أبَا عمرٍو: ﴿وَاعَدْنَا﴾ بصيغةِ الْمُفَاعَلَةِ، وقرأه أبو عمرٍو وَحْدَهُ من السبعةِ: ﴿وإِذْ وَعَدْنَا﴾ (١) ثُلاَثِيًّا مُجَرَّدًا من الوعدِ.
أَمَّا على قراءةِ أبي عمرٍو فلا إشكالَ: صيغةُ الجمعِ للتعظيمِ. واللَّهُ وَعَدَ نَبِيَّهُ موسى أن يُنْزِلَ عليه كتابًا فيه الحلالُ والحرامُ، وكل ما يحتاجون إليه بعدَ أربعين ليلةً.
أما على قراءةِ الجمهورِ ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا﴾ بصيغةِ المُفَاعَلَةِ، فالمقررُ في فَنِّ التصريفِ: أن المُفَاعَلَةَ تقتضي الطرفين. أعني اشتراكَ الفعلِ بينَ فَاعِلَيْنِ؛ ولذا استشكلَ بعضُ العلماءِ التعبيرَ بالمواعدةِ هنا، قال: إن الله يَعِدُ وحدَه، ولا يَعِدُهُ غيرُه، والجوابُ عن هذا (٢): أن المُفَاعَلَةَ باعتبارِ أن اللَّهَ وعدَ موسى بوحيٍ يُبَيِّنُ له فيه الأمورَ، وموسى وَعَدَ رَبَّهُ بالإتيانِ للميقاتِ المُعيَّنِ لتلقِّي ذلك الوحيِ، ومن هنا صارت المفَاعَلَةُ معقولةً.
وقوله: ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ قال بعضُ العلماءِ: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: تَمَامِ أربعينَ ليلةً (٣). وقد بيَّن تعالى في سورةِ الأعرافِ أن الوعدَ بهذه الأربعين كان مُفَرَّقًا بأن وَعَدَ ثلاثين أَوَّلاً ثم أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ (٤)، وذلك في قولِه: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: آية ١٤٢] قال بعضُ العلماءِ: هذه الأربعونَ ليلةً هي شهرُ ذِي القعدةِ وعشرٌ من ذِي
_________
(١) المبسوط لابن مهران ص١٢٩، الإقناع (٢/ ٥٩٧).
(٢) انظر: تفسير ابن جرير (٢/ ٥٨ - ٦٠)، حجة القراءات ص٩٦، الكشف لمكي (١/ ٢٣٩)، الموضح لابن أبي مريم (١/ ٢٧٤).
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٥).
(٤) انظر: أضواء البيان (١/ ١٥، ٧٧).
آية ٢٦] ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ﴾ [الأنعام: آية ٥٧] ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: آية ١٠] ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)﴾ [غافر: آية ١٢]، الحكمُ للعليِّ الكبيرِ وحدَه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٦] يعني: لا معبودَ بالحقِّ يُعْبَدُ إلاَّ هُوَ، فلا يجوزُ أن يُشْرَكَ بعبادتِه أحدٌ، ولا أَنْ يُشرك في حكمِه أحدٌ، سبحانَه (جل وعلا) أن يكونَ له شَرِيكٌ في عبادتِه، أو شريكٌ في حكمِه، سبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
وقولُه: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)﴾ [الأنعام: آية ١٠٦] بعضُ العلماءِ يقولُ: هذا الإعراضُ المأمورُ به عن المشركين في سورةِ الأنعامِ في مكةَ قبلَ الهجرةِ منسوخٌ بآيةِ السيفِ (١). لأَنَّ الإعراضَ زمنَ مكةَ، وَلَمَّا جَاءَ إلى المدينةِ أُذِنَ له في القتالِ أَوَّلاً بقولِه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: آية ٣٩] ثم أُمِرَ بقتالِ مَنْ قاتلهم دونَ مَنْ لَمْ يقاتلهم: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: آية ١٩٠] ثُمَّ أُمِرُوا بالقتالِ العامِّ في قولِه: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة: آية ٥].
وبعضُ العلماءِ يقولُ: هذه الآيةُ ليست منسوخةً (٢)؛ لأن المرادَ بالإعراضِ عن المشركينَ عدمُ الكلامِ مَعَهُمْ، وعدمُ سِبَابِهِمْ، وهذا أمرٌ قد يكونُ غيرَ منسوخٍ. وهذا معنَى قولِه: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)﴾ [الأنعام: آية ١٠٦].
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣٢)، الناسخ والمنسوخ للنحاس (٢/ ٣٥٥)، الإيضاح لمكي ص ٢٨٦.
(٢) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (٢/ ٣٥٥)، الإيضاح لمكي ص ٢٨٦.
المضللين، وأن لا تَطَّبِهِ الشعارات الزائفة المضللة التي تصرفه عن طاعة مَنْ خلَقَهُ إلى طاعة الشيطان فيخيب يوم القيامة ويخسأ عند الوزن. فعلى كل أحد أن يُعد لهذا الوزن عدته يوم القيامة.
وقد قدمنا أن جمهور علماء المسلمين أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان وكفتين.
وهنا سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم:
ما اعتل به الضالون المعتزلة النافون للميزان، القائلون: إنه ليس هناك ميزان حقيقي. يقولون: إن الله عالم بأعمال خلقه فما حاجته إلى أن يزنها، فهو عالم كُلاًّ منها غاية العلم، محيط بقدر حسناته وبقدر سيئاته، فأي حاجة إلى وزن الأعمال والرب (جل وعلا) عالم بحقيقتها بعلمه المحيط بكل شيء، عالم أيها الراجح؟! (١).
والجواب: أن الله (جل وعلا) يزن أعمال خلقه يوم القيامة ليُري خلقه كمال عدالته وإنصافه، وإن كان ذلك لا يحتاج، كما يكتب عليهم ذلك في كتب ويُسجِّله عليهم ويقول للواحد: ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)﴾ [الإسراء: آية ١٤] هذا خزياً له وتسجيلاً على رؤوس الأشهاد، وكذلك يُشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، وجلودهم، وهو غني عن كل ذلك، كل هذا لإظهار إنصافه وعدالته، ولتوبيخ أولئك الخبثاء الأخساء على رؤوس الأشهاد.
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٣١٢)، شرح الطحاوية ص٦٣، البحر المحيط (٤/ ٢٧٠).
يركب بعضها بعضًا، وخاف الخلق جميعًا خوفًا عظيمًا. وذكر الله في سورة طه أن موسى داخله بعض الخوف كما يأتي في قوله: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (٦٧)﴾ [طه: آية ٦٧] حيث قال: ﴿إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (٦٧)﴾ [طه: الآيات ٦٥ - ٦٧] وهذا الترتيب بالفاء لأن نبي الله موسى أوجس في نفسه الخيفة من عِظَم سحرهم كما قال هنا: ﴿وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: آية ١١٦].
وبعض المفسرين يقولون: لم يخف نبي الله من سحرهم، وإنما خاف أن يتفارق الناس ويهربوا قبل أن يُقيم حجته أمامهم. هكذا قاله بعضهم والله أعلم، هذا معنى قوله: ﴿قَالَ أَلْقُوْاْ﴾.
وهذه الآية فيها سؤال معروف، وهو أن يُقال: إن نبي الله موسى بن عمران (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) رسول كريم، والرسول لا يأمر بمنكر، وقوله لهؤلاء السحرة: ﴿أَلْقُوْا﴾ أمر بمنكر؛ لأنه أمرهم بأشد المنكر، وهو الإتيان بالأسحار تُعارض بها معجزات الله التي أيَّد بها رسله؟
والجواب عن هذا معروف (١): وهو أن نبي الله موسى (صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم) لا يريد أمرهم بإلقاء الحبال والعصي سحرًا خبيثًا تُعارض به آيات الله، وإنما مراده إبطاله؛ لأنه في ذلك الوقت لا طريق إلى إبطاله إلا هذا، وهي أن يبرزوه ثم تأتي آية الله ومعجزة الله التي هي هذه العصا فتبتلع جميع ذلك وتترك
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٥٩).
ويُؤمّله من ورائهم فهو مُغفَّل؛ لأن هؤلاء ليسوا برجال ميدان، فلا يمكن أن يَرُدُّوا مسلوباً مِنْ مَجْدٍ وَلاَ مِنْ بِلاد، ولا أن ينتصفوا من أحد كائناً ما كان؛ لأنهم تركوا التعاليم السماوية والخُطَط العسكرية التي هي كَفِيلَة بقمع الكفار، وإيقافهم عند حَدِّهِمْ، وكسر شوكة الكفر، وإعلاء كلمة الله جل وعلا.
فالحاصل أن السلاح الأكبر في ميادين القتال هو ذكر الله -جل وعلا- وطاعته وامتثال أمره؛ لأنه هو الذي منه النَّصْر والمَدَد. والله كذلك يأمر خلقه ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ﴾ أما الذين إذا لقوا فِئَة فلا يذكرون الله، وليس في قلوبهم خشية من الله، ولا عمل بدينه، فهؤلاء لا يُؤمّل من ورائهم فائدة إلا مغفل مثلهم لا يفهم شيئاً. وهذا معنى قوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً﴾ ذكرًا كثيرًا؛ لأن ذكركم لله كثيرًا تتقوى به أرواحكم، وتتصلون به بربكم، وينزل لكم بسببه المدد من خالق السماوات والأرض.
والصحابة (رضي الله عنهم) كذلك كانوا يفعلون، يذكرون الله ويخافونه في الميدان فيأتيهم النصر؛ ولذا قهروا الدنيا بأسرها، وأخذوا كنوز قَيْصَرَ وكِسْرَى كما هو معلوم. وهذا معنى قوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً﴾.
﴿لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾ قال بعض العلماء (١): (لعل) في القرآن كلها مشمة معنى التعليل، فهي تفيد معنى التعليل، إلا التي في الشعراء: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)﴾ [الشعراء: الآية ١٢٩]
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon