انتهى هذا الميعادُ أَنْزَلَ اللَّهُ (جل وعلا) عليه التوراةَ، وَكَتَبَهَا له في الألواحِ، كما يأتي تفصيلُه في سورةِ الأعرافِ.
وقولُه: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ قرأه بعضُ السبعةِ: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ وقرأه بعضُهم: ﴿ثم اتخذتم العجل من بعده﴾ بالإدغام (١).
وأصلُ (الاتخاذِ) على التحقيقِ عندَ علماءِ العربيةِ: افتعالٌ من الأخذِ، أصلُه (اأتخاذ) (٢)، وإبدالُ الهمزةِ تاءً يُحْفَظُ ولا يقاسُ عليه، وإنما المقيسُ إبدالُ فاءِ المثالِ، أعني واويَّ الفاءِ، أو يائيَّ الفاءِ، كالاتجاهِ، والاتسارِ، إبدالُ الواوِ فيه تاءً، أما إبدالُ الهمزةِ تاءً فهو شاذٌّ يُحْفَظُ ولا يقاسُ عليه، كَاتَّكَلَ، وَاتَّزَرَ، وَاتَّخَذَ، بناءً على الصحيحِ أنها (افْتَعَل) من الأخذِ. وأصلُ العِجْلِ: وَلَدُ البقرةِ، وَيُجْمَعُ على (عَجَاجِيلَ، عَجَاجِلَ) على غيرِ قياسٍ، كما عَقَدَ مثلَه في الخلاصةِ بقولِه (٣):

وَحَائِدٌ عَنِ الْقِيَاسِ كُلُّ مَا خَالَفَ فِي الْبَابَيْنِ حُكْمًا رُسِمَا
وهذا العِجْلُ هو العجلُ الذي صَاغَهُ لهم السامريُّ من حُلِيِّ القبطِ المذكورِ في قولِه: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ﴾ [الأعراف: آية ١٤٨]، وبيَّنَهُ في سورةِ طه بقولِه: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي
_________
(١) أي تُقرأ هكذا: (اتَّخَتُّم)، انظر: الإقناع في القراءات السبع (١/ ٢٦٥)، النشر (٢/ ١٥).
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٦ - ٣٩٧)، الدر المصون (١/ ٣٥٤ - ٣٥٥).
(٣) الخلاصة ص٦٨، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ٤٦٥)، وراجع اللسان (مادة: عجل) (٢/ ٦٩٦)، القاموس (مادة: العجل) ص١٣٣١.
فيجيبُ السُّنِّيُّ مثلاً فيقولُ: كُلُّ الأسبابِ التي هَدَى اللَّهُ بها المهتدين أَعْطَاكَهَا، فالأبصارُ التي أَبْصَرُوا بها آياتِ الله أَعْطَاكَ بَصَرًا مثلَها، والأسماعُ التي سَمِعُوا بِهَا آياتِ اللَّهِ فاهتدوا أَعْطَاكَ سَمْعًا مثلَها، والقلوبُ التي فَهِمُوا بها عِظَمَ اللَّهِ وأدلتَه وبراهينَه فَاهْتَدَوْا أَعْطَاكَ عَقْلاً مثلَها، والرسلُ التي نَصَحَتْهُمْ وَبَيَّنَتْ لهم، وَاهْتَدَوْا بهديها أَرْسَلَهَا إليكَ كما أَرْسَلَهَا لهم، فجميعُ الأسبابِ التي اهْتَدَى بها المهتدونَ أَعْطَاكَهَا، ولم يَبْقَ فرقٌ بَيْنَكَ أيها الضالُّ وبينَ الْمُهْتَدِي إلا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عليه بتوفيقِه، ولم يَتَفَضَّلْ عليكَ بتوفيقِه،
وَيُوَضِّحُ هذا المقامَ: مناظرةُ أَبِي إسحاقَ الإسفرائينيِّ وعبدِ الجبارِ الْمُعْتَزِلِيِّ (١). وذلك أن عبدَ الجبارِ جاءَ إلى أبي إسحاقَ مُتَقَرِّبًا بمذهبِ القدريةِ فقال: سبحانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفحشاءِ!! يعنِي أن السرقةَ والزنا والإشراكَ لَيْسَتْ بمشيئتِه، وأنه يتنزهُ عن أن يشاءَ هذا.
فقال أبو إسحاقَ: كلمةُ حَقٍّ أُرِيدَ بها بَاطِلٌ!! ثم قال: سبحانَ مَنْ لاَ يَقَعُ في مُلْكِهِ إِلاَّ ما يَشَاءُ.
فقال عبدُ الجبارِ: أَتُرَاهُ يشاؤُه وَيُعَاقِبُنِي عليه؟
فقال أبو إسحاقَ: أَتُرَاكَ تشاؤُه جَبْرًا عليه، أأنتَ الربُّ وهو العبدُ؟
فقال عبدُ الجبارِ: أرأيتَ إن دَعَانِي إلى الْهُدَى وَسَدِّ البابِ دُونِي، دَعَانِي ولم يُسَهِّلْ لِي طريقَ الخروجِ، تراه أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من هذه السورة.
﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ [الأعراف: آية ٨] أي: كانت حسناته أكثر، ولا يهلك على الله إلا هالك؛ لأن الحسنة الواحدة توضع في الميزان بعشر حسنات، والسيئة توضع في الكفة الأخرى سيئة واحدة وإن شاء الله غفرها، فمن غلبت آحاده عشراته فلا خير فيه!! وربما كانت الحسنة توضع بسبعمائة حسنة، فدرهم الإنفاق يوضع بالميزان حسنته بسبعمائة ضعف، كما قال جل وعلا: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ ثم بين أن المضاعفة قد تزيد قال: ﴿وَالله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ﴾ [البقرة: آية ٢٦١] وقوله: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: آية ٢٤٥] فالأضعاف الكثيرة أكثر من عشرة، فالله (جل وعلا) كريم لا يهلك عليه إلا هالك، فالحسنة أقل درجاتها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، والسيئة إما أن يغفرها، وإن لم يغفرها وُضعت في الميزان سيئة واحدة [فعلينا أن نُحاسِب] (١) وأن نكثر من الحسنات، ونتجافى عن السيئات، ونخشى من خالق السماوات والأرض، فمن أكثر السيئات في دار الدنيا، وأقل الحسنات فإنما يهلك نفسه بيده؛ لأنه إذا حضر الوزن، ورأى كثرة السيئات، وقلة الحسنات، والفضيحة، والجرّ بالنواصي والأقدام إلى النار ندم في ذلك الوقت حيث لا ينفع الندم، فعلينا جميعاً أيها الإخوان المسلمون أن ننتهز الفرصة وقت الإمكان، وأن لا نُضيعها لئلا نندم حيث لا ينفع الندم؛ لأن الفرصة إذا فاتت بالموت انتهى كل شيء، والله يقول: ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ كيف يتناولون
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
للناس هذا العدد الضخم الكبير من هذه الحيات العظام الكبار كأنها جبال يركب بعضها بعضًا، فصار بهذا المنظر الهائل مع التخييل وكثرته كأنه عظيم، وصار في نفس الأمر أخذًا بالعيون وتخييلاً، وفي هذا يزول الإشكال بين الآيات، وهذا معنى قوله: ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ أي: أخافوهم. والرهب: الخوف. أرهبه: أخافه. والإرهاب: التخويف ﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ أرهبوهم، أي: أخافوهم. فجاءوا بسحر عظيم؛ لكثرة تلك الحبال والعصي وضخامتها وكبرها، وكون بعضها يركب بعضًا حتى امتلأ الوادي بالحيات العظام والأفاعي، حتى خاف جميع الناس، وهذا معنى قوله: ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: آية ١١٦].
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (١١٩)﴾ [الأعراف: الآيات ١١٧ - ١١٩].
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧)﴾.
في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات (١): قرأه جمهور القراء غير حفص عن عاصم والبزي عن ابن كثير: ﴿فإذا هي تَلَقَّفُ ما يأفكون﴾ وقرأه البزي وحده عن ابن كثير: ﴿فإذا هي تَّلَقَّفُ ما يأفكون﴾ بتشديد التاء بإدغام إحدى التاءين في الأخرى؛ لأن أصله: (تتلقف) وقرأه حفص عن عاصم: ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ مضارع لقِفه بكسر القاف يلقَفه بفتحها. فَتَحَصَّل أن قراءة الجمهور:
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٣، حجة القراءات ص٢٩٢.
حدهم ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ﴾ فيما يأمركم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأطيعوا رسوله ﷺ فيما يبلّغكم عن ربكم ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣ - ٤].
والياء في قوله: ﴿أَطِيعُواْ﴾ الياء التي بين الطاء والعين أصلها (واو) لأن المادة من (الطَّوع) فهو أجوف واوي العين، أصلها: «أَطْوِعُوا» من «الطَّوع» لا يائي من (الطَّيْع) (١).
ومعنى إطاعة الله: هي الانقياد لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، في النيات والأفعال وكل شيء، وهذا معنى: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾.
﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ﴾ أصله: لا تتنازعوا، لا ينازع بعضكم بعضاً وتختلفوا؛ لأن الناس غالباً تختلف نحلُهُم ووجهات نظرهم. يعني: إذا اختلفت وجهات نظركم لا تتنازعوا وكل منكم ينصر ما رآه فيخالف أخاه، بل كونوا متفقين دائمًا؛ لأن الله (جل وعلا) شرع لكم طريقة تتفقون عليها وهي اقتفاء نبيكم ﷺ والسير في ضوء الكتاب الذي أنزله عليه والسنة التي تركها صلى الله عليه وسلم. وما دام هو ﷺ موجوداً بين أظهرهم فمعلوم أن المصير إلى ما يقوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ﴾ فإنه نهاهم عن النزاع؛ لأن التنازع أكبر أسباب الفشل.
والتنازع غالبا يكون بسبب الأغراض الشخصية، وتقديم الأغراض الشخصية الدنيوية على المصالح العامة، فهذه البلية سوسة في الدنيا، وهي أضَرّ أدْوَاء هذا العالم، وهي تقديم المصالح
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٤٢١، ٤٢٢.


الصفحة التالية
Icon