عَالَمُ زَمَانِهِمْ (١). وقال بعضُ العلماءِ: هو نوعٌ من التفضيلِ آخَرُ لا يُعَارِضُ أَشرَفِيَّةَ هذه الأمةِ وأفضليتَها عليهم، وهو كثرةُ الرُّسُلِ فيهم؛ لأن الأنبياءَ أكثرُ فيهم منهم في غيرِهم (٢)، وكثرةُ الأنبياءِ فيهم لا تجعلُهم أفضلَ من هذه الأمةِ، بل هذه الأمةُ أفضلُ منهم وإن كانت الأنبياءُ فيها إنما جاءها نبيٌّ واحدٌ - ﷺ -. وهذا معنى قوله: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)﴾ [البقر ة: الآيتان ٤٨ - ٤٩].
يقول الله (جل وعلا): ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)﴾ [البقرة: آية ٤٨]، معنى الاتقاءِ في اللغةِ العربيةِ هو: أن تجعلَ بينَك وبينَ ما يَضُرُّكَ وقايةً (٣). وَأَصْلُ مادتِه: (وقى) دَخَلَهَا تَاءُ الافتعالِ، كما تقول في قَرُبَ: اقترب، وفي كسب: اكتسب، وفي وقى: اوتَقَى. والقاعدةُ المقررةُ في التصريفِ: أن تاءَ الافتعالِ إذا دَخَلَ على مادةِ وَاوِهَا فاءٌ وَجَبَ إبدالُ الواوِ تاءً وإدغامُها في تاءِ الافتعالِ (٤). فمعنى ﴿وَاتَّقُوا﴾:
_________
(١) مضى قريبًا.
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٣٧٦)، أبو حيان (١/ ١٨٩).
(٣) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الواو باب الواو والقاف وما يثلثهما، ص١١٠٠، القرطبي (١/ ١٦١)، المفردات، (مادة: وقى) ص٨٨١.
(٤) انظر: القرطبي (١/ ١٦١)، الدر المصون (١/ ٩٠)، (١٩١)، (٣٣٥)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٤٩١ - ٤٩٢.

وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَعَكْ شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَكْ
فعلى كُلِّ حالٍ اللطفُ: إيصالُ البرِّ والإكرامِ والإحسانِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على إيصالِه بالطرقِ الخفيةِ التي لا يَعْلَمُهَا كُلُّ الناسِ.
وَاللَّهُ (جل وعلا) لطيفٌ بخلقِه، مُحْسِنٌ إليهم، يدركُ حقائقَهم، ولا يَخْفَى عليه منهم شيءٌ، لطيفٌ إليهم، مُحْسِنٌ بَرٌّ بهم، يُوصِلُ لهم طرقَ الإكرامِ والبرِّ والإحسانِ من حيثُ لا يشعرونَ. وقولُه: ﴿الْخَبِيرُ (١)﴾ (فَعِيل) من الخُبرِ. و (الخبيرُ) في لغةِ العربِ لا يكادُ يُطْلَقُ إلا على العالِمِ بما مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى، فلا يُطْلَقُ (الخبير) على العالِم بالظاهرِ غَالِبًا، وإنما يُطْلَقُ (الخبير) على مَنْ عَلِمَ شَيْئًا من شأنِه أن يَخْفَى، ومنه قولُ العربِ: «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ» (١) ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)﴾ [فاطر: آية ١٤]. فلو قُلْتَ مثلاً: «أَنَا خبيرٌ بهذا الأمرِ». وهو أَمْرٌ معنويٌّ يَخْفَى، كان كَلاَمًا عَرَبِيًّا. ولو قلتَ: «أنا خبيرٌ بأن الواحدَ نصفُ الاثنينِ» لم يكن هذا من لغةِ العربِ؛ لأن كونَ الواحدِ نصفَ الاثنين ليسَ من شأنِه أن يَخْفَى حتى يُعبَّرَ عنه بلفظِ (الخبيرِ). هذا هو معنَى قولِه: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾. وكان بعضُ المتأخرينَ من العلماءِ يقولُ (٢): ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ في استخراجِ الأشياءِ لقدرتِه عليها ﴿الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾ بمكانِها، لا يَخْفَى عليه شيءٌ. والأولُ هو التفسيرُ المعروفُ، وهو المعروفُ في كلامِ العربِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾.
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا
_________
(١) انظر: الأمثال لأبي عبيد ٢٠٦.
(٢) وهو قول أبي العالية. انظر ابن جرير (١٢/ ٢٣).
[٢/ب] / ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: آية ٧٨] وقال: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ﴾ [الرحمن: آية ٣٩] فنفى سؤال الناس عن ذنوبهم، وأنه لا يُسأل أحد عن ذنبه مع أن قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)﴾ [الحجر: الآيتان ٩٢، ٩٣] من جملة ما كانوا يعملون: ذنوبهم، فإنهم يُسألون عنها (١).
