اجْعَلُوا بينَكم وبينَ ذلك اليومِ وقايةً تَقِيكُمْ مما يقعُ فيه مِنَ الأهوالِ والأَوْجَالِ. والاتقاءُ: هو جَعْلُ
الوقايةِ دونَ ما يَضُرُّ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قول نابغةِ ذبيانَ (١):

سَقََطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
يعني: اسْتَقْبَلَتْنَا بيدها جاعلةً إياها وقايةً بيننا وبينَ رؤيةِ وَجْهِهَا.
والاتقاءُ في اصطلاحِ الشرعِ (٢): هو جَعْلُ الوقايةِ دونَ سَخَطِ اللَّهِ وعذابِه، تلك الوقايةُ هي امتثالُ أَمْرِهِ، واجتنابُ نَهْيِهِ (جل وعلا).
والمرادُ باتقاءِ اليومِ: اتقاءُ ما يكونُ فيه من الأهوالِ والأوجالِ (٣)؛ لأن القرآنَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، والعربُ تُعبِّرُ بالأيامِ عما يقعُ فيها من الشدائدِ، ومنه: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: آية ٧٧]، أي: لِمَا فيه من الشدةِ، وهذا معنى قولِه: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: آية ٤٨]، و (اليوم) مفعولٌ به لـ «اتَّقُوا» (٤). وقيل: المفعولُ محذوفٌ، واليومُ ظرفٌ. أي: اتَّقُوا العذابَ يومَ لا تَجْزِي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا. وقولُه: ﴿لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: آية ٤٨]، الجملةُ نعتٌ لليومِ (٥)، وقد تَقَرَّرَ في العربيةِ: أن
_________
(١) ديوان النابغة الذبياني ص١٠٧.
(٢) انظر: القرطبي (١/ ١٦١ - ١٦٢)، المفردات (مادة: وقى) ص٨٨١، الكليات ص٣٨.
(٣) انظر: ابن عاشور (١/ ٤٨٤).
(٤) انظر: القرطبي (١/ ٣٧٧)، البحر المحيط (١/ ١٨٩).
(٥) انظر: البحر المحيط (١/ ١٨٩ - ١٩٠)، الدر المصون (١/ ٣٣٥ - ٣٣٦).
عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (١٠٤)} [الأنعام: آية ١٠٤]. ﴿قَدْ﴾: هُنَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و ﴿جَاءَكُمْ بَصَائِرُ﴾ إنما ذَكَّرَ الفاعلَ ولم يَقُلْ: «جاءتكم بصائرُ»؛ لأن الجمعَ المُكَسَّرَ يَجْرِي مَجْرَى الواحدةِ المؤنثةِ المجازيةِ التأنيثِ (١)، فيجوزُ التجريدُ من التاءِ. وَحَسَّنَهُ هنا الفصلُ بالمفعولِ - أعني: ﴿جَاءَكُمْ﴾ - فإن الفصلَ يُبِيحُ وَيَجُوزُ به تركُ التاءِ في المؤنثةِ الحقيقيةِ، أحرى غيرُها (٢).
وقولُه: ﴿بَصَائِرُ﴾ البصائرُ: جمعُ البصيرةِ (فَعِيْلَة) مجموعةٌ على (فَعَائِل) على القياسِ. والبصيرةُ أشهرُ معانِيها في لغةِ العربِ أنها تُطْلَقُ إِطْلاَقَيْنِ يرجعُ إليهما غالبُ استعمالِ البصيرةِ في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ (٣):
أحدُهما: أن البصيرةَ هي الحُجَّةُ والدليلُ القاطعُ. ومعنَى (البصائرِ): الْحُجَجُ والأدلةُ القاطعةُ، وإنما قيل للدليلِ القاطعِ والحجةِ والبرهانِ: (بصيرةٌ) لأنه يُنَوِّرُ البصيرةَ التي هي نورُ العقلِ، يُنَوِّرُهَا حتى ترى الحقَّ حقًّا، والباطلَ باطلاً، والنافعَ نافعًا، والضارَّ ضارًّا، والحَسَنَ حَسَنًا، والقبيحَ قَبِيحًا. وعلى هذا فمعنَى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ﴾ أي: قد جَاءَتْكُمْ حُجَجٌ قاطعاتٌ، وأدلةٌ واضحاتٌ في هذا القرآنِ العظيمِ، بَيَّنَ اللَّهُ لكم بها توحيدَه، وأدلةَ براهينِه القاطعةَ، كقولِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ [الأنعام: آية ٩٥] إلى آخِرِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٤) من سورة الأنعام. وانظر: الدر المصون (٥/ ٩١).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة. وانظر: الدر المصون (٥/ ٩١).
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢٤)، البحر المحيط (٤/ ١٩٦)، الدر المصون (٥/ ٩١)، بصائر ذوي التمييز (٢/ ٢٢٣).
يُسال عن ذنبه سؤال توبيخ وتقريع، ويُقال له: لِمَ فعلت هذا؟! ألم أنهك يا خبيث عن هذا؟! وإذا وَجَدْتَ أسئلة الكفار في القرآن وجدتَها كلها أسئلة توبيخ وتقريع، كما قال لهم: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: آية ٧١] ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ [الصافات: آية ٢٥] ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الطور: آية ١٥] كل الأسئلة أسئلة توبيخ وتقريع، وأما سؤال المرسلين فليس سؤال توبيخ ولا تقريع، والمراد به أن المرسلين إذا سُئلوا وقالوا: (بلَّغنا ونصحنا) رجع اللوم والتقريع على الأمم. ومن ذلك القبيل: سؤال الموءودة، وهي البنت التي كانوا يدفنونها حية، كما في قوله: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: الآيتان ٨، ٩] لأن سؤال الموءودة ليس توبيخاً ولا تقريعاً للموءودة؛ لأنها لا ذنب لها، وإنما تقول: قُتِلْتُ ودُفنت حية في غير ذنب؛ ليتوجه العتاب الشديد واللوم العظيم على من فعل ذلك بها، فسؤال المرسلين وسؤال الموءودة إنما يُراد به: شدة توبيخ الكفار الذين كذبوا المرسلين، ووأدوا الموءودة. هذا معنى الآيات، وهذا معنى قوله: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)﴾ [الأعراف: الآية ٦] والدليل على أن سؤال الله للكفار سؤال توبيخ وتقريع، وأن سؤاله للمرسلين ليجيبوا بأنهم بلَّغوا فيتوجه التوبيخ والتقريع على الكفار زيادة على زيادة.
الدليل على هذا -أنه لا يسألهم سؤال استعلام واستخبار واستكشاف- أنه أتبعه بقوله: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (٧)﴾ [الأعراف: آية ٧] يعني: لا نسألهم لنستفيد منهم شيئاً لم نعلمه، بل نحن نقص عليهم جميع ما عملوا بعلم حقيقي أزلي محيط بكل شيء، وما كنا في دار الدنيا غائبين عن شيء فعلوه، فلا نسألهم
مُوجبه هنا، وقد عُرف في فن الصرف أن الإعلال إذا تَكَرَّرَ موجبه يكون الإعلال غالبًا في الأخير. وهنا خولف الأغلب، وصار الإعلال في الأول، فأُبدلت الياء الأولى ألفًا، وصُححت الياء الثانية، وفيه أقوال غير هذا ولكن هذا أشهرها عندهم.
والآية في لغة العرب: تطلق إطلاقين:
أحدهما: تطلق الآية ويراد بها العلامة. وهذا إطلاقها المشهور. تقول: آية كذا. أي: علامة كذا. وقد جاء في شعر نابغة ذبيان -وهو عربيّ جاهليّ- تفسير الآية بالعَلاَمَة، وذلك في قوله (١):
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها لِسِتَّةِ أعوامٍ وذا العام سابعُ
ثم فسر الآية بأنه يريد بها علامات الدار، وما تشخص من آثارها بقوله:
رماد ككُحْلِ العينِ لأْيًا أُبينه ونُؤيٌ كجِذْمِ الحوضِ أثلَمُ خاشِعُ
الإطلاق الثاني: هو إطلاق الآية على الجماعة؛ لأن العرب تقول: جاء القوم بآيتهم. أي: بجماعتهم. ومنه قول برج بن مسهر الطائي أو غيره (٢):
خَرَجْنَا مِنَ النقْبَيْن لا حَيَّ مِثْلِنَا بآيتِنَا نُزْجِي اللّقَاحَ المَطَافِلاَ
أي: بجماعتنا.
والآية هنا بمعنى العلامة؛ لأن المعجزات أفعال خارقة للعادة
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
عاجزين فهو (جل وعلا) قادر قوي لا يعجز عن شيء، فإنه ينصر أولياءه ويقوّيهم ويقدرهم على مَنْ هُوَ أقْوَى مِنْهُمْ. وهذا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فالله (جل وعلا) قادر على كل شيء، فهو قادر على ما شاءه، وقادر على ما لم يشأه، فهو قادر على هداية أبي بكر، وقد شاء هذا المقدور، وقادر على هداية أبي جهل كما قال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: الآية ١٣] ولكنه لم يشأ هذا المقدور، فتبيّن أنه قادر على ما شاء، وقادر على ما لم يَشَأْ.
وقوله: ﴿إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال: الآية ٤٢] قال بعض العلماء (١): هو بدل من ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: الآية ٤١] لأن يوم الفرقان يوم التقاء الجمعان هو الظرف المُعبَّر عنه بكينونتهم في العدوة الدنيا وأعداؤهم في العدوة القصوى، وهذا ظاهر.
وقرأ هذا الحرف من السبعة: ابن كثير وأبو عمرو: ﴿إذ أنتم بالعِدوةِ الدنيا وهم بالعِدْوَةِ القصوى﴾ بكسر العين في الموضعين. وقرأه باقي السبعة: ﴿إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ بضم العين في الموضعين (٢).
والعِدوة والعُدوة معناهما واحد. وأصل العِدوة والعُدوة: شاطئ الوادي وجانبه، فكل ما صاحب شاطئ الوادي وجانبه من الفضاء تسميه العرب: عُدوة وعِدوة، وهو عدوة الوادي (٣).
_________
(١) انظر: الدر المصون ص (٥/ ٦٠٩).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢١.
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٦٣).


الصفحة التالية
Icon