وَثَبَتَ في الصحيحِ عن عائشةَ (رضي الله عنها) أن قريشًا كانوا يصومون (١) يومَ عاشوراءَ في الجاهليةِ، وأن النبيَّ - ﷺ - كان يصومُه (٢). ولا تَعَارُضَ بين الأحاديثِ؛ لأنه لا مانعَ من أن يكونَ النبيُّ - ﷺ - كان يصومُه لأن قريشًا في الجاهليةِ كانوا يَصُومُونَهُ. وَلَمَّا جاء تمادى على صومِه، ووجدَ اليهودَ يصومونَه، ولا مانعَ مِنْ كونِ الفعلِ الواحدِ أو النصِّ الواحدِ له سَبَبَانِ فأكثرَ (٣). وعلى كُلِّ حالٍ فَصَوْمُ يومِ عاشوراءَ وُجُوبُهُ منسوخٌ بإجماعِ العلماءِ (٤).
وقوله جل وعلا: ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ عَبَّرَ بالليالي لأنها قبلَ الأيامِ (٥) والمقررُ في فَنِّ العربيةِ أن التاريخَ بالليالي لأنها قبلَ الأيامِ (٦). فَلَمَّا
_________
(١) سئل الشيخ رحمه الله عن علة صيام عاشوراء في الجاهلية.
فأجاب الشيخ رحمه الله بقوله: «الله تعالى أعلم، ويمكن أن يكون قريش في الجاهلية تسرَّب إليهم صومه من بني إسرائيل؛ لأنه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون، والله تعالى أعلم». اهـ جواب الشيخ. وللاستزادة راجع: القرطبي (١/ ٣٩١)، الفتح (٤/ ٢٤٦).
(٢) البخاري في الصحيح، كتاب الحج، باب: قول الله تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ حديث رقم: (١٥٩٢)، (٣/ ٤٥٤)، وقد أخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم: (١٨٩٣)، (٢٠٠١)، (٢٠٠٢)، (٣٨٣١)، (٤٥٠٢)، (٤٥٠٤)، ومسلم في الصحيح، كتاب الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، حديث رقم: (١١٢٥)، (٢/ ٧٩٢).
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٣٩١)، الفتح (٤/ ٢٤٨).
(٤) انظر: التمهيد (٧/ ٢٠٣)، (٢٢/ ١٤٨).
(٥) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٦).
(٦) انظر: القرطبي (٧/ ٢٧٦)، البحر المحيط (١/ ١٩٩).
فهم يريدونَ التقربَ لِلَّهِ، بِأَنْ يَزْعُمُوا أن الخسائسَ كالسرقةِ والزنا والشركِ أنها بمشيئةِ العبادِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، زاعمينَ أن الله أنزهُ وأعظمُ وَأَجَلُّ من أن تكونَ هذه الرذائلُ بمشيئتِه.
وهذه الشبهةُ - التي هي شبهةُ الجبرِ والقدرِ - هي أعظمُ الشُّبَهِ التي في دِينِ الإسلامِ، وَكَثِيرٌ من ضعفاءِ العلمِ يصعبُ عليهم أن يَنْفَكُّوا عنها وَيَتَخَلَّصُوا منها، ونحنُ في هذه الدروسِ دائمًا نُبَيِّنُ كيفيةَ رَدِّ هذه الشُّبَهِ (١)، وخلوصُ مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ بَيْنَ مذهبِ القدريةِ والجبريةِ كخلوصِ اللبنِ مِنْ بَيْنِ الفرثِ والدمِ سَائِغًا خَالِصًا لِلشَّارِبِينَ.
ونقولُ مثلاً: لو أَرَادَ سُنِّيٌّ أن يُنَاظِرَ جَبْرِيًّا وقدريًّا متمسِّكينَ بمذهبِ القدريةِ والجبريةِ القدريِ [يزعم] (٢) أن أفعالَ العبدِ القبيحةَ بمشيئةِ العبدِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، ويزعمُ الجبريُّ أن الأفعالَ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، فليسَ للعبدِ فِعْلٌ. فلو قَالَ جَبْرِيٌّ مثلاً: هذه الأفعالُ الصادرةُ من الإنسانِ؛ كالإشراكِ والزنا والسرقةِ وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الرذائلِ، هي مكتوبةٌ عليه قبلَ أن يولدَ، قَدَّرَهَا اللَّهُ وَكَتَبَهَا في الأزلِ، وما قَدَّرَهُ اللَّهُ وكتبَه لا يمكنُ أن يتغيرَ!! يقولُ الْجَبْرِيُّ مثلاً: ما سَبَقَ في علمِ اللَّهِ من أن المشركَ يشركُ، وأن الزانيَ يَزْنِي، وأن السارقَ يسرقُ سَبَقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ، فلا يمكنُ أن يتغيرَ؛ لأن ما سَبَقَ في علمِ اللَّهِ لا يمكنُ أن يتغيرَ!! فَإِذَنْ يقولُ هذا الجاهلُ: إنه مجبورٌ ما دامَ الفعلُ كُتِبَ عليه قبلَ أن يولدَ، وَجَفَّتِ الأقلامُ وَطُوِيَتِ الصحفُ، فالواقعُ واقعٌ لاَ محالةَ، فيقولُ: هو مجبورٌ!!
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
(٢) في الأصل:


ووصْلاً، ومتعلَّق المصدر محذوف، والوزن للأعمال في الموازين كائن يوم القيامة ﴿يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ العدل الذي لا جور فيه، فلا يُزاد في سيئات مسيء، ولا ينقص من حسنات محسن.
﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي: بكثرة حسناته. جَمَعَ الموازين لأن (من) هنا بمعنى جماعة كثيرة، سواء قلنا: إنها شرطية، أو موصولة فإنها تعم، وهي لجماعة كثيرة، بدليل قوله: ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ولم يقل: (فذلك هو المفلح) بالإفراد، فإفراد الضمير في قوله: ﴿مَوَازِينُهُ﴾ والجمع في الإشارة والضمير في قوله: ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الأول بالنظر إلى لفظ (من).
والثاني: بالنظر إلى معناها (١). وقد قدمنا أن ظاهر الآيات تعدد الموازين، وأن كثيراً من العلماء قالوا: إنه ميزان واحد، وأُطلق عليه اسم الجمع تفخيماً له، والعرب تطلق الجمع وتريد المفرد كعكسه، كما يقولون: سار فلان إلى البصرة بالسفن، وهو في سفينة واحدة، وراح إلى الشام على البغال وهو راكب بغلة واحدة. وقال بعض العلماء: الموازين جمع موزون، والموزون هو الحسنات والسيئات. وجمع (الموزون) على موازين جمع قياسي مُطَّرِد، وعلى هذا فلا سؤال ولا إشكال (٢). وعلى أنه جمع (ميزان) فظاهر القرآن التعدد، كقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: آية ٤٧] أو أنه لفظ جمع أُطلق وأُريد المفرد نظراً لكثرة ما يُوزن فيه من الأعمال.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣١٥).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ١٦٦)، شرح الطحاوية ص٦٠٩، البحر المحيط (٤/ ٢٧٠)، الدر المصون (٥/ ٢٥٦).
رَبُّهُمْ} [آل عمران: آية ١٩٥] يعني: أجاب، ومما يدل عليه من كلام العرب قول سعد بن كعب الغنوي (١):
«فيقول القدري مثلا الزاعم ». فالكلام غير متلائم مع ما بعده.
وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى فلَم يَسْتجبه عند ذَاكَ مُجيبُ
فإنه جاء بـ (مجيب) التي هي اسم فاعل (أجاب) جاء بها فاعلاً لـ (استجاب)، فدل على أنه أطلق (استجاب) وأراد (أجاب) كما هو واضح.
معنى: ﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ أرهبوهم. والرهب: الخوف. يعني: خوفوا الناس خوفًا شديدًا. قال بعض العلماء: استرهبوهم: استدعوا رهبتهم وخوفهم بهذا السحر العظيم.
وفي هذه الآية من سورة الأعراف سؤال معروف: وهو أن يُقال: دلت آية الأعراف هذه على أن سحر سحرة فرعون من نوع الشعبذات والأخذ بالعيون حتى يتراءى للإنسان غير الواقع في الحقيقة؛ لأنه قال: ﴿أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ وصرح بما يدل على ذلك في قوله في طه: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: آية ٦٦] وهاتان الآيتان - آية طه وآية الأعراف - كلتاهما تدل على أن سحر سحرة فرعون من نوع الخيالات والشعبذات، ومع هذا وصفه الله بالعِظَم في قوله: ﴿بِسِحْرٍ عَظِيم﴾ هذا هو وجه السؤال؟
وللعلماء عنه جواب (٢): وهو أنه في الحقيقة تخييل وأخذ بالعيون حتى صار يَتَراءَى لها غير الواقع، وإنما وصفه بالعِظَم قالوا: لكثرة العصي والحبال وضخامتها. فهذا التخييل وإن كان تخييلاً خيل
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٦) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٢٥٩).
قول لبيد بن ربيعة أيضاً (١):
لو أنَّ حيّاً مُدْرِكَ الفَلاَحِ لنَالَهُ مُلاعِبُ الرِّمَاحِ
يعني بقوله: «مدرك الفلاح»، أي: مدرك البقاء بلا موت، ونظيره من كلام العرب: قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع، كما قيل بكل منهما (٢):
لكلِّ هَمٍّ من الهُمُوم سَعَهْ والمُُسْيُ والصُّبحُ لا فَلاحَ مَعَهْ
أي: لا بقاء في الدنيا مع تكرر اللَّيْلِ والنهار.
إذا عرفتم معنيي الفلاح فمن أطاع الله (جل وعلا) وذكره كثيراً نال الفلاح بمعنييه، ففاز بمطلوبه الأكبر وهو الجنة ورضا الله، ونال البقاء السرمدي الأبدي في نعيم الجنات.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الذين إذا لقوا فئة من فئات الكفار في ميدان القتال ولم يثبتوا أو لم يذكروا الله كثيراً، أنهم لا يفلحون. وهو كذلك؛ لأن النصر من الله. كما قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: الآية ١٠] قال في بدر: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ مع أنه أنزل ملائكة السماء ناصرين، يعني: لا تظنوا أن الملائكة ينصرونكم، الناصر هو الله وحده (جل وعلا)؛ ولذا قال: ﴿وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٤٥].
﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأنفال: الآية ٤٦] هذه التعاليم السماوية الكفيلة بالنصر والظفر وقمع القردة الكفرة وإيقافهم عند
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١١) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon