قراءةِ مَنْ قَرَأَ ﴿تُجْزي﴾ (١) بصيغةِ الرُّبَاعِيِّ؛ لأنها هي التي تأتي بمعنى الإغناءِ، وتقريرُ المعنى: (وَاتَّقُوا يومًا لا تَجْزِي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا) أي: لا تَقْضِي نفسٌ عن نفسٍ حَقًّا وَجَبَ عليها، ولا تدفعُ عنها عذابًا حَقَّ عليها، والرابطُ المحذوفُ محذوفٌ من الْجُمَلِ المعطوفةِ على الجملةِ النعتيةِ (٢)، وتقريرُ المعنى: (لا تجزي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا ولا يُقْبَلُ فيه شفاعةٌ، ولا يُؤْخَذُ فيه عدلٌ، ولا هم يُنصرون فيه) فالرابطُ محذوفٌ من الْجُمَلِ المعطوفةِ على الجملةِ التي هي وَصْفٌ، وتقريرُ المعنى: (وَاتَّقُوا يومًا لا تجزي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا)، أي: لا تَقْضِي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا أي: حَقًّا وَجَبَ عليها، ولا تدفعُ عنها عذابًا حَقَّ عليها، وعلى هذا التقريرِ فـ ﴿شَيْئًا﴾ مفعولٌ به لـ ﴿تَجْزِي﴾ (٣)، وقال بعضُ العلماءِ: ﴿شَيْئًا﴾ في مَحَلِّ المصدرِ، أي: لا تجزي عنها شيئًا، أي: جزاءً قليلاً ولا كثيرًا (٤).
وقولُه: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ فيه قراءتانِ سَبْعِيَّتَانِ (٥): قَرَأَهُ أكثرُ السبعةِ: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ (٦) والتذكيرُ في قولِه: ﴿يُقْبَلُ﴾ لأَمْرَيْنِ (٧): أحدُهما: أن تأنيثَ الشفاعةِ تأنيثٌ غيرٌ حَقِيقِيٍّ. الثاني:
_________
(١) انظر: المحرر الوجيز (١/ ٢٠٨)، القرطبي (١/ ٣٧٨)، البحر المحيط (١/ ١٨٩).
(٢) انظر: البحر المحيط (١/ ١٩٠).
(٣) انظر: البحر المحيط (١/ ١٩٠).
(٤) المصدر السابق.
(٥) انظر: المبسوط في القراءات العشر ص١٢٩.
(٦) وقرأه ابن كثير وأبو عمرو: ﴿ولا تُقبل﴾ بالتاء. انظر: المبسوط ص١٢٩، ومن قرأ بالتاء فلتأنيث (الشفاعة). انظر: حجة القراءات ص٩٥.
(٧) انظر: حجة القراءات ص٩٥.
عليه، وهي شهادةُ أعضائِه وجلدِه على أنه فَعَلَ كذا يومَ كذا، في وقتِ كذا، في مكانِ كذا.
الوجهُ الثاني: أن (المِعْذَار) يُطْلَقُ في لغةِ بعضِ العربِ من اليمانيين وغيرِهم على (السِّترِ)، فيقولونَ: «أَرْخَى مِعْذَارَهُ» أي: سِتْرَهُ. والمعنَى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)﴾ تقومُ حجةٌ منه بما فَعَلَ على نفسِه بشهادةِ جوارحِه: ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾ أي: ولو أَرْخَى سُتُورَهُ وقتَ الذنبِ بحيثُ لاَ يطلعُ عليه أحدٌ، فجوارحُه تُخْبِرُ بما فَعَلَ. هذا هو معنَى البصيرةِ، ومعانيها راجعةٌ إلى هذا.
والظاهرُ أن تسميةَ العربِ الدمَ الذي يخرجُ من البكرِ عندَ افتضاضِها - فقطعةُ الدمِ التي تخرجُ من البكرِ عندَ افتضاضِها - تسميها العربُ: (بصيرةً) لأنها حجةٌ على أن الزوجَ وَجَدَهَا بِكْرًا غيرَ ثَيِّبٍ (١). ومن هنا قيل لدمِ القتيلِ الذي يكونُ عندَ أولادِه - يأخذونَ دَمَهُ - تقولُ العربُ لِدَمِهِ: (بصيرةٌ)؛ لأنه حجَّةٌ على القاتلِ بأنه قَتَلَهُ. وهو معنًى معروفٌ، (٢) ومنه قولُ الأشعرِ الجعفيِّ (٣):

رَاحُوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ وبَصِيرَتِي يَعْدو بِهَا عَتَدٌ وَأَى
فمعنى قولِه: ﴿قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ﴾ أي: قد جاءتكم في هذه السورةِ الكريمةِ حُجَجٌ وبراهينُ قاطعاتٌ على كمالِ قدرتِه (جل وعلا)
وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: الآيتان ٢٢، ٢٣] يعني: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم﴾ [الأعراف: آية ٧] على الأنبياء والأمم ما فَعَلَهُ كلّ إِنْسان على رؤوس الأشهاد، فَعَلْتَ كذا وكذا، مع أنه يجد كل ما فعل من حين يخط عليه القلم إلى أن يموت مكتوباً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ وإذا وضع الكتاب خاف أهل الذنوب خوفاً هائلاً شديداً؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾ مشفقين: أي خائفين خوفاً عظيماً يتخلَّلُه الإشفاق على أنفسهم من الهلاك ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: آية ٤٩] وفي ذلك الوقت يُعطى كل إنسان كتابه على رؤوس الأشهاد، ويؤمر بأن يقرأه هو بنفسه، كما قال جل وعلا: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (١٣) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)﴾
[الإسراء: الآيتان ١٣، ١٤] فإذا عرف (١) الإنسان أن جميع ما يقول في دار الدنيا سيُلقى على رؤوس الأشهاد ويُقص عليه أمام الخلائق في الآخرة: فعلتَ كذا وكذا، في يوم كذا، في تاريخ كذا، وأنه يُلَقَّاه في كتاب منشور على رؤوس الأشهاد، إذا كان المسلم يعرف هذا وعنده مسكة من عقل يجب عليه في دار الدنيا -وقت إمكان الفرصة - أن لا يخزي نفسه ويخجلها على رؤوس الأشهاد خزياً وخجلاً يجره إلى النار، فيُحاسِبُ، وينظر إلى الملكين المصاحبين له، وأن لا يقول ولا يفعل إلا شيئاً إذا رآه مسجلاً عليه يوم القيامة، أو قيل له: أنت فعلت، كان يُبَيِّضُ وجهه، ولا يُسَوِّده، ولا يخزيه، ولا يفضحه. وعلى كل
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٨) من سورة الأنعام.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (١): أن الظلم في لغة العرب هو: وضع الشيء في غير موضعه فكل من وضع شيئًا في غير موضعه فقد ظلم، وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه: وضع العبادة في غير من خلق، ثم يليه: وضع الطاعة في الشيطان دون الله (جل وعلا)، والعرب كلُّ من وضع شيئًا في غير موضعه تقول له: ظَلَم. ومن هذا المعنى قالوا للذي يضرب لبنه قبل أن يروب: إنه ظالم؛ لأن الضرب وقع في غير موضعه؛ لأنه يُضيع زُبده؛ ولذا كانوا يُسمّون الذي يضرب [لبنه] (٢) قبل أن يروب: ظالمًا، ففي لُغَز الحريري يقول: «هل يجوز أن يكون الحاكم ظالمًا؟ قال: نعم إذا كان عالمًا» (٣). فقوله: «ظالمًا» يعني: يضرب لبنه قبل أن يروب، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (٤):
وقائلةٍ ظلمتُ لكم سِقَائي وهل يخفى على العَكدِ الظَّلِيمُ
وقول الآخر (٥):
وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرُبْنِي شَكَاتُه ظلمتُ وفي ظَلْمي له عامِدًا أَجْرُ
فهذا معروف في كلام العرب بكثرة، ومنه قيل لمن وضع شيئًا في غير موضعه: (ظالم)؛ ولذا سَمّوا الحُفَرَ في الأرض التي ليست محلاً للحفر والماء: (مظلومة)، ومنه قول نابغة ذبيان (٦):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة..
(٢) في الأصل: (زبده) وهو سبق لسان.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٢٩) من سورة الأنعام.
(٤) السابق.
(٥) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٦) السابق.
اسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ عَنْ أشْيَاعِهِمْ خَبَرا أَمْ رَاجِعُ القلب من أَطرابِهِ طَرَبُ
ومن إتيان (فَعْل) جمعاً لـ (فَاعِل) قولهم: «صَاحِبٌ وصَحْب». ومنه: «آلُه وصَحْبُه» ومنه قول امرئ القيس (١):
وقُوفاً بها صَحْبي عَليَّ مَطِيّهم... يقُولون: لا تَهْلِك أسًى وتَجَمَّلِ
فالصحب جمع صاحب، ومن هذا المعنى: جمع (شَارِب) على (شَرْب) بفتح فسكون، ومنه قول نابغة ذبيان (٢):
كأَنَّهُ خارجاً من جنبِ صَفْحَتِهِ سَفُّودُ شَرْبٍ نسوهُ عند مُفتَأَدِ
فرد عليهم ضمير الجماعة في قوله: «سفُّودُ شَرْبٍ نَسوهُ عند مُفْتَأَدٍ» ومنه السّفْر جمع السافر، وفي الحديث: «أتمّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْر» (٣)، ومنه قول الشنفرى (٤):
_________
(١) ديوانه ص١١١.
(٢) ديوانه ص١٢.
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ٤٣٠، ٤٣١، ٤٣٢، ٤٤٠) وابن أبي شيبة (٢/ ٤٥٠، ٤٥٣)، وأبو داود في الصلاة، باب متى يتم المسافر، حديث رقم: (١٢١٧) (٤/ ٩٦)، والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في التقصير في السفر، حديث رقم: (٥٤٥) (٢/ ٤٣٠)، والبيهقي (٣/ ١٣٥، ١٥٣)، والطيالسي ص١١٥، والطحاوي في شرح المعاني (١/ ٤١٧) من حديث عمران بن حصين (رضي الله عنه) مرفوعاً.
وقد جاء نحوه موقوفاً على عمر (رضي الله عنه) عند مالك في الموطأ، ص١٠٥، وعبد الرزاق (٢/ ٥٤٠)، والطحاوي في شرح المعاني (١/ ٤١٩)، وراجع الكلام على هذا الحديث في نصب الراية (٢/ ١٨٧)، التلخيص (٢/ ٢٥٢) إتحاف السادة المتقين (٤/ ٣٦٨).
(٤) البيت في ديوانه ص٦١.


الصفحة التالية
Icon