نَفْسِي} [طه: آية ٩٦] وَحَذَفَ مفعولَ الاتخاذِ الثانيَّ، وهو محذوفٌ في جميعِ القرآنِ، وتقريرُ المعنى: ثم اتخذتم العجلَ من بعده، أي: من بعدِ موسى لَمَّا ذَهَبَ إلى الميقاتِ، أي: اتخذتم العجلَ إِلَهًا. وهذا المفعولُ الثاني محذوفٌ في جميعِ القرآنِ ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: آية ٥٤] أي: إِلَهًا. ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا﴾ [الأعراف: آية ٥٤]، أي: إلها. فهذا المفعولُ الثاني الذي تقديرُه (إلهًا) محذوفٌ في جميعِ القرآنِ (١).
قال بعضُ العلماءِ: النكتةُ في حذفِه التنبيهُ على أنه لا ينبغي لعاقلٍ أن يتلفظَ بأن عِجْلاً مُصْطَنَعًا من حُلِيٍّ أنه إِلَهٌ (٢).
وقولُه: ﴿وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ﴾ جملةٌ حاليةٌ (٣)، يعني: اتَّخَذْتُمُ العجلَ والحالُ أنتم ظالمونَ باتخاذكم العجلَ إِلَهًا. وأصلُ الظلمِ في لغةِ العربِ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ محله، فَكُلُّ مَنْ وَضَعَ شيئًا في غير محله فقد ظَلَمَ في لغةِ العربِ (٤). وأكبرُ أنواعِ الظلمِ - أي وضع الشيءِ في غيرِ محله - وضعُ العبادةِ في غيرِ مَنْ خَلَقَ، فَمَنْ عَبَدَ غيرَ خالقِ السماواتِ والأرضِ فقد وَضَعَ العبادةَ في غيرِ مَوْضِعِهَا؛ ولذا هو ظالمٌ لغةً؛ ولأجلِ هذا البيانِ فإن القرآنَ يُكْثِرُ اللَّهُ جل وعلا فيه إطلاقَ الظلمِ على الشركِ، كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ
_________
(١) انظر: الأضواء (١/ ٧٨).
(٢) انظر: الأضواء (١/ ١٧).
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٧).
(٤) انظر: ابن جرير (١/ ٥٢٣)، المفردات (مادة: ظلم) ص٥٣٧، القرطبي (١/ ٣٠٩ - ٣١٠).
فقال أبو إسحاقَ: إن كان هذا الذي مَنَعَكَ حَقًّا وَاجِبًا لكَ عليه فقد ظَلَمَكَ وقد أساءَ - سبحانَه عن ذلك - وإن كان مُلْكُهُ الْمَحْضُ فإن أعطاكَ فَفَضْلٌ، وإن مَنَعَكَ فَعَدْلٌ.
فَبُهِتَ عبدُ الجبارِ، وقال الحاضرونَ: واللَّهِ ما لهذا جوابٌ.
وهذا مفهومٌ من قولِه في هذه السورةِ الكريمةِ: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)﴾ [الأنعام: آية ١٤٩] مُلْكُهُ التوفيقُ يتفضلُ به على مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُهُ مِمَّنْ يشاءُ. هو حجتُه البالغةُ على خَلْقِهِ؛ لأَنَّ المالكَ إذا تَفَضَّلَ فَأَعْطَى فَفَضْلٌ منه، وإذا مَنَعَ فَعَدْلٌ منه؛ وَلِذَا قال: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)﴾.
وَذَكَرُوا عن عمرِو بنِ عبيدٍ، كبيرِ المعتزلةِ مع قوتِه وذكائِه ومعرفتِه أنه جَاءَهُ بَدَوِيٌّ وقال له: كُنْتُ أعملُ على دَابَّتِي فسرقها اللصوصُ، فَادْعُ اللَّهَ أن يَرُدَّهَا عَلَيَّ. فقام عمرُو بنُ عبيدٍ يتقربُ بهذا المذهبِ الباطلِ، فقال: اللَّهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا؛ لأنكَ أكرمُ وأجلُّ وأنزهُ من أن تريدَ السرقةَ. فقال له ذلك البدويُّ: نَاشَدْتُك اللَّهَ يَا هذا إلا ما كَفَفْتَ عني من دعائِك الخبيثِ. إن كانت قد سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلاَ تُرَدُّ (١).
فالحاصلُ أنه لا يقعُ في الكونِ شَيْءٌ كائنًا ما كانَ إلا بمشيئةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، وأنه لا جَبْرَ ولا قَدَرَ. وأن اللَّهَ تباركَ وتعالى قَدَّرَ في سابقِ أَزَلِهِ أن يخلقَ قَوْمًا مَجْبُولِينَ على الخيرِ والفضلِ، ويوفقهم إلى ما يُرْضِيهِ؛ لتظهرَ فيهم أسرارُ أسمائِه
_________
(١) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام، وسيأتي في مواضع متعددة في هذا التفسير.
العمل الصالح وقد مضى أوانه بالموت، وهذا معنى قوله: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي: ثقلت كفة الحسنات بكثرة الحسنات، وطاشت كفة السيئات؛ لأنها صارت أرجح منها كفة الحسنات.
﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الجمع في قوله: ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ﴾ نظراً إلى معنى (من) (١)، وإفراد الضمير في (موازينه) عائد إلى لفظ (من)، ولفظها مفرد ومعناها جمع.
و (المفلحون) جمع تصحيح للمفلح، والمفلح: هو اسم فاعل أفلح يُفلح فهو مُفلح. وأصل الفلاح في لغة العرب: اسم مصدر بمعنى الإفلاح؛ لأن مصدر (أفلح) القياسي أن يقال: إفلاحاً؛ لأن (أفْعَل) إذا كانت صحيحة العين ينقاس مصدرها على (الإفعال) بقياس مطرد. فالفلاح اسم مصدر نائب عن (الإفعال).
والفلاح في لغة العرب يُطلق إطلاقين مشهورين، وكل منهما يدخل في الآية الكريمة (٢):
الأول من إطلاقي الفلاح: أن العرب تقول: (أفلح فلان) إذا فاز بمطلوبه الأكبر، فكل إنسان كان يحاول مطلوباً أعظم ثم ظفر به وفاز بما كان يرجو فهذا قد أفلح، ومنه قول لبيد بن ربيعة (٣):

اعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلي وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣١٥).
(٢) انظر: المفردات (مادة: فلح) ص٦٤٤، اللسان (مادة: فلح) (٢/ ١١٢٥)، الأضواء (٦/ ٢٠٤).
(٣) البيت في ابن جرير (١/ ٢٥٠).
﴿تَلَقَّف ما يأفكون﴾ [الاعراف: آيه ١١٧] وهو مضارع (تَلَقَّفَه يَتَلَقَّفه) إذا ابتلعه بسرعة هائلة. والمعنى: كل من التقم شيئًا بسرعة تقول العرب: «تَلَقَّفَه ولَقِفَه». فقراءة الجمهور حُذف فيها إحدى التاءين، أصلها: فإذا هي تتلقف ما يأفكون، أي: تبتلعه وتلتقمه بسرعة، وعلى قراءة البزي فأصله: فإذا هي تَّلَقَّف ما يأفكون. في الصلة خاصة، فهي واضحة؛ لأن (تفعّل) و (تفاعل) يجوز فيها الإدغام. واستجلاب همزة الوصل، وهو كثير، كاطّيرنا بمعنى: تطير، وازيّنت بمعنى: تزين، وادّارك بمعنى: تدارك، وهو كثير، ومن أمثلته في الماضي في كلام العرب قول الشاعر (١):
تُولي الضجيعَ إذا ما الْتَذَّهَا خَصِرًا عَذْبَ المَذَاقِ إذا ما اتَّابَعَ القُبَلُ
يعني: تتابع القُبل. وهذا لا إشكال فيه.
أما على قراءة حفص عن عاصم: ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ فهو مضارع لقفه يلقفه إذا ابتلعه بسرعة. فمعنى القراءتين واحد.
ومعنى: ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الأعراف: آية ١١٧] يأفكون: مضارع أفكه يأفكه بالكسر، وأصل المادة الهمز والفاء والكاف (أَفَكَ) معناه: قَلْبُ الشيء وصرفه، فالأَفْك قلب الشيء وصرفه؛ ولذا سُمي الكذب إفكًا لأنه قلب للكلام وصرف له عن حقيقته الواقعة إلى الكذب والباطل، ومن أجل هذا سُميت قرى قوم لوط: (المؤتفكات)، سمَّاها الله: (المؤتفكات) وسماها: (المؤتفكة) في قوله: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣)﴾ [النجم: آية ٥٣] وإنما سماها: (مؤتفكة) لأن جبريل عليه السلام أَفَكَها بإذن الله. أي: قلبها، ومعنى
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة.
الشخصية على المصالح العامة، وقد نزلت بسببها بليّة يتضمنها إشكال أزاله الله بفتوى سماوية من عنده؛ لأن الله (جل وعلا) ربما سَلَّطَ بعض الكفار على بعض المسلمين، وهي مشكلة واقعة الآن، يقول هؤلاء الشباب -الذين هم خفافيش أعماهم نور الإسلام، فصاروا يتطلبون النور في ظلام آراء الكفرة الفجرة- يقولون: كيف نكون على الحق وديننا دين حق ونحن مستضعفون مضطهدون في أقطار الدنيا، والكفار الذين تقولون: إنهم على باطل وليسوا على حق هم الذين معهم القوة والسيطرة، يبتزّون ثَرَوَاتِنا، ويضطهدوننا في أقطار الدنيا؟! وهذه المشكلة إنما يسببها التنازع والفَشَل، والأغراض الشخصية، وتقديمها على المصالح العامة. وهذا الإشكال بعينه قد اسْتَشْكَلَهُ أصْحَاب رَسُول الله ﷺ والنبي ﷺ موجود بين أظْهُرِهِمْ، والمَلَك يروح ويغدو بالوحي، فأفتى الله فيه فتوى سماوية هي قرآن يُتْلَى في سورة آل عمران، وذلك أن النبي ﷺ يَوْمَ أحُد لما صفَّ الصفوف، والتحم القتال بين المسلمين والمشركين، وكان المسلمون سبعمائة مقاتل، والمشركون ثلاثة آلاف مقاتل، أخذ عبد الله بن جبير -أخا خوّات بن جبير- (رضي الله عنهم) وأمّره على طائفة الرماة، وقال له: «كُونُوا عِنْدَ سَفْحِ هَذَا الجَبَلِ -يعني جبل أُحد- وَلاَ تَأْتُونَا أَبَداً، إِنْ غَلَبَنَا الْقَوْمُ فَلاَ تَأْتُونَا، وَإِنْ غَلَبْنَاهُمْ فَلاَ تَأْتُونَا» (١)،
وأمرهم بأن يثبتوا عِنْدَ سَفْحِ الجَبَلِ لِئَلاّ يأتيهم القوم من الوراء من بينهم وبين
_________
(١) البخاري في الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، حديث رقم: (٣٠٣٩) (٦/ ١٦٢)، وأطرافه في (٣٠٤٣، ٣٩٨٦، ٤٠٦٧، ٤٥٦١)..


الصفحة