الجُمَلَ تُنْعَتُ بها النكراتُ؛ كما عَقَدَهُ في الخلاصةِ بقولِه (١):

ونَعَتُوا بِجُمْلَةٍ مُنكَّرَا فأُعْطِيَتْ مَا أُعْطِيَتْهُ خَبَرَا
ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: أين الرابطُ الذي يَرْبِطُ بين الجملةِ التي هي وَصْفٌ وبينَ المنعوتِ؟
الجوابُ (٢): أنه اختُلِفَ في تقديرِه على قَوْلَيْنِ: أحدُهما أن العائدَ: (وَاتَّقُوا يومًا لا تجزي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا) فالعائدُ هو: المجرورُ المحذوفُ هو وحرفُ الْجَرِّ.
وقال بعضُ العلماءِ (٣): حُذِفَ حرفُ الْجَرِّ فَوُصِلَ العاملُ إلى الضميرِ بعدَ حذفِ حرفِ الْجَرِّ ثم حُذِفَ، وعليه فالتقديرُ: (وَاتَّقُوا يومًا لا تجزيه نفسٌ عن نفسٍ شيئا) بحذفِ الهاءِ، وعلى كُلِّ حالٍ فحذفُ الضميرِ الرابطِ للجملةِ التي هي وَصْفٌ للنكرةِ الموصوفةِ موجودٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (٤):
وَمَا أَدْرِي أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ وَطُولُ الْعَهْدِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا
فجملة (أَصَابُوا) نعتٌ للنكرةِ التي هي (مالٌ) والعائدُ محذوفٌ، وتقريرُ المعنى: (أم مَالٌ أَصَابُوهُ). وقوله: ﴿لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ أي: لا تقضي عنها حَقًّا وَجَبَ عليها، ولا تدفعُ عنها عَذَابًا حَقَّ عليها، أما تفسيرُ مَنْ فَسَّرَ: ﴿تَجْزِي﴾ بـ (تُغْنِي) فهو إنما يتمشى على
_________
(١) الخلاصة ص٤٥، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ٦٦ - ٦٧)، النحو الوافي (٣/ ٤٧٢).
(٢) انظر: البحر المحيط (١/ ١٨٩ - ١٩٠)، الدر المصون (١/ ٣٣٥ - ٣٣٦).
(٣) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (١١/ ١٤٣).
(٤) البيت للحارث بن كَلدَة. انظر: الكتاب لسيبويه (١/ ٨٨، ١٣٠).
ما تُقَدِّمُ من آياتِ البراهينِ، والحججِ القاطعةِ في هذه السورةِ الكريمةِ.
ومن إطلاقِ البصيرةِ على الدليلِ القاطعِ: قولُه جل وعلا: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف: آية ١٠٨]، أي: على عِلْمٍ ودليلٍ واضحٍ وبرهانٍ قاطعٍ لاَ يَتْرُكُ فِي الحقِّ لَبْسًا. ومنه بهذا المعنَى: قولُه تعالى: ﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾ [القيامة: الآيتان ١٤، ١٥] معناه: أن الإنسانَ حجةٌ على نفسِه. ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾ قولُه: ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾ وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ (١):
أحدُهما: أنه لو اعْتَذَرَ كُلَّ الأعذارِ، كما قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: آية ٢٣] فنفسُه حجةٌ عليه؛ لأن جِلْدَهُ وجوارحَه تَنْطِقُ بما فَعَلَ، كما يأتي في قولِه: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: آية ٢٢] وكقولِه: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾ [يس: آية٦٥] فكلامُ أيدِيهم وشهادةُ أَرْجُلِهِمْ هو كونُ الإنسانِ بصيرةً وحجةً على نفسِه، حيث يشهدُ عليه جِلْدُه وأعضاؤُه ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [فصلت: آية ٢١] فعلى هذا: ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾ لو أتى بالأعذارِ الكاذبةِ كقولِهم: ﴿حِجْرًا مَّحْجُورًا﴾ [الفرقان: آية ٢٢] ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ [النحل: آية ٢٨] ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: آية ٢٣] فنفسُه منها حجةٌ قاطعةٌ
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢٩/ ١٨٤ - ١٨٦)، ابن كثير (٤/ ٤٤٩)، اللسان (مادة: بصر) (١/ ٢١٩ - ٢٢٠).
سؤال استعلام واستكشاف، وإنما نسألهم سؤال توبيخ وتقريع، أما في الكفار فبالمباشرة، وفي المرسلين فليبرءوا أنفسهم بأنهم بَلَّغوا، فيتوجه التقريع العظيم على الكفار الذين كذبوهم ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ﴾ فوالله لنقصن عليهم بعلم.
ومعنى: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ﴾ نذكر لهم أعمالهم فذلك قصة، قصة، قصة، فيقول الله للعبد: يا فلان بن فلان ألم تعلم أنك فعلت في اليوم الفلاني، في الوقت الفلاني، في الساعة الفلانية، من الشهر الفلاني، في البقعة الفلانية، عملت كذا وكذا، وكذا وكذا؟ ثم يسرد عليه أعماله قصة قصة، وقعة بعد وقعة، حتى يأتي على جميع ما فعل، وكذلك تشهد عليهم بقاع الأرض؛ لأن الإنسان إذا عصى الله في بقعة من بقاع الأرض يومئذ ينطقها الله، وتشهد عليه البقعة، وتقول: أشهد على فلان بن فلان أنه في ساعة كذا في يوم كذا في شهر كذا فعل عليَّ كذا وكذا.
كما يأتي إيضاح هذا في سورة الزلزلة في قوله: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١)﴾ إلى قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (٥)﴾ [الزلزلة: الآيات ١ - ٥] تُحدث الأرض أخبارها فتخبر بما فعل الناس عليها، كما أنهم في ذلك الوقت تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم وجلودهم، كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)﴾ [يس: آية ٦٥] ولما لاموا جلودهم في الشهادة عليهم ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: آية ٢١] والله (جل وعلا) يخبر أنهم في دار الدنيا ما كانوا يتسترون على أعضائهم خوف أن تشهد عليهم، لا يظنون أنها تشهد عليهم {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ
هي علامات واضحة قاطعة على أن الله مصدق لمن أعطاه إياها مقارنة للتحدي كما هو معروف (١).
وقوله: ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ الباء في قوله: (بها) عدَّى به. و (ظلموا) فيه وجهان معروفان لعلماء التفسير (٢):
أحدهما: أن (ظلموا) معناه: كفروا. أي: فكفروا بها، وإذا كان (ظلموا) بمعنى: كفروا فلا إشكال في الباء، والظلم كثيرًا ما يُطلق بمعنى الكفر كقوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: آية ١٣] ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: آية ٢٥٤] ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)﴾ [يونس: آية ١٠٦] وعلى هذا فالظلم بمعنى الكفر، وتعديته بالباء واضحة، وبعض العلماء يقول: فظلموا بسببها، حصل منهم الظلم الكبير بسببها حيث كذبوا بها ولم تدلهم على الحق وعاندوا. وذلك الظلم قد بين (جل وعلا) أنهم أيقنوا أن الآيات حق، وأنهم ظلموا عدوانًا منهم، كما قال في قوم فرعون لما علموا الحق من آيات موسى في أول سورة النمل: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: آية ١٤] فقوله: ﴿ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ في النمل يوضح قوله:... ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ أي: بسببها، وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ﴾ [الإسراء: آية ١٠٢] أي: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ يا فرعون ﴿مَا أَنزَلَ هَؤُلاء﴾ الآيات ﴿إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ﴾ أي: دلالات قاطعة لا تترك في الحق لبسًا، وهذا معنى: ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠١) من سورة الأعراف.
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٢٥٦)، الدر المصون (٥/ ٤٠٠).
وقوله ﴿بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ أي: عدوة وادي بدر ﴿وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾. و (الدنيا) تأنيث الأدنى، أي: العدوة الدنيا التي هي أدنى للآتي من المدينة ﴿وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ و (القصوى) تأنيث الأقصى، و (الدنيا) تأنيث الأدنى. أي: لأن العدوة التي فيها الكفار هي التي هي أشد قُصُوّاً وبعداً من الآتي من المدينة، والتي فيها النبي ﷺ وأصحابه هي الأقرب للآتي من المدينة.
﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ المراد بالركب: الجماعة الذين هم في عِير أبي سفيان بإجماع المفسّرين. والمؤرخون يذكرون أنهم أربعون رجلاً في تلك العِير، سمّاهم ركباً. وأكثر علماء العربية يزعمون أن الركب اسم جمع، وأنه ليس بجمع؛ ولذا لم يجعل علماء العربية من جموع التكسير صيغة (فعْل) فأهملوها بالكلية. والذي يظهر من استقراء القرآن العظيم واللغة العربية أن (فَعْل) بفتح فسكون من صيغ جموع التكسير للكثرة في (فَاعِل) إذا كان وصفاً، وإنما قلنا: إن هذا هو الأظهر لكثرة وروده باستقراء اللغة العربية -في العربية وفي القرآن- فالركبُ هنا على أظهر القولين -وإن لم تكد ترى أحداً يقول به من علماء الصرف- أن الركب جمع راكب، والعرب تطلق الرَّكْب تريد به جمع راكب، فقولهم: إنه اسم جمع لا دليل عليه، والأظهر أنه جمع؛ ولذا فإنَّ العَرَبَ يكثر في كلامها إطلاق اسم الركب مراداً به الركبان، جمع راكب، كما قال (١):
بزينبَ أَلْمِم قبل أنْ يَظْعَنَ الرَّكْبُ وقُلْ إن تَمَلِّينَا فما مَلَّكِ القَلبُ
ويُرجعون إليه ضمائر الجموع كما قال غيلان ذو الرمة (٢):
_________
(١) البيت لنصيب بن رباح، وهو في تاريخ دمشق (٦٢/ ٦٠، ٦١، ٦٢).
(٢) البيت في ديوانه ص٥٩.


الصفحة التالية
Icon