وقوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ تقول العربُ: سَامَهُ خَسْفًا، إذا أَوْلاَهُ ظُلْمًا، وأذاقَه عذابًا، ومن هذا المعنى قولُ عمرِو بنِ كلثوم في معلقتِه (١):

إِذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِينَا
وقوله: ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ أي: يُذِيقُونَكُمْ ويولونكم سوءَ العذابِ، أي: أصعبَ العذابِ وَأَشَدَّهُ وأفظعَه؛ لأنهم كانوا يعذبونهم بأنواعٍ من العذابِ شاقةٍ ذَكَرَ اللَّهُ بعضًا منها هنا حيث قال: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ فالفعلُ المضارعُ الذي هو ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ بدلٌ من الفعلِ المضارعِ الذي قَبْلَهُ (٢) الذي هو ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ على حَدِّ قَوْلِهِ في الخلاصةِ (٣):
وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ كَمَنْ يَصِلْ إِلينَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ
وإنما عُبِّرَ بالتشديدِ في قراءةِ الجمهورِ في قوله: ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ دلالةً على الكثرةِ؛ لأنهم ذَبَحُوا كثيرًا من أبنائهم (٤). ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ أي: الذكورَ ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ أي: بناتِكم الإناثَ، يُبْقُوهُنَّ حَيَّاتٍ، ولم يذبحوهن. والنساءُ على التحقيقِ اسمُ جَمْعٍ (٥) لا واحدَ له من لَفْظِهِ، واحدتُه امرأةٌ.
_________
(١) شرح القصائد المشهورات (٢/ ١٢٤).
(٢) انظر: الدر المصون (١/ ٣٤٥ - ٣٤٦).
(٣) الخلاصة ص٤٩، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ١٣٣).
(٤) انظر: القرطبي (١/ ٣٨٥، ٣٨٦).
(٥) اسم الجمع: ما دل على آحاده دلالة الكل على أجزائه، والغالب أنه لا واحد له من لفظه، نحو: (قوم، رهط، طائفة، جماعة) انظر: حاشية الصيان (١/ ٢٩).
ونُحَرِّمَ حرامَه، ونعتقدَ عقائدَه، وَنَنْزَجِرَ [بوعيده]، وننبسطَ [لِوَعْدِهِ] (١)، وَنَتَأَسَّى بأمثالِه، إلى غيرِ ذلك من العملِ به.
وَاعْلَمُوا أن هذا القرآنَ العظيمَ هو أعظمُ نعمةٍ أَعْطَاهَا اللَّهُ لهذا الخلقِ الذي أَنْزَلَهُ عليه، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أن إيراثَ هذا القرآنِ العظيم هو العلامةُ الوحيدةُ في الاصطفاءِ، فَاللَّهُ لا يُورِثُ هذا الكتابَ إلا مَنْ اصْطَفَاهُ من خَلْقِهِ، حيث قال تعالى بعد أن نوَّه بالقرآنِ والعملِ به: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا﴾ إلى أن قال: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّنْ تَبُورَ (٢٩)﴾ ثم قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ فَبَيَّنَ أن إيراثَ هذا الكتابِ علامةٌ للاصطفاءِ؛ ولذا قال: ﴿أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ والجمهورُ من العلماءِ على أن الذينَ أُورِثُوا الكتابَ الذين اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ بإيراثِ هذا الكتابِ لاَ يَخْتَصُّونَ بحَمَلَةِ القرآنِ الذين يَحْفَظُونَهُ، بل يشملُ جميعَ الأمةِ الذين يعملونَ به، فَيُحِلُّونَ حَلاَلَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، ويعتقدونَ عقائدَه إلى غيرِ ذلك، وإن لم يكونوا يَحْفَظُونَهُ (٢)، وسواء وَقَعَ منهم تقصيرٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ إيراثَه للكتابِ، وأن إيراثَه الكتابَ علامةُ الاصطفاءِ، قَسَّمَ هذه الأمةَ التي أَوْرَثَهَا هذا الكتابَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ، قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ ثم نَوَّهَ بالقرآنِ العظيمِ فقال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)﴾ أي: ﴿ذَلِكَ﴾ إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ ﴿هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)﴾ مِنَ اللَّهِ عليهم.
فَصَرَّحَتِ الآيةُ بِأَنَّ إنزالَ القرآنِ وإيراثَنا إياه أعظمُ فضلٍ وأكبرُه علينا؛ وَلِذَا عَلَّمَنَا اللَّهُ أن نحمدَه على هذه النعمةِ الكبرى
_________
(١) في الأصل: «وننزجر بوعده، وننبسط لوعيده». وهو سبق لسان.
(٢) انظر: ابن جرير (٢٢/ ١٣٣)، ابن كثير (٣/ ٥٥٤).
وأصل الحق: الثابت الذي لا يضمَحِلّ، والمراد بالحق فيه أنه عدل ثابت لا جور فيه ولا حيف، فلا يُزاد في سيئات مسيئ، ولا يُنقص من حسنات مُحْسِن، فهو وزن في غاية الحق، وفي كمال العدالة والإنصاف، لا يُظلم صاحبه شيئاً (١)، ولكن قد يُزاد المحسن حسنات إلى حسناته: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء: آية ٤٠] وفي القراءة الأخرى (٢): ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾.
وهذا الوزن فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر، يعني: يا عبادي ما دمتم في دار الدنيا فانتهزوا الفرصة، ولا يضع عليكم الوقت، واعلموا أن كل ما تقدمون وما تقولون وما تفعلون من خير سيوزن بميزان عدل حق قسط على رؤوس الأشهاد، لا يخيس شعيرة، فمن ثقلت موازينه بالحسنات فهو المفلح، ومن خفت موازينه بكثرة سيئاته وقلة حسناته فلا يلومن إلا نفسه.
واعلموا أن جماهير العلماء من عامة المسلمين، سلفهم وخلفهم، على أن هذا الوزن وزن حقيقي، وأنه يقع بميزان له لسان وكفتان (٣)، توضع السيئات في كفة، والحسنات في كفة، فيثقل الله ما شاء منهما، فإن كانت حسناته أكثر ثقلت كفة الحسنات فصار إلى الجنة، وإن كانت سيئاته أكثر خفت موازينه لِقِلَّةِ حسناته وكثرة سيئاته، وحُقَّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحُقَّ لميزان
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٢٩٢).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٧٩.
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣١١)، التذكرة للقرطبي ص٣١٣، الجامع لأحكام القرآن (٧/ ١٦٥)، شرح الطحاوية ص٦٠٩.
وبَلَدٍ مُغبرةٍ أرجاؤهُ كأَنَّ لونَ أرضِهِ سَمَاؤُه
والذين قالوا: في الآية قلب قالوا: المعنى: حقيق على أن لا أقول على الله، كأنه جعل نفسه حقيق على أن لا يقول على الله إلا الحق. والمراد: قلب الكلام. أي: يجب عليه، حقيق عليه هو ﴿أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ فكأنه جعله هو الحقيق على القول. والمقصود: أن القول هو الحقيق عليه أن لا يقوله إلا بالحق، وفي الكلام قلب كما ترى، وهذا لا يلزم، وأنكره كثير من علماء العربية.
والوجه الذي يظهر أنه أصوب الأوجه ولا ينبغي العدول عنه وإن قلّ من تنبه إليه من علماء التفسير: هو إن معنى الآية الكريمة: ﴿إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ﴾ [الأعراف: الآيتان ١٠٤، ١٠٥] وأما قوله: ﴿عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ﴾ تتعلق بمعنى الرسالة المشار إليها في الرسول، أي: أُرسلت مشترطًا علي، أُرسلت ﴿عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ أي: أرسلني ربي على شرط ووتيرة معينة، وهي أن لا أقول عليه إلا الحق.
وقال بعض العلماء: ﴿عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ﴾ تتعلق بقوله: ﴿رَسُولٌ﴾ ﴿إِنِّي رَسُولٌ﴾ أي: رسول ﴿عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾.
وبعضهم يقول: هذا لا يجوز. والنحويون من البصريين يقولون: إن العامل إذا أخذ نعته -نُعت ووُصف- لا يعمل بعد ذلك. وعلى هذا لا يجوز إعمال (رسول) في قوله: ﴿عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ﴾ لأنه نُعت بقوله: ﴿حَقِيقٌ﴾ ولكن الأصوب في هذا أن يُقدّر عامل من جنس الرسول، فيكون المعنى: إني رسول حقيق من رب العالمين
حتى إنهم لما تصوبوا من عقنقل بدر قال ابن مسعود (رضي الله عنه): قلت لصاحبي: أتراهم يبلغون السبعين؟ قال: أظنّهم يبلغون المائة (١). مِنْ شِدَّةِ تقليل الله لهم في عيون الصحابة، والله قَلَّلَ الصحابة في عيون المشركين حتى قال أبو جهل: إنهم أَكَلَةُ جَزُور. يعني: الجزور قد يأكلها ناس قليلون.
فقلّل الله هؤلاء في أعْيُنِ هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، فَبَعْدَ أَنِ الْتَحَمَ القِتَالُ والْتَقَى الصفّان أكثر الله المؤمنين في أعين الكافرين حتى صاروا يظنونهم ضعْفَيْهِمْ، كما تقدّم في قوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ إلى قوله: ﴿يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: الآية ١٣]؛ لأن الكفار بعيونهم يَرَوْنَ أن المسلمين أكثر منهم بالضِّعْف؛ لأن الله فعل كل ذلك لحكمة قبل أن يتلاقى هؤلاء وهؤلاء، جعل هؤلاء قليلاً في أعين هؤلاء، وهؤلاء قليلاً في أعين هؤلاء، ثم لما الْتَحَمَ القتال والتقى الصفان أَكْثَر المسلمين في أعين الكافرين فظنوا أنهم أكثر منهم مرتين؛ ولذا قال هنا: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً﴾ [الأنفال: الآية ٤٣] لأن النبي ﷺ أراه الله الكفار في النوم قليلاً وأخْبَرَ بها أصحابه ففَرِحُوا بذلك وقويت قلوبهم وتهيئوا للقتال، والله (جل وعلا) صدّق تلك الرؤيا بأن قلَّلَهُم في أعينهم يوم بدر، كما يأتي الآن، ثم قال: ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ﴾ لو أراك في النوم أنهم عدد ضخم كثير كالألف وأخبرتهم بذلك لخافوا وقالوا: لم نستعد لهؤلاء، وإنما خرجنا للعير!! كما تقدم في قوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال: الآيتان ٥، ٦] وهذا معنى
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٣/ ٥٧٢). وعزاه في الدر (٣/ ١٨٩) لابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه.


الصفحة التالية
Icon