الحجةِ (١)، واليومُ الذي أَغْرَقَ اللَّهُ فيه فرعونَ وَأَنْجَى فيه بني إسرائيلَ هو يومُ عاشوراءَ، وقد ثَبَتَ في الصحيحِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أن النبيَّ - ﷺ - لَمَّا قَدِمَ المدينةَ وَجَدَ اليهودَ يَصُومُونَ يومَ عاشوراءَ، فسألهم فَأَخْبَرُوهُ بأنه اليومُ الذي أَنْجَى اللَّهُ فيه موسى وقومَه، وَأَهْلَكَ فيه فرعونَ وقومَه، فقال النبيُّ - ﷺ -: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ». فكان يصومُه حتى نزلَ صيامُ رمضانَ (٢) (٣).
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٥).
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصيام، باب صيام عاشوراء، حديث رقم: (٢٠٠٤)، (٤/ ٢٤٤)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم: (٣٣٩٧)، (٣٩٤٣)، (٤٦٨٠)، (٤٧٣٧)، ومسلم في الصحيح، كتاب الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، حديث رقم: (١١٣٠)، (٢/ ٧٩٥).
(٣) سئل الشيخ رحمه الله: على التعليل لصيامه في الإسلام بأن الرسول - ﷺ - رأى اليهود يصومونه وسألهم... إلخ. بم يجاب على حديث: «خالفوا اليهود والنصارى» مع وقوع هذا الصيام موافقا لفعل اليهود في ذلك اليوم؟
فأجاب رحمه الله بقوله: الظاهر - والله تعالى أعلم - أن النبي - ﷺ - لم يصمه إلا لأولويته بموسى، لا لمجرد اتفاق اليهود، وقد علل ذلك بقوله في الحديث: «نحن أولى بموسى منهم» والظاهر أنه لم يُصدِّق بني إسرائيل في أن هذا اليوم هو الذي نجَّى الله فيه موسى وقومه، وأنه قد عرف ذلك من طريق غير إخبارهم، لما تقرر عند العلماء: أن شرع من قبلنا لا يكون شرعا لنا، ولا يتعبد به نبينا - ﷺ - إلا بعد ثبوته في شرعنا، فإن ثبت في شرعنا فأصح الأقوال أنه شرع لنا، وأن نبينا - ﷺ - متعبد به، ومما يدل على ذلك: ما ثبت في صحيح البخاري في تفسير
سورة (ص) أن مجاهدا سأل ابن عباس رضي الله عنهما: من أين أخذت السجدة في (ص)؟ فأجابه ابن عباس: أَوَمَا تقرأ: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ﴾ ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ فسجدها داود، فسجدها رسول الله - ﷺ -. فعلى قياس هذا لا يبعد أن يوحي الله إليه أن هذا اليوم أنجى الله (جل وعلا) فيه موسى ويصوموه.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)﴾ [الأنعام: الآيات ١٠٧ - ١١٠].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (١٠٧)﴾ [الأنعام: آية ١٠٧] لَمَّا قال اللَّهُ (جل وعلا) لِنَبِيِّهِ: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)﴾ [الأنعام: آية ١٠٦] لَمَّا أمرَه بالإعراضِ عن المشركين بَيَّنَ أَنَّ إشراكَهم بِاللَّهِ واقعٌ بمشيئةِ اللَّهِ (جل وعلا)، وَأَتْبَعَهُ بقولِه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ قد تقررَ في فَنِّ الْمَعَانِي: أن فعلَ المشيئةِ إذا رُبِطَ بأداةِ شرطِ يُحْذَفُ مفعولُه دائمًا (١)، فمفعولُ المشيئةِ هنا مَحْذُوفٌ (٢)، وتقديرُه: ولو شاءَ اللَّهُ عَدَمَ إشراكِهم ما أَشْرَكُوا.
وهذه الآيةُ الكريمةُ تُبَيِّنُ أنه لا يقعُ شيءٌ إلا بمشيئةِ اللَّهِ، وأنه لو شَاءَ عدمَ إشراكِ الكفارِ لم يُشْرِكُوا. وقد دَلَّتْ على هذا آيَاتٌ كثيرةٌ كقولِه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ [الأنعام: آية ٣٥] ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: آية ١٣] وهذه الآياتُ تَرُدُّ على الْقَدَرِيَّةِ الزاعمينِ أن الكفرَ والمعاصِيَ بمشيئةِ العبدِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، فمذهبُهم باطلٌ، فَرُّوا مِنْ شَيْءٌ فَوَقَعُوا فيما هو أشنعُ وأكبرُ منه،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٥) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٩٩).
أمَّا المعتزلة فقد قالوا: إن الميزان لا حقيقة له، وإنما المراد بالوزن: العدالة في الجزاء، قالوا: وهذا معروف في كلام العرب، يقولون: هذا الكلام يوازن هذا الكلام، وهذا الرجل يوازن هذا الرجل. والميزان معناه: القسط التام والعدالة، وأن لا يُظلم إنسان شيئاً. قالوا: وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (١):

قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهْ
أي: ما يوازن كلامه وحجته. ومع الأسف قد سبق المعتزلة لهذا القول مجاهد، والضحاك، والأعمش (٢)!! وهو قول باطل مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة كما ذكرنا.
