] فأتبع التنويه بالتوراة التنويه بالقرآن، كقوله: ﴿وَمِن قَبله كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحمَةً وَهَذَا﴾ يعني: القرآن ﴿كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [هود: آية ١٧] وكقوله: ﴿قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ [القصص: آية ٤٨] وفي القراءة الأخرى (١): ﴿سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا﴾ [والجن] (٢) الذين استمعوا القرآن قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأحقاف: آية ٣٠].
ومعنى الآية الكريمة: وهذا الذي تُتْلَى عليكم آياته كهذه الآيات المحكمات: ﴿تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ... ﴾ إلى آخر الآيات [الأنعام: آية ١٥١]، ﴿وَهَذَا﴾ الذي تُتلى عليكم آياته جامعة هذا من الأحكام والتشاريع، ﴿كِتَابٌ﴾ هو كتاب الله (جل وعلا) الذي هو آخر كتاب نَزَلَ من السماء، وهو أعظم كتاب سماوي على أعظم رسول أرْسَلَهُ الله في الأرض، فهو آخر الكتب السماوية، ونازلٌ على آخر الرسل وخاتمهم - ﷺ -، جمع الله فيه علوم الكتب السابقة، ولذا صار القرآن مهيمناً على الكتب السابقة، كما قدّمناه في سورة المائدة في قوله: ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ [المائدة: آية ٤٨]
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٤١.
(٢) في الأصل: «واليهود» وهو سبق لسان.
الجبالِ بيوتًا ينحتونها في الجبال.
وقراءةُ الحسنِ شاذةٌ: ﴿تَنْحَتُونَ من الجِبَال بيوتًا﴾ (١) وإن كانت قياسيةً؛ لأن (فَعَل) إذا كانت حلقيةَ العينِ أو اللامِ يقاسُ في مضارعِها الفتحُ (٢)، إلا أن السماعَ (تَنْحِتُونَ) بالكسرِ، وهي قراءةُ السبعةِ وغيرِهم؛ وقراءةُ الحسنِ: «تَنْحَتونَ» شاذةٌ، وأشذُّ منها قراءةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿تَنْحاَتُونَ﴾ بإشباعِ الفتحةِ، فهذه قراءةٌ شاذةٌ جِدًّا، أشذُّ من الأُولَى فـ (تَنْحَتُونَ) بفتحِ الحاءِ شاذةٌ، وإشباعُ الفتحةِ أَلِفًا أَشَذُّ وَأَشَذُّ، وإن كان إشباعُ الفتحةِ بألفٍ يسوغ في كلامِ العربِ، هو مسموعٌ في كلامِ العربِ، إلا أنه لاَ يجوزُ قراءةً، وهو موجودٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ عبدِ يغوثَ بنِ وقاصٍ (٣):

وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا
فَأَشْبَعَ الفتحةَ بالأَلِفِ، وأصلُ الفعلِ مجزومٌ، فالأصلُ: «تَرَ» بلا أَلِفٍ، أشبعَ الفتحةَ أَلِفًا. وقول الآخَرِ (٤):
إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ وَلاَ تَرَضَّاهَا وَلاَ تَمَلَّقِ
الأَصْلُ: (ولاَ ترضَّها) فأُشْبِعَتِ الفتحة. ومنه في وسط الكلامِ قولُ عنترةَ في معلقتِه (٥):
_________
(١) المصدر السابق (٢/ ٥٣)، القرطبي (٧/ ٢٣٩)، البحر المحيط (٤/ ٣٢٩)، الدر المصون (٥/ ٣٦٤).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٢٣٩).
(٣) البيت في المحتسب (١/ ٦٩)، المفضليات ص١٥٨.
(٤) البيت لرؤبة، وهو في الخصائص (١/ ٣٠٧)، اللسان (مادة: رضي) (١/ ١١٧٩).
(٥) ديوان عنترة ص١٢٢.
﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٧] كأن الله يقول: الله يريد هنا غير ما تريدون، ويحب لكم غير ما تحبون لأنفسكم؛ لأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٢١٦)﴾ [البقرة: الآية ٢١٦] ويريد الله (جل وعلا) أن يجعل الطائفة الموعود بها -التي سينجز فيها وعده، ويحقق بها نصر نبيه- يريد أن يجعلها الطائفة ذات الشوكة، وهي: النفير، الجيش في عَدَدِه وَعُددِه؛ لأن الله يريد، ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ الحق هو في نفسه حق، الحق حق مهما كان، ومعنى ﴿أَن يُحِقَّ الحَقَّ﴾ أي: يظهره على الدين كله، ويجعله عاليًا غير سافل، ويجعل الكلمة والسلطة والقوة له. هذا معنى إحقاق الحق، أي: إِظهاره وإِعلاؤه، أما الحق فهو حق في نفسه مهما كان، هذا معنى قوله: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ﴾ أن يحقق لكم الوعد في الطائفة ذات الشوكة؛ لأن الله يريد بذلك ﴿أَن يُحِقَّ الحَقَّ﴾ أي: يظهر دين الإسلام ويعليه، ويعلي كلمته، ويضعف الكفرة ويهزمهم، ويهزم دينهم. وهذا معنى قوله: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ معنى إحقاقه الحق بكلماته فيه أوجه متقاربة من التفسير لا يكذب بعضها بعضًا (١).
قال بعض العلماء: المراد بكلماته التي يريد أن يحق بها حقه هي: كلمته التي أمر نبيه بها ﷺ أن ينهض وأن يقاتل النفير إذا لم يكن إلا هو، فَأَمْرُهُ (جل وعلا) بقتالهم وإلزامهم ذلك بعد أن نجت العير وصار النفير، أمره بهذا القتال هي كلمته التي أراد أن يحق الحق بها،
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٤٠٧).
جَلَسَ في ظِلِّ نخلةٍ، وأن الأنصارَ جاؤوه في السلاحِ، وكان كثيرٌ منهم لم يَرَ النبيَّ ﷺ ولم يَعْرِفْ هو أو أبو بكر جَلَسَ تحتَ ظِلِّ تلك الشجرةِ حتى تَحَوَّلَ الظلُّ عن النبيِّ ﷺ فقام أبو بكر فَظَلَّ عليه بردائِه، فَعَلِمُوا أنه هو. وجاء في بعضِ الرواياتِ أنه جاء المدينةَ في حرِّ الظهيرةِ (١). وفي بعضها (٢) أنه دَخَلَهَا في الليلِ. وقد وَفَّقَ بينَهما بعضُ العلماءِ (٣) بأن أصلَ قدومِه وقتَ الظهيرةِ، وأنه جَلَسَ تحتَ تلك النخلةِ حتى صار آخِر النهارِ. فجاء بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ في قباء، وَقَدِمَ أولاً على بَنِي عمرِو بن عوفٍ من الأوسِ في قباء وَمَكَثَ فيهم مدةً. واختلف العلماءُ في قَدْرِ المدةِ التي مَكَثَ فيهم (٤)، فَثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ وغيرِه أنه مَكَثَ فيهم بضعَ عشرةَ يومًا (٥)، وجاء عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) وَأَدْرَكَ النبيَّ ﷺ وهو في بني عمرِو بنِ عوفٍ بقباء؛ لأَنَّ النبيَّ ﷺ كانت تدعوه قريشٌ (الأمينَ) وكان عنده كثيرٌ من الودائعِ يحفظُها لأمانتِه عندَهم، فَخَلَّفَ عليَّ بنَ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) بعد أن هاجر هو وأبو بكر حتى يَرُدَّ على الناس ودائعَهم، ثم يتبعه صلى الله عليه وسلم، فَلَحِقَ به وهو في بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ بقباء.
كان ابنُ إسحاقَ يقولُ: قَدِمَ النبيُّ ﷺ على بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ بقباء يومَ الإثنينِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ من ربيعٍ الأولِ، وَمَكَثَ فيهم
_________
(١) كما في رواية البخاري السابقة عن عروة.
(٢) كما في رواية مسلم من حديث الهجرة المخرج في الصحيحين من حديث البراء عن أبي بكر (رضي الله عنهما)، وقد تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال.
(٣) انظر: البداية والنهاية (٣/ ١٩٦)، فتح الباري (٧/ ٢٤٤).
(٤) انظر: تاريخ ابن كثير (٣/ ١٩٨)، فتح الباري (٧/ ٢٤٤).
(٥) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.


الصفحة التالية
Icon