وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ؛ لأن اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ أنهم سَامُوهُمْ سوءَ العذابِ فَسَّرَ قولَه: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ بالبدلِ بعدَه، وَبَيَّنَ أن من ذلك العذابِ العظيمِ السيئِ: تذبيحَ الأبناءِ، واستحياءَ البناتِ. وفي هذا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: تذبيحُ الأبناءِ ظاهرٌ أنه من ذلك العذابِ الذي يَسُومُونَهُمْ، أما استحياءُ البناتِ، وهو قولُه: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ فأين وجهُ كونِ هذا من سوءِ العذابِ، مع أن بقاءَ البعضِ قد يظهرُ للناظرِ أنه أحسنُ من تذبيحِ الكُلِّ؟ كما قال الهُذلي (١):

حَمِدْتُ إِلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إِذْ نَجَا خِرَاشٌ وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
الجوابُ عن هذا: أن استحياءَهم للنساءِ استحياءٌ هو من جملةِ العذابِ؛ لأنهم يستحيونهم ليُعَمِّلُوهم في الأعمالِ الشَّاقَّةِ، وليفعلوا بهم ما لا يليقُ من العارِ والشنارِ (٢)، وبقاءُ البنتِ - وهي عورةٌ - تحتَ يدِ عدوٍّ لا يُشْفِقُ عليها، يفعلُ بها ما لا يليقُ، وَيُكَلِّفُهَا ما لا تُطِيقُ، هذا من سوءِ العذابِ بلا شَكٍّ، وقد قال جل وعلا: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا﴾ [النساء: آية ٩] والعربُ كانوا ربما قَتَلُوا بناتِهم شفقةً وخوفًا عليهم مما يلاقونه مما لا يليقُ بعدَ موتِ الآباءِ، وهو كثيرٌ في شِعْرِهِمْ، وقد قال رجلٌ منهم في ابنةٍ له تُسَمَّى مودَّة (٣):
مَوَدَّةُ تَهْوَى عُمْرَ شَيْخٍ يَسُرُّهُ لَهَا الْمَوْتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لَوْ أَنَّهَا تَدْرِي
_________
(١) البيت لأبي خراش الهذلي، انظر: الخزانة (٢/ ٤٥٨).
(٢) انظر: ابن عطية (١/ ٢١٢)، البحر المحيط (١/ ١٩٤)، دفع إيهام الاضطراب ص٢١.
(٣) انظر: أضواء البيان (٣/ ٢٨٦)، دفع إيهام الاضطراب ص٢٢.
والفضلِ الأعظمِ، حيث قال في أولِ سورةِ الكهفِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (١)﴾ [الكهف: آية ١] يعنِي لَمْ يجعل فيه اعوجاجًا من جهةِ الألفاظِ ولا المعانِي، فألفاظُه بليغةٌ مستقيمةٌ، [ومعانيه] (١) كريمةٌ جليلةٌ، أخبارُه صدقٌ، وأحكامُه عدلٌ ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ [الأنعام: آية ١١٥] يعنِي: صِدْقًا في الأخبارِ، وَعَدْلاً في الأحكامِ. ثم قال (جل وعلا) وهو محلُّ الشاهدِ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ يعني جميعَ الذين أُورِثُوا الكتابَ، هذا القرآنَ العظيمَ، وعلى رأسهم الظالمُ لنفسه؛ لأنه أولُ مَنْ ذُكِرَ، حيث قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ ثم قال عن الجميعِ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (٣٥)﴾ وَلَمْ يبقَ غير الذين أُورثوا الكتابَ بظالِمهم ومقتصدِهم وسابقِهم إلا الكفرةَ الفجرةَ؛ ولذا قال بعدها: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)﴾ [فاطر: الآيات ٢٩ - ٣٦] وكان بعضُ العلماءِ يقول: حُقَّ لهذه (الواو) أن تُكْتَبَ بماءِ الْعَيْنَيْنِ (٢). يعني واوَ ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ لأنها حَكَمَتْ بدخولِ الجميعِ في الجنةِ، وعلى رأسهم الظالمُ لنفسه.
وأصحُّ التفسيراتِ في (الظالمِ)، و (المقتصدِ)، و (السابقِ) (٣):
_________
(١) في الأصل: ومعناه.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
(٣) انظر: ابن جرير (٢٢/ ١٣٣)، ابن كثير (٣/ ٥٥٤).
توضع فيه السيئات أن يخف، والحق إنما كان ثقيلاً في الميزان يوم القيامة؛ لأنه ثقيل على النفوس في دار الدنيا، والباطل إنما كان خفيفاً في الميزان يوم القيامة لخِفَّتِه على النفوس في دار الدنيا، وهذا الوزن التحقيق الذي عليه السلف أنه وزن حقيقي، بميزان حقيقي، له لسان وكفتان، ينظر إليه جميع الخلائق، توضع أعمال العبد في كفة، الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فإن ثقلت كفة الحسنات صار إلى الجنة، وإن خفت كفة الحسنات صار إلى النار.
واختلفوا في كيفية هذا الوزن على ثلاثة أقوال لا يكذب بعضها بعضاً (١)، وقال بعض العلماء: لا مانع من أن يقع جميعها فذهب أكثر المفسرين إلى أن الموزون هو صحائف الأعمال؛ لأن كل إنسان له كتاب وصحائف فيها عمله، كما قدمنا في قوله: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (١٣) اقْرَأْ كَتَابَكَ﴾ [الإسراء: الآيتان ١٣، ١٤] فهذا الكتاب متضمن جميع صحف عمله، وأن هذه الصحف يوضع ما كُتب منها فيه الحسنات في كفة، وما كتب فيه السيئات في كفة، وعلى هذا القول الأكثر، واستدلوا له بحديث البطاقة المشهور الذي أخرجه الترمذي وغيره (٢) وصححه
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣١٠ - ٣١٤)، الجامع لشعب الإيمان (٢/ ٦٩)، ابن كثير (٢/ ٢٠٢)، التذكرة للقرطبي ص٣١٣، الجامع لأحكام القرآن (٧/ ١٦٥)، شرح الطحاوية ص٦١٠.
(٢) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أخرجه أحمد (٢/ ٢١٣، ٢٢١)، والترمذي، كتاب الإيمان، باب: ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، حديث رقم: (٢٦٣٩)، (٥/ ٢٤)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب: ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة. حديث رقم (٤٣٠٠)، (٢/ ١٤٣٧)، والحاكم (١/ ٦)، (٥٢٩)، والبيهقي في الشعب (٢/ ٧١)، وابن جرير (١٢/ ٣١٣)، والبغوي في التفسير (٢/ ١٤٩)، وانظر: السلسلة الصحيحة، حديث رقم (١٣٥).
أُرسلت. أي: أرسلني رب العالمين، أرسلني على أن لا أقول عليه كذبًا، ولا أقول على الله إلا الحق، وهذا الوجه واضح لا إشكال فيه، ليس فيه تعسف ولا تكلف، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره وإن قل من انتبه إليه من علماء التفسير. وهذا معنى قوله: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ [الأعراف: آية ١٠٥].
الحق في لغة العرب: الثابت الذي ليس بزائل ولا بمضمحل، وعكسه الباطل. والمراد بالحق هنا: هو الشيء المطابق للحقيقة والصواب والواقع في نفس الأمر.
﴿قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ قد قدمنا أن البينة (١) هي الدليل الواضح الذي لا يترك بالحق لبسًا.
﴿بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ (من) لابتداء الغاية، والرب هو السيد الخالق المدبر الذي يدبر أمور الناس، وهو مُشْتَرك بين عشرة معان كما قدمنا (٢).
﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (إسرائيل) هو نبي الله يعقوب (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام)، ومعنى: (إسرائيل): عبد الله، و (إسرائيل): هو يعقوب، و (بني إسرائيل): أولاد يعقوب؛ لأنكم عرفتم في القرآن في قصة يوسف أنه لما أرسل إليهم وجاءوه في آخر حياة يعقوب، واجتمعوا به في مصر، سكنوا بعد ذلك في مصر وتناسلوا، وحتى سلط الله عليهم فرعون وأهانهم الإهانة المشهورة المعروفة بالقرآن، وسيأتي بيانها في هذه السورة الكريمة - سورة
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.
قوله: ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ﴾ الفشل ضد النجاح، وهو الجبن والخور؛ أي: لأصابكم الخور والجبن وتنازعتم في هذا الأمر، هذا معنى قوله: ﴿لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ﴾ بأن قال قوم: نذهب إليهم وإن كانوا كثيراً. وقال آخرون: ما ذهبنا إلا للعير، وما ذهبنا مستعدِّين لنفير كثير.
وحصل فيكم الفشل والتنازع في الأمر ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ جل وعلا ﴿سَلَّمَ﴾ من هذا الفشل ومن هذا التَّنَازُع بأن أرى رسوله ﷺ في المنام أنهم قليلون لتتجرءوا عليهم، وقَلَّلكم في أعينهم فعلاً يقظة رأْيَ العين، وقللهم في أعينكم تصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا معنى قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ﴾.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ المراد بذات الصدور: ما يُصَاحِبُ الصدور ويَكْمُنُ فيها من الخواطر والهواجس، وقد علم أنه لو أراه إياهم كثيراً لتنازعتم في ذلك الأمر ولفشلتم، فهو يعلم بما يهجس في الصدور، وما يخطر فيها، وما توسوس به النفوس، وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الأنفال: الآية ٤٣].
ثم قال: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾ [الأنفال: الآية ٤٤] فهذا رأي في العين تصديقاً لرؤياه ﷺ واذكر حين يريكموهم الله في منامك قليلاً. الصحيح أن (قليلاً) هنا و (كثيراً) أنهما حالان، وأنها (رأى) البصرية عُدِّيَتْ بالهمزة فَتَعَدَّتْ إلى مفعول آخر، وأن (قليلاً) ليس مفعولاً ثالثاً، خلافاً لمن قال من بعض العلماء: إنها عُدِّيَتْ هُنَا إلى المفعول الثالث. والأصوب: أن (قليلاً) هنا حال، وأنها ليست بمفعول ثالث؛


الصفحة التالية
Icon