وإن كان الوزن يطلق على العدل، إلا أن الأحاديث النبوية، وظواهر القرآن العظيمة، وسائر المسلمين -إلا من شذّ- كلها متفقة على أنه ميزان حقيقي له لسان وكفتان كما ذكرنا، والأحاديث بمثله كثيرة لا ينكرها إلا مكابر، وهو الحق الصحيح إن شاء الله، وهذا معنى قوله: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف: آية ٨].
متعلَّق (الوزن) هنا محذوف، و (الوزن) مصدر (وَزَنَ، يَزنُ، زِنَةً، ووزناً)، كوعد، يَعِدُ، عِدَةً، ووَعْداً، ووَصَلَ، يَصِل، صِلَةً،
_________
(١) البيت في اللسان (مادة: وزن) (٣/ ٩٢١)، وفيه (مِرَّة) بدل (قوة).
(٢) انظر: قول مجاهد في ابن جرير (١٢/ ٣٠٩)، (٣١١)، (٣١٥)، البغوي (٢/ ١٤٩)، الدر المنثور (٣/ ٦٩)، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم، وعزاه إليه القرطبي وإلى الضحاك والأعمش. انظر: الجامع لأحكام القرآن (٧/ ١٦٥)، التذكرة ص٣١٣، البحر المحيط (٤/ ٢٧٠)، ولعل نسبته إلى الأعمش والضحاك لا تصح، والله أعلم.
الميدان خواء ليس فيه شيء، ولما كان هذا هو الطريق الوحيد للحق اضطُر إليه (صلوات الله وسلامه عليه)، وهذا معنى قوله: ﴿قَالَ أَلْقُوْا﴾.
وفي الكلام حذف دل المقام عليه، أي: ألقُوا حبالكم وعصيكم فألقَوا، فلما ألقَوا حبالهم وعصيهم ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ دل قوله: ﴿أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ على أن سحرهم من جنس الشعبذات؛ لأنهم جاءوا بسحر أخذ بعيون الناس حتى صارت ترى تخييلات ليست بحقيقية، وترى العصي والحبال تظنها حيات - ثعابين - من أضخم الحيات، بالمئات والآلاف مكدّسة كالجبال، يركب بعضها بعضًا، حتى خاف الخلق منها خوفًا شديدًا، فقوله هنا: ﴿أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ يدل على أنه تخييل بالنسبة للعين لا حقيقة. وقد صرح بذلك في طه بقوله: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: آية ٦٦] وزعم بعض المفسرين أن الزئبق كان متوفرًا عندهم، وأنهم ملؤوا داخل العصي والحبال من الزئبق وطرحوها حتى تأثر الزئبق بحرّ الشمس فلما تأثر الزئبق تحركت العُصي والحبال صار بعضها يلتوي على بعض ويركب بعضها بعضًا!! هكذا يقول بعضهم (١). ويظهر أنه سحر أخذوا به عيون الناس حتى صار يَتَراءى لهم هذا من الحيات العظام الكبار الضخام يركب بعضها بعضًا. وهذا معنى قوله: ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ﴾. ﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ قد تقرر في فن العربية أن تأتي (اسْتَفْعَل) مزيدة بهمزة الوصل والسين والتاء بمعنى (أفْعَل) وهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
_________
(١) انظر: المصدر السابق (٧/ ٢٥٩).
قالوا: فهي بمعنى: كأنكم. والتحقيق أن لفظة (لعَلَّ) تأتي في اللغة العربية مُرادًا بها التعليل، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (١):
فقُلتمُ لنا كُفُّوا الحُروبَ لعَلنَّا... نكُفُّ ووثَّقْتمُ لنا كُلَّ مَوْثقِ...
فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهودُكمُ كشِبْهِ سَرَابٍ بالفَلا مُتألِّقِ
فقوله: «كفوا الحروب لَعَلَّنَا نَكُف» أي: لأجل أن نكفّ عنكم.
وقوله: ﴿تُفْلَحُونَ﴾ هو مضارع (أفلح الرجل، يفلح، فهو مُفلح): إذا نال الفَلاَح. والفلاح يُطلق في لغة العرب إطلاقين معروفين مشهورين (٢):
أحدهما: تطلق العرب الفلاح بمعنى الفوز بالمطلوب الأكبر، فَكُلُّ مَنْ فَازَ بالمطلوب الذي كان يهتم به جدّاً، وهو مِنْ أَكْبَرِ مَطَالِبِه، تقول العرب: أفلح هذا. أي: فاز بما كان يطلب، وهذا معْنًى معروف في كلامها، ومنه قول لبيد بن ربيعة (٣):
فَاعْقِلي إِنْ كُنْتِ لمَّا تَعْقِلي ولَقَد أَفْلَحَ مَنْ كانَ عَقَلْ
أي: مَنْ رَزَقَهُ الله العقل ففاز بالمطلوب الأكبر في الدنيا.
الإطلاق الثاني: هو إطلاق العرب الفلاح على البقَاء السرمدي في النعيم، فالعرب تقول: أفلح هذا: إذا كان باقياً خالداً في نعيم سَرْمَدِيّ، وهذا المعنى معروف مشهور في كلام العرب أيضاً، ومنه
_________
(١) السابق.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٨) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon