سياقِ النفيِ، وأنها شاملةٌ لكثيرٍ من الأَنْفُسِ، وهذا معنى قولِه: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.
وقوله (جل وعلا): ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: آية ٤٩]، أي: وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ من آلِ فرعونَ، يعني: من فرعونَ وقومِه القبطِ؛ لأنهم كانوا يُهِينُونَ بني إسرائيلَ.
قال بعضُ العلماءِ (١): أصلُ (الآل): أهلٌ، بدليلِ تصغيرِه على (أُهَيْلٍ)، وبعضهم صغَّره على (أُوَيْلٍ)، ولا يُطْلَقُ (الآلُ) على الأهلِ إلا إذا كان مُضَافًا لمن له شَرَفٌ وَقَدْرٌ، فلا تقول: آل الْحَجَّامِ، ولا آل الإسكافِ (٢) (٣).
و (فرعونُ) مَلِكُ مصرَ المعروفُ، وهو يُطْلَقُ على مَنْ مَلَكَ مصرَ. وقال بعضُهم: كُلُّ مَنْ مَلَكَ العمالقةَ يُطْلَقُ عليه (فرعونُ) (٤).
واختُلف في لفظِ (فرعونَ) هل هو عَرَبِيٌّ أو أَعْجَمِيٌّ؟ (٥) قيل: هو اسمٌ أعجميٌّ، مُنِعَ من الصرفِ للعلميةِ والعُجْمَةِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو عربيٌّ، من تَفَرْعَنَ الرجلُ إذا كان ذا مَكْرٍ وَدَهَاءٍ. والأولُ أظهرُ. وعلى أنه عربيٌّ فَوَزْنُهُ (فِعْلَول) بلامين لا (فعلون) بالنونِ.
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢/ ٣٧)، القرطبي (١/ ٣٨٣)، الدر المصون (١/ ٣٤١).
(٢) هو الخرّاز، وقيل: كل صانع، انظر: المصباح المنير: (مادة: الإسكاف) ص١٠٧.
(٣) انظر: المفردات (مادة: آل) ص٩٨، الدر المصون (١/ ٣٤٣).
(٤) انظر: ابن جرير (٢/ ٣٨)، القرطبي (١/ ٣٨٣)، الدر المصون (١/ ٣٤٣).
(٥) انظر: الدر المصون (١/ ٣٤٤)، اللسان (مادة: فرعن) (٢/ ١٠٨٣).
﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: آية ٤٤] فقوله: ﴿هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ كقولِه: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٥] كقولِه: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: آية ٤٤] وكقولِه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: آية ٨٢] أي: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)﴾ لهم عقولٌ وَعِلْمٌ يُظْهِرُ لهم ما ضَمَّنَّا في هذا القرآنِ من تَصْرِيفِنَا الآياتِ من غرائبِنا وعجائبِنا وبصائرِنا، أي: أَدِلَّتِنَا القاطعةِ الواضحةِ التي لا تَتْرُكُ في الحقِّ لَبْسًا. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)﴾.
﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (١٠٧)﴾ [الأنعام: الآيتان ١٠٦، ١٠٧].
﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أنه أنزلَ علينا على لسانِ نَبِيِّنَا بصائرَ حيث قال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ﴾ والمعنَى: جاءتكم مِنْ قِبَلِنَا على لسانِ نبينا بصائرُ، أي: حُجَجٌ قاطعاتٌ، وأدلةٌ واضحاتٌ، لا تتركُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا. فهذه البصائرُ التي جَاءَتْكُمْ يلزمُكم اتِّبَاعُهَا، وعدمُ الْمَيْلِ والحَيْدةِ عنها؛ ولذا أَتَّبِعُ قولَه: ﴿قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ﴾ [الأنعام: آية ١٠٤] بقولِه: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٦] وهو تلكَ البصائرُ والبيناتُ والحُجَجُ القاطعاتُ التي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عليكَ، وهذه البصائرُ: هي هذا القرآنُ العظيمُ، وهو المأمورُ بِاتِّبَاعِهِ في قولِه: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٦] وهذا القرآنُ العظيمُ يجبُ علينا جَمِيعًا أن نَتَّبِعَهُ، ونتأدبَ بآدابِه، ونتخلقَ بما فيه من مكارمِ الأخلاقِ، وَنُحِلَّ حلالَه،
مذكورة سابقاً في أول الكلام والمعنى، فنون التنوين في ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ عوض عن قوله: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (٧)﴾ [الأعراف: الآيتان ٦، ٧] أي: ووزن الأعمال يومئذ نسأل الذين أُرسل إليهم ونسأل المرسلين. وزن أعمال الخلائق يومئذ، أي: يوم ذلك السؤال المتقدم وهو يوم القيامة.
﴿الْحَقُّ﴾ قوله: ﴿وَالْوَزْنُ﴾ مبتدأ بلا خلاف. واختلف المعربون من علماء العربية في خبره (١)، وقال بعضهم: خبره ﴿يَوْمَئِذٍ﴾، والمعنى: والوزن الحق كائن يومئذ، يوم سؤال الرسل والمرسلين، وعليه فالخبر هو الظرف الذي هو (يومئذ) يُقدر له الكون والاستقرار، والوزن كائن يومئذ، أي: يوم ذلك السؤال المذكور.
وقال بعض العلماء: خبر المبتدأ هو (الحق) أي: والوزن في ذلك اليوم الحق. فـ (الوزن) مبتدأ، و (الحق) خبره.
وعلى القول الأول فهو يدل على أن الذين أجازوه من علماء العربية -وهم جماعة كثيرة من علماء العربية والمفسرين- يدل على أنهم يرون أن المبتدأ إذا كان منعوتاً لا تمتنع الحيلولة بينه وبين نعته بالخبر. هكذا ظاهر صنيعهم وإعرابهم، أن (يومئذ) خبر، و (الحق) نعت للوزن.
وأظهر الإعرابين: أن (الحق) هي خبر (الوزن)، و (يومئذ) ظرف، أي: والوزن في ذلك اليوم الحق العدل.
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٢٥٥).
......................... وقد تَلَفَّعَ بالقُورِ العَسَاقِيل
لأن الكلام مقلوب؛ لأن (القُور) وهي الحجارة هي التي تتلفع. أي: تلتحف بالعساقيل، وهو السراب، فهو قال: إن السراب يلتحف بالعساقيل. والكلام مقلوب؛ لأن الحجارة هي التي تتلفع بالسراب، وهذا معنى قوله:
.............................. وقد تَلَفَّعَ بالقُورِ العَسَاقِيل
ومنه قول الآخر (١):
............................ كما طَيَّنتَ بالفِدَنِ السَّيَاعَا
يعني: كما طينت الفدن بالسياع. أي: طينت القصر بالطين. وهو معروف في كلام العرب بكثرة، ومنه قول الشاعر (٢):

نزلت بخَيلٍ لا هوادةَ بينها وتشقى الرماحُ بالضَّيَاطِرةِ الحُمر
يعني: وتشقى الضياطرة بالرماح. وهذا النوع من القلب أنكره علماء البلاغة وقالوا: لا يجوز إلا بما تضمن اعتبارًا وسرًّا لطيفًا كقلب التشبيه. فالتشبيه المقلوب يُقلب فيه المشبه مشبهًا به، والمشبه به مشبهًا. قالوا: إنما جاز هذا لنكتة، وهي إيهام أن الفرع أقوى في وجه الشبه من الأصل كقوله (٣):
_________
(١) البيت للقطامي، وهو في اللسان (مادة: سيع) (٢/ ٢٥٣)، الأمالي (٢/ ٢١١)، مغني اللبيب (٢/ ٢٠٠)، وصدره: «فلما أن جرى سِمَنٌ عليها».
(٢) البيت لخداش بن زهير، وهو في الدر المصون (٥/ ٤٠١)، شواهد الكشاف ص٤٦، والضياطرة: جمع ضيطار، وهو الضخم.
(٣) البيت لرؤبة، وهو في شذور الذهب ص٣٢٠، مغني اللبيب (٢/ ٢٠٠).
الجوارح، أمنيته السلامة. والله (جل وعلا) -وله المثل الأعلى في السماوات والأرض- أعظم بطشاً وأشَدّ نكالاً، وأعظم اطلاعاً، وحِمَاه في أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، فالمسلمون إذا ذكروا هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم حاسبوا، ولم يفعلوا ما يخجلهم أمام رَبِّهِمْ (جل وعلا)؛ ولذا كثر في القرآن هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم بعد كل أوامر وكل نواهٍ، ومنه قوله هنا: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)﴾ [الأنفال: الآية ٤٢].
﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً﴾ [الأنفال: الآية ٤٣] قال بعض العلماء: (إذ) بدل من الظروف قَبْلَهُ. وقال بعضهم: منصوب بـ (اذكر) مقدراً (١).
ومعنى الآية الكريمة: أن النبي ﷺ رَأَى على التحقيق فيما يرى النائم -ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ لا شك فيها- أراه الله في نومه أن المشركين قليل جدّاً. وبعض العلماء أنكر معناها الواضح المتبادر للذّهن؛ لأنه لم يفهم الحقيقة. قالوا: كيف يُريهم قليلاً في مَنَامِهِ ورؤيا الأنبياء حَقّ، والنبي ﷺ يعلم أنهم حوالي ألف، كيف يعلم أنهم قريبون من الألف ويَرَى في المنام خلاف ما هو يعلم مع أن رؤيا الأنبياء حق (٢)؟ وغفل مَنْ قال هذا القول وإن قال به جماعة من أجِلاّء العلماء؛ لأن رؤيا النبي ﷺ حق، وتأويلها حق، كما قال يوسف: ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾ [يوسف: الآية ١٠٠] لأن معنى رؤياه هو ما سيأتي في قوله: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٤]. لأن الله قلّل كلاًّ من الطائفتين في عين الأخرى في اليقظة
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٦١٥).
(٢) انظر: البحر (٤/ ٥٠١).


الصفحة التالية
Icon