ووجه الجواب: أشهر أجوبة العلماء عن هذا جوابان:
أحدهما: أن السؤال قسمان: سؤال توبيخ وتقريع، وهو من جنس التعذيب، وسؤال استخبار واستعلام واستكشاف، فالمنفي في الآيات: سؤال الاستخبار والاستعلام والاستكشاف؛ لأن الله هو العالم المحيط علمه بكل شيء، فليس كقضاة الدنيا الذين يَسْألون عن الحقيقة ليستفيدوا منها علماً، فهو عالم بما صنعوا، مُسَجِّل له عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فلا يقال للواحد منهم: هل فعلت الذنب الفلاني؟ سؤال استعلام واستكشاف، بل هو مسجل عليه ذنبه، محقق عليه، لا يُسأل عنه بهذا المعنى أبداً، وإنما
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٢٩٠ - ٢٩١)، (٧/ ٧٥٣ - ٧٥٤)، دفع إيهام الاضطراب ص ١٣١.
﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ [الأعراف: آية ١٠٣] الملأ (١): أشراف الجماعة من الذكور. و (فرعون) هو ملك مصر. يقولون: إن كل من ملَكَ مصر يُسمى (فرعون) كما هو معروف من تسمية (كسرى) و (قيصر) لكل من مَلَك ذلك المحل المعروف، وبعض العلماء يقول: (فرعون) لفظ عربي من تَفْرَعَن الرجل إذا كان ذا مكر ودهاء، وعلى تقدير أن (فرعون) لفظ عربي فوزنه: (فِعْلَول) باللام لا (فِعْلَون) بالنون. وبعضهم يقول: هو اسم أعجمي، وهو الأظهر؛ لأنه لو كان عربيًّا لما مُنع من الصرف؛ لأن هذا الوزن إذا كان عربيًّا قد لا يُمنع من الصرف (٢). وفرعون المذكور هنا هو ملك مصر الذي جاءه موسى وأُرسل إليه، وقصَّ الله من خبره ما قص، والمؤرخون والمفسرون بعضهم يقول: اسمه: (طالوس)، وبعضهم يقول اسمه: الوليد بن مصعب بن الريان كما هو معروف في تاريخه.
﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي: أشراف جماعته ﴿بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ قوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف: آية ١٠٣] أي: بمعجزاتنا التي جاء بها موسى.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (٣) أن المحققين من علماء العربية يقولون: إن أصل الآية (أَيَيَة) فوزنها (فَعَلَة) وفاؤها همزة، وعينها ولامها كلاهما ياء (أَيَيَة) وقد اجتمع فيها موجبا إعلال؛ لأن العين واللام كلتاهما ياء مفتوحة قبلها فتحة أصلية. فالإعلال تكرر
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٦٠) من هذه السورة
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
[الفتح: الآية ١٨] أي: علم الله ما في قلوبهم من قوة الإيمان والإخلاص لله، فنوّه عنه بالاسم المبهم الذي هو الموصول، فكان من نتائج هذا الإيمان والإخلاص كما ينبغي ما قصّ الله علينا في سورة الفتح حيث قال: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ [الفتح: الآية ٢١] فصرّح بأن إمكانياتهم العددية والعُددية لا تُقدرُهم عليها، ثم قال: ﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ أي: فأقدركم عليها ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ [الفتح: الآية ٢١] إن كانت قدرتكم ناقصة فقدرته (جل وعلا) كاملة، والطائفة الضعيفة القليلة المستندة إليه يقويها بقوته، ويعزّها بعزّته، ويُقدرها بقدرته. وهذه أمثلة تدل المسلم على أن دين الإسلام حق، وأنه هو هو، وأن صلته بالله هي هي، وأن المتمسّك به لا يُغلب ولا يُقهر (١)، ولكن المسلمين تنكروا لدينهم فتركوه ولم يعملوا به، فتركوا الآلة القاهرة التي يُقهر بها العدو، فبقوا لقمة سائغة يضطهدهم الكفرة في أقطار الدنيا، ويبتزون ثروات بلادهم؛ لأنهم تركوا السلاح الأعظم لقهر العدو وهو دين الإسلام كما بينّا؛ ولذا قال هنا: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: الآية ٤١] يعني: جمع المسلمين وجمع المشركين يوم بدر.
وقوله: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: الآية ٤١]. جرت العادة بذكره قدرته عند نصره الضعاف من عباده المتمسّكين بدينه كما قال هنا: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وقال في الأحزاب: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ [الأحزاب: الآية ٢٧]. وقال في الحديبية: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ [الفتح: الآية ٢١] كل هذه الآيات على وتيرةٍ واحدة، معناها: إن كنتم ضعافاً
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٦) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon