يَخَافُ عَلَيْهَا جَفْوَةَ النَّاسِ بَعْدَهُ وَلاَ خَتَنٌ يُرْجَى أَوَدُّ مِنَ الْقَبْرِ
ولما خُطِبَتْ عندَ عقيلِ بنِ عُلَّفَةَ المري ابنتُه الجرباءُ أنشد (١):
إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ الْمَهْرُ عَبْدٌ وَأَلْفَانِ وَذُودٌ (٢) عَشْرُ
أَحَبُّ أَصْهَارِي إِلَيَّ الْقَبْرُ
وقد قال الشاعرُ (٣):
تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ
وهذا هو وجهُ كونِ استحياءِ النساءِ من ذلك العذابِ الذي يَسُومُونَهُمْ.
وقال جل وعلا: ﴿وَفِى ذَلِكُم بَلاَءٌ مِن رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ في الإشارةِ في قولِه: ﴿ذَلِكُم﴾ وجهانِ لا يُكَذِّبُ أحدُهما الآخرَ مَبْنِيَّانِ على المرادِ بالبلاءِ (٤)؛ لأن البلاءَ في لغةِ العربِ الاختبارُ (٥)، والاختبارُ قد يقعُ بالخيرِ وقد يقعُ بالشرِّ، كما قال جل وعلا: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: آية ٣٥] وقال (جل وعلا):
_________
(١) انظر: القرطبي (١٠/ ١١٨)، مختصر تاريخ دمشق (١٧/ ١٢٧)، زهر الآداب (١/ ٤٨٤)، دفع إيهام الاضطراب ص٢٥. أضواء البيان (٣/ ٢٨٦) والمثبت في هذه المصادر: «ألف وعبدان».
(٢) في القرطبي (وخور) وهي: جمع خوَّارة، وهي الناقة الغزيرة اللبن. انظر: القرطبي (١٠/ ١١٨). وأما الذَّوْد من الإبل: فهو من الثلاثة إلى العشرة. المصباح المنير (مادة: ذود) ص٨٠.
(٣) البيت لأبي إسحاق بن خلف. انظر: القرطبي (١٩/ ٢٧٥)، الدر المصون (١٠/ ٧٣٦)، ابن عاشور (١٥/ ٨٧)، زهر الآداب (١/ ٤٨٥)، دفع إيهام الاضطراب ص٢٥.
(٤) انظر: ابن عطية (١/ ٢١٢)، الدر المصون (١/ ٣٤٨).
(٥) انظر: ابن جرير (٢/ ٤٩)، المفردات (مادة: بلى) ص١٤٥.
أن الظَّالِمَ: هو الذي يطيعُ مرةً ويعصي أُخْرَى، من الذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: آية ١٠٢].
والمقتصدُ: هو الذي يأتِي بالواجباتِ، ويتركُ المحرماتِ، ولا يتقربُ بالنوافلِ.
والسابقُ بالخيراتِ: هو الذي يأتِي بالواجباتِ، وَيَتَّقِي الْمُحَرَّمَاتِ، ويتقربُ إلى اللَّهِ بالنوافلِ، تَقَرُّبًا إليه بغيرِ الواجباتِ.
وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: ما الحكمةُ في تقديمِ الظالمِ في آيةِ (فاطر) هذه، والظالمُ إذا كان في هذا الوعدِ الكريمِ بدخولِ الجنةِ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ أين له أن يُقَدَّمَ فيقدمه اللَّهُ بالذكرِ على المقتصدِ والسابقِ؟
للعلماءِ عن هذا أجوبةٌ معروفةٌ (١):
منها: أن بعضَهم قال: هذا المقامُ أظهرَ اللَّهُ فيه كرمَه وتعظيمَ هذا القرآنِ العظيمِ، وقوَّةَ آثارِه على مَنْ أَوْرَثَهُمْ إياه بدخولِ الجنةِ؛ ولذا بدأ بالظالمِ لئلا يقنطَ، وأخَّر السابقَ بالخيراتِ لئلا يعجبَ بعملِه فيحبط.
وقال بعضُ العلماءِ: أكثرُ أهلِ الجنةِ الظالمونَ لأَنْفُسِهِمْ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ [ص: آية ٢٤] وَلَمَّا كان أكثرُ أهلِ الجنةِ الظالمين لأنفسهم بدأَ بهم لشأنِ الكثرةِ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
بعض أهل العلم أن رجلاً يوم القيامة يُجاء له بتسع وتسعين سجلاً كلها مملوءة من السيئات، كل سجل منها مدّ البصر، ثم يقول له ربه: هل تنكر شيئاً من هذا؟ فيقول: لا. هل ظلمتك رسلي؟! لا.. ثم يُؤتى ببطاقة -والبطاقة: القطعة الصغيرة قدر الأنملة- مكتوب فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، فيقول: وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات العظيمة الكثيرة؟! فيقال له: إنك لا تُظلم. فتوضع تلك البطاقة الصغيرة في كفة الميزان وتلك السجلات العظيمة الهائلة في الكفة الأخرى، فطاشت تلك السجلات، وثقلت تلك البطاقة؛ لأن اسم الله (جل وعلا) لا يعادله شيء.
استدلوا بهذا الحديث على أن الموزون هو صحائف الأعمال لذكر وزن السجلات ووزن البطاقة التي فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وذهبت جماعة من العلماء، ورواه غير واحد عن ابن عباس (١): أن الموزون نفس الأعمال، وأن الله يُحوِّل الأعمال الحسنة إلى أجرام حسنة مضيئة نيرة، والله (جل وعلا) قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يقلب ما ليس بجسم أن يقلبه جسماً، وقد جاء ما يدل على هذا كما جاء في حديث الترغيب في الزهراوين البقرة وآل عمران أنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو فرقان من طير
_________
(١) أخرجه البيهقي في الشعب (٢/ ٦٩)، والبغوي في التفسير (٢/ ١٤٩)، ونقله عنه ابن كثير (٢/ ٢٠٢)، وذكره السيوطي في الدر (٣/ ٧٠)، وهذا الأثر لا يصح عن ابن عباس (رضي الله عنهما) لأنه من طريق الكلبي عن أبي صالح.
الأعراف - وكان الله (جل وعلا) سلط فرعون مصر على الإسرائيليين فكان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويستعمل الموجودين منهم بالخدمة الشاقة، وأنقذهم الله منه على يد موسى بن عمران (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام). يزعم بعض المفسرين والمؤرخين أن بين مجيء يعقوب وأولاده ليوسف في مصر وبين مجيء موسى من مدين - لينقذهم من فرعون - يزعمون أن بينهما أربعمائة سنة والله أعلم. ويزعمون أيضًا أن مجيء يعقوب وأولاده أنهم كانوا حول الثمانين، وأن خروج الإسرائيليين الآتي ذكره من مصر عند فلق البحر لهم وإغراق فرعون وقومه أنهم كانوا يزيدون على ستمائة ألف والله تعالى أعلم.
وهذا معنى قوله: ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ معنى (أرسل معي بني إسرائيل) ارفع يدك عنهم، ولا تعذبهم، ولا تتعرض لهم بسوء، وخلّهم يذهبون معي إلى حيث يشاءون، هذا معنى قوله: ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف: آية ١٠٥].
﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ﴾ [الأعراف: آية ١٠٦] في هذه السورة الكريمة لم يذكر عن فرعون أنه تعرض لموسى بكلام وإنما أجابه على طبق السؤال؛ لأن موسى قال: ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ ورتب عليه بالفاء ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف: آية ١٠٥] قال فرعون مجاوبًا على طبق السؤال: ﴿إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا﴾ يعني إن كنت صادقًا في قولك: ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ فالبينة (١): الدليل الذي لا يترك في الحق لبسًا. والآية: العلامة على الصدق،
_________
(١) مضى قريبًا.
لأن (رأى) هذه بصرية لا علمية على التحقيق (١). وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾ يعني ترونهم كأنهم شيء قليل لتتجرءوا عليهم وتشجعوا وتقوى نفوسكم عليهم، وقد جاء عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنهم لما تصوبوا من كثيب بدر قال لرجل معه: أتظنّهم يبلغون سبعين - وهم ألف - فقال الرجل: أرى أنهم يبلغون المئة (٢). هذا من شدة تقليلهم في أعينهم ليتجرءوا عليهم، كذلك ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ لما رأوهم قالوا: هؤلاء أكَلَةُ جزور ليسوا بشيء. وقال أبو جهل: لا تقتلوهم بل خذوهم واربطوهم لِنَذْهَب بهم حيث نشاء. من شدة استقلاله لهم، وظنه أنهم لا شيء!! وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ ليتجرأ هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء؛ لأجل أن يقضي الله أمره، وينفذ إرادته ومشيئته بتهيئته أسباب ذلك. وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ﴾ بذلك ﴿أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ في علمه، وأزله، منفذاً في وقته لا محالة؛ لأن الله (جل وعلا) يقضي ويقدّر، فيقدر كل ما شاء ثم يقضيه مُنْجَزاً في أوْقَاتِهِ في أماكنه على هيئته وصوره التي سبق بها علمه (جل وعلا) ولذا قال: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾.
﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ جل وعلا وحده ﴿تُرْجَعُ الأمُورُ﴾ قرأ هذا
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٦١٥).
(٢) مضى قريباً.


الصفحة التالية
Icon