بخلافِ بني إسرائيلَ لما امْتُحِنُوا بخوفٍ كهذا صدرَ منهم ما ذَكَرَهُ اللَّهُ في سورةِ المائدةِ قوله: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: آية ٢٢]، وقالوا له: ﴿إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: آية ٢٤].
كذلك ابْتَلَى بني إسرائيلَ بصيدٍ، وهو صيدُ السَّمَكِ المذكورُ في الأعرافِ، المشارُ له في البقرةِ (١): ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ [الأعراف: آية ١٦٣]، فَحَدَاهُمُ القَرَمُ (٢) والطمعُ في أكلِ الحوتِ إلى أن اعْتَدَوْا في السبتِ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قردةً. وقد امتحنَ اللَّهُ (جل وعلا) أصحابَ النبيِّ - ﷺ - في عمرةِ الحديبيةِ بالصيدِ وهم مُحْرِمُونَ، فهيَّأَ لهم جميعَ أنواعِ الصيدِ من الوحوشِ والطيرِ، من كبارها وصغارها، ولم يَعْتَدِ رجلٌ منهم، ولم يَصِدْ في الإحرامِ، كما بَيَّنَهُ (جل وعلا) بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ [المائدة: آية ٩٤]، فما مَدَّ رجلٌ منهم يدَه إلى صَيْدٍ.
فظهر بهذا أن كلتا الأُمَّتَيْنِ امتُحِنَتْ بصيدٍ، وأن هؤلاء اعتدوا على ذلك الصيدِ فمُسِخوا قِرَدَةً، وأن أولئك اتقوا الله.
كذلك امتُحنوا بخوفٍ من عَدُوٍّ فَصَبَرَ هؤلاء وَثَبَتُوا، وخاف هؤلاء وَجَبُنُوا، فَدَلَّ هذا على أنهم أفضلُ منهم، وهذا مما لا خلافَ فيه، وهذا مما يبينُ أن قولَه: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أن المرادَ:
_________
(١) أي: في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: آية ٦٥].
(٢) وهو شدة شهوة اللحم. القاموس (مادة: القرم) (١٤٨١).
﴿وهُوَ﴾ جل وعلا ﴿يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٣]، أي: يُحِيطُ بها عِلْمًا وَبَصَرًا.
وهذه الآيةُ تدلُّ على أن الخلقَ لاَ يُحِيطُونَ بكيفيةِ البصرِ، ولا يعلمونَ كيفيةَ هذا النورِ، وحقيقةَ هذا النورِ الذي جَعَلَهُ اللَّهُ في العينِ تُبْصِرُ به المرئياتِ. لاَ يُبْصِرُ الِإنسانُ بيدِه ولاَ بأنفِه ولاَ بِجَبْهَتِهِ ولاَ بِرِجْلِهِ، وإنما يُبْصِرُ بخصوصِ عَيْنِهِ. فهذا المعنَى الذي أَوْدَعَهُ اللَّهُ في العينِ لاَ تحيطُ الناسُ بكُنْهِ كيفيتِه ولاَ حقيقتِه، واللَّهُ (جل وعلا) يُدْرِكُهُ، أي: يحيطُ به ويراه ويعلمُ حقيقتَه (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾.
﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾ أصلُ (اللطيفِ): (فَعِيل) من اللُّطْفِ. واللُّطْفُ أصلُه في لغةِ العربِ: هو إيصالُ النفعِ والإكرامِ والبِرِّ بالطرقِ الخفيةِ (١). فَكُلُّ ما يُوصِلُ إليكَ النفعَ والْبِرَّ والإحسانَ فإنه لطيفٌ بِكَ. والعربُ تقولُ: صَدِيقٌ مُلاطِفٌ. إذا كان يلاطفُك بالبرِّ والإحسانِ والإكرامِ.
وَسُئِلَ بعضُ علماءِ العربيةِ عن: (صديقِك المُلاطِفِ) ما معنَى كونِه مُلاَطِفًا لَكَ؟
أَجَابَ: بأن الصديقَ الْمُلاَطِفَ ينطبقُ عليه قولُ الراجزِ (٢):

إِنَّ أَخَاكَ الْحَقَّ مَنْ يَسْعَى مَعَكْ وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: لطف) ص٧٤٠، الكليات ص ٧٩٧.
(٢) هذا الرجز في المستطرف للأبشيهي (١/ ١٣٦)، ويُنسب لعبد الملك بن مروان، ونسبه ابن خميس في الشوارد (٢/ ٧٦) إلى القرشي، وهو في جمهرة الأمثال للعسكري (١/ ٥٨) بلا نسبة.
فنقول: نعم، نحن في ذلك الوقت كنا معدومين، ولكنا بعد وجودنا حصل لنا اليقين الجازم، ومدار الشهادة على اليقين الجازم، فما شهدنا إلا بيقين جازم لا تختلجه الشكوك ولا الأوهام؛ لأنك يا ربنا أرسلت إلينا رسولاً كريماً هو خير الرسل وأصدقهم وأعظمهم أمانة، وأنزلت عليه كتاباً محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فما جاءنا في ذلك الكتاب، وأخبرنا به ذلك النبي الكريم، فنحن نقطع به ونجزم به أشد قطعاً وجزماً مما عايناه بأعْيُنِنَا وسمعناه بآذاننا، وهؤلاء قد قصصت علينا أخبارهم في آياتك المحكمات قصصاً لا يختلجه شك، فهو قطع مجزوم به، فهؤلاء الكفرة قوم نوح قصصت علينا قضيتهم وأذاهم له، وما تحمل من أذاهم، وما نصح لهم من النصح، وما مكث فيهم من الزمن يبلغهم ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً﴾ [العنكبوت: آية ١٤] وأنه قال: ﴿إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (٧)﴾ [نوح: الآيات ٥ - ٧] وهؤلاء قوم هود قصصت علينا قصصهم في آيات كثيرة، كقولهم له: ﴿يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: آية ٥٣] وهؤلاء قوم صالح قصصت علينا أخبارهم في آيات كثيرة، كقولهم له: ﴿يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى آخر الآيات [الأعراف: آية ٧٧]، وقد قدمنا أن هذا معنى قوله: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: آية ١٤٣] ومن هذا (... ) (١).
_________
(١) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل وذهب معه بعض الكلام.. ويمكن أن يستدرك أول المسألة الآتية من كلام الشيخ رحمه الله في الأضواء حيث قال: «وهنا إشكال معروف: وهو أنه تعالى قال هنا: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)﴾ وقال: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)﴾ وقال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (٢٤)﴾ وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال:... » إلخ. الأضواء (٢/ ٢٩٠).
كما يمكن أن يُستدرك بقية الكلام السابق بمراجعة كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسألة عند الكلام على الآية (٩٣) من سورة الأعراف.
يَهْوَيْنَ في نَجْدٍ وغَوْرًا غَائِرا فَوَاسِقًا عن قَصْدِهَا جَوَائِرا
أي: خوارج عن قصدها الذي تَمْشِي عَلَيْهِ. هذا أصل الفسق في لغة العرب (١)، ومنه قولهم: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ؛ أيْ: خرجت. وهو في اصطلاحِ الشرع: الخروج عن طاعة الله، كما قال تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: آية ٥٠] أي: خرج عن طاعة ربه والخروج عن طاعة الله قد يكون أعظم أنواع الخروج وهو الكفر، وقد يكون خروجًا دون خروج وهو المعاصي، ومن هنا أُطلق في القرآن الفسق على الكفر والمعاصي، فمن إطلاقه على الكفر قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: آية ٢٦] ومن إطلاقه على المعاصي دون الكفر: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: آية ٦] وهذا معنى قوله: ﴿وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٠٢].
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)﴾ [الأعراف: آية ١٠٣].
معلوم أن (ثم) حرف عطف مع الترتيب والانفصال، و ﴿بَعَثْنَا﴾ معناه: أرسلنا. وصيغة الجمع للتعظيم ﴿مِن بَعْدِهِم مُّوسَى﴾ من بعدهم أي: من بعد الرسل المذكورين في هذه السورة، وهم: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، ﴿بَعَثْنَا﴾ من بعد هؤلاء نبينا موسى، بعثناه ﴿بِآيَاتِنَا﴾ وهي الآيات التسع والمعجزات التي جاء بها فرعونَ، كاليد البيضاء، والعصا الآتية في هذه السورة، وبعض الآيات المذكورة في سورة الأعراف كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
_________
(١) السابق.
وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)} [الأحزاب: الآية ٢٧] يعني: إن كانت قدرتكم ناقصة وأنتم عاجزون فهو (جل وعلا) على كل شيء قدير، فالفئة المستندة عليه يجعل لها القدرة والتمكين بقدرته، ومن أمثلة هذا أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) لما صدَّه المشركون مع أصحابه في غزوة الحديبية وهم محرمون كما سيأتي في قوله: ﴿همُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: الآية ٢٥] وأرسل عُثمان بن عفان (رضي الله عنه) بالهدايا لينحرها في الحرم، وتلقّاه بنو عمه؛ لأنه أراد أولاً أن يرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: إن بني عدي لا يقدرون أن يحموني من قريش، ولكن أدلك على رجل أعزّ مني في قريش هو عثمان بن عفان رضي الله عنه: فأرسل عثمان رضي الله عنه بالهدايا وتلقّاه بنو عمه يقولون (١):
أَقبِلْ وأَدْبِِرْ لا تَخَفْ أَحَدَا بنُو سعيدٍ أَعزَّة الحرمِ
فأُخبر النبي ﷺ بخبر كاذب أن الكفار قتلوه، فبايعه أصحابه تحت سمرة من شجر الحديبية بيعة الرضوان، وعندما بايعوه علم الله في ذلك الوقت من قلوبهم الإخلاص الكامل والإيمان كما ينبغي بالله (جل وعلا)، فكان من نتائج ذلك الإيمان الكامل والإخلاص الذي اطّلع الله عليه في قلوبهم أنه بيّن لهم أنه يجعلهم قادرين على من هم عاجزون عنه كما أوضح هذا في سورة الفتح في قوله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٩) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon