فالهمزةُ في (أَغْرَقَنَا) همزةُ التعديةِ، والمعروفُ أن همزةَ التعديةِ إذا دَخَلَتْ على فعلٍ لازمٍ أَكْسَبَتْهُ مفعولاً، وإذا دَخَلَتْ على فعلٍ مُتَعَدٍّ لمفعولٍ أَكْسَبَتْهُ مفعولين، وإذا دَخَلَتْ على فِعْلٍ مُتَعَدٍّ لمفعولين أَكْسَبَتْهُ ثالثًا، كما قال في الخلاصةِ (١):

إِلَى ثَلاَثَةْ رَأَى وَعَلِمَا عَدَّوْا إِذَا صَارَا أَرَى وَأَعْلَمَا
و ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾ (٢) قَدَّمْنَا معناه. وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ جملةٌ حَالِيَّةٌ (٣)، والظاهرُ أنه نَظَرٌ بالأبصارِ (٤)؛ لأن اللَّهَ أَرَاهُمْ ما أَحَلَّ بفرعونَ وقومِه من الغرقِ في البحرِ، وهو البحرُ الأحمرُ؛ ليكونَ ذلك أَقَرَّ لأعينهم؛ لأن هلاكَ الْعَدُوِّ وَعَدُوُّهُ ينظر إليه أَقَرُّ لعينِه. وهذا معنى قولِه: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾.
وقوله: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة: آية ٥١] (إذ) منصوبٌ بـ (اذْكُرْ) مُقَدَّرًا على أحدِ الأقوالِ (٥)، وهو معطوفٌ على المذكوراتِ قَبْلَهُ (٦)، وقرأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ ما عدا الْبَصْرِيَّ
_________
(١) الخلاصة ص٢٤، وانظر: شرحه في الأشموني (١/ ٢٩٥).
(٢) سئل الشيخ رحمه الله عن التعبير هنا بقوله: ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾ مع قوله في حق موسى عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة: آية ٥٤]؟.
فأجاب رحمه الله بقوله: عبر بـ ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾ يريد فرعون وقومه، كما قال جل وعلا: ﴿رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود: آية ٧٣] يدخل فيهم إبراهيم، وكما قال النبي - ﷺ - لأبي موسى: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» يعني: داود.
(٣) انظر: الدر المصون (١/ ٣٥١).
(٤) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٢).
(٥) انظر: البحر المحيط (١/ ١٣٩)، الدر المصون (٤/ ٦٩٥).
(٦) المصدر السابق (١/ ١٩٧).
- في سورةِ (يس) - على رؤوسِ الأشهادِ، ويبينُ مصيرَهم النهائيَّ، وذلك في قولِه: -ayah text-primary">﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: آية ٦٠] وَقَدْ أَجْمَعَ العلماءُ أن عبادتَهم للشيطانِ التي نَهَاهُمْ عنها وَعَهِدَ إليهم ألا يفعلوها إنما هي اتباعُ نِظَامِهِ وتشريعِه وقانونِه في سَنِّ المعاصي والكفرياتِ والمنكراتِ.
ثم قال: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا﴾ حيث عَبَدُوهُ واتخذوا تشريعَه: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)﴾ ثُمَّ بَيَّنَ المصيرَ النهائيَّ لعَبَدةِ الشيطانِ، وَمُتَّبِعِي نظامِ إبليسَ: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)﴾ [يس: الآيات ٦٠ - ٦٥] ولأَجْلِ هذا سَمَّى اللَّهُ تعالى الذين يُطَاعُونَ في المعصيةِ: (شركاءَ) حيث قال: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ [الأنعام: آية ١٣٧].
وَلَمَّا سألَ عَدِيُّ بنُ حاتمٍ النبيَّ - ﷺ - عن قولِه تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ [التوبة: آية ٣١] كيف اتَّخَذُوهُمْ أربابًا؟ قال: أَلَمْ يحلوا لهم ما حَرَّمَ اللَّهُ؟ ويحرموا عليهم ما أَحَلَّ اللَّهُ فاتبعوهم؟ قال: بَلَى. قال: بذلك اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا (١).
فَكُلُّ مَنْ يتبعُ نظامَ إبليسَ وقانونَ الشيطانِ فهو مشركٌ بِاللَّهِ في حُكْمِهِ، وَاللَّهُ يقولُ: ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦)﴾ [الكهف:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
على خيرك فلا تلومن إلا نفسك، وربنا (جل وعلا) يذكرنا بهذا ويعظنا به في دار الدنيا، في وقت إمكان الفرصة؛ لئلا تضيع علينا الفرصة، فعلينا أن نكثر من الحسنات، ونُجانب السيئات؛ ليكون ما في موازيننا يثقل عند الله فنفرح به ونُسر وندخل الجنة، فالسَّفِيهُ كل السَّفِيه والمتأخِّر حق المتأخر هو الذي لا يُراعي أوامر الله، وإنما يجمع في الدنيا من السيئات ليثقل بها كفة السيئات وتطيش كفة الحسنات، فيفضح على رؤوس الأشهاد ويجر إلى النار. هذا الخبيث المغفّل وإن سَمَّوه في الظروف الراهنة متقدماً متنوراً مسايراً ركب الحضارة!! فهو الحمار المغفل الذي لا يفهم ما أمامه، وهو أشد الناس تأخراً، وسيعلم أنه الأرذل المتأخر إذا مات وفارقت روحه جسده، ووجد ما عند الله من العدل والإنصاف، ووجده لم يقدم إلا السيئات والخبائث والتمرد على مَنْ خَلَقَهُ، فإذا وزنت سيئاته، وكانت كثيرة جدّاً، ولم توجد له حسنات فعند ذلك سيعلم هل هو كان متقدماً أم لا؟! وهل كان عاقلاً فطناً أم لا؟! بل يعلم أنه هو المتأخر الفدم (١) البليد الحمار الذي لا يفهم عن الله شيئاً! وعما قليل ستنكشف الحقائق ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: آية ٣٨] فسيقع ما سيقع، فعلى المؤمن أن يكون عاقلاً فطناً، وأن لا يهلك نفسه بيده، وأن يلاحظ أنه يوم القيامة ستوزن سيئاته وحسناته على رؤوس الأشهاد، فإن كانت سيئاته أرجح جُرَّ مخزياً مفضوحاً إلى النار، وإن كانت حسناته أرجح جاء مسروراً كريماً إلى الجنة، فعلى الإنسان أن لا يُهلك نفسه في دار الدنيا باتباع الشهوات واتباع
_________
(١) الفدم: بعيد الفهم قليل الفطنة. انظر: المصباح المنير (مادة: فدم) ص١٧٧.
رفع مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: إما إلقاؤك أولَ، وإما كوننا نلقي أولَ.
وقال بعض العلماء: هو خبر مبتدأ محذوف: إما الأمر إلقاؤنا، وإما الأمر إلقاؤك. والكل متقارب، وهذا معنى قوله: ﴿إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾.
يقول جماعة من علماء التفسير هنا: إن هذا حُسن أدب من السحرة، تأدبوا مع موسى هل يحب أن يكون هو أول من يلقي، أو يلقي هو الآخر. وحتى قال بعضهم (١): لما تأدبوا مع نبي الله كان من حكمة الله أن تفضّل عليهم بالهدى والإيمان. والتحقيق الذي يظهر: أن السحرة في ذلك الوقت كفرة فجرة قبل أن يهديهم الله، وأن هذا كأنه إظهار ثقتهم بأنفسهم وسحرهم واعتقادهم أنهم غالبون، يعنون: إن ألقيت قبلنا غلبناك، وإن ألقينا قبلك غلبناك، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر!! هذا هو الأظهر، وهذا معنى قوله: ﴿إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ [الأعراف: آية ١١٥] قال لهم نبي الله موسى: تقدموا أنتم أولاً وألقوا قبلي. ومفعول (ألقوا) محذوف، ألقوا ما أنتم ملقون.
﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (٤٤)﴾ [الشعراء: آية ٤٤] فلما قال لهم نبي الله موسى: «ألقوا» يعني: ألقوا ما أنتم ملقون. يزعم بعض المفسرين أنهم نحو من [] (٢) عند كل واحد منهم عصا ضخمة، وحبل ضخم، وأن كل واحد منهم جعل السحر في عصاه وحبله، حتى كانت الدنيا كأنها حيات كالجبال
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٥٩).
(٢) لم تتضح الرقم المذكور لضعف التسجيل الصوتي، وكأنه قال: ((سبعمائة ألف)). وللوقوف على الأقوال في عددهم انظر زاد المسير (٣/ ٢٤٠ - ٢٤١) حيث ذكر (١٣) قولاً.
الكفاح المُسَلَّح، فالمفروض أن الرجال تَنْزِل رؤوسهم عن أعناقهم في هذا الوقت الضنك الحرج، فالقرآن الذي هو تنزيل رَبّ العالمين يوضح الخطة العسكرية كما ينبغي (١)، على الوجه الذي يردون فيه العدو، وليتسنى لهم في ذلك الوقت الاتصال بخالق السماوات والأرض وأداءُ أدَبٍ من الآداب الروحية الذي هو الصلاة في الجماعة في ذلك الوقت، فالصلاة في الجماعة وقت الْتِحَام ذلك الكِفَاح المُسَلَّح هي من ذكر الله المأمور به هنا في سورة الأنفال في قوله: ﴿وَاذْكُرُواْ اللَّهَ﴾ فالمؤمنون إن ساروا في ضوء هذه التعاليم السماوية، وكانوا في طاعة الله، وفي ذكر الله، وتقدموا صابرين في الميدان فإنهم لا يقوم أمامهم شيء، كما هو مشاهد في التاريخ لأن هؤلاء الرجال الذين عُلِّموا هذا التعليم في آية الأنفال هذه ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ﴾ وفي سورة النساء: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ﴾ [النساء: الآية ١٠٢] ليصلّوا الجماعة في ذلك الوقت الحرج، ويقوّون صلتهم بالله، هؤلاء الذين أخذوا بهذه التعاليم هم الذين أخذوا كنوز قيصر وكسرى، وحملوا نور الإسلام في مشارق الدنيا، ودان لهم جميع الأمم، ورفعوا رايات الإسلام في جميع أقطار الدنيا.
أما هؤلاء الذين يَبِيتُون يَشْرَبُون الخمور، وتعزف عليهم القيان، وهم في المجالس الماجنة الخليعة، ثم بعد ذلك يصبحون في الميدان فهؤلاء ليسوا برجال ميدان، ولا يُرجى منهم تحقق شيء، ولا رد مسلوب من بلاد، ولا مِنْ مَجْد، ولا من شيء!! فما دام الذين يتقدمون في خطوط النار الأمامية فجرة، شَرَبَة للخمور، أصحاب معازف وغوانٍ وملاهٍ، فهؤلاء من يريد النصر
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٦) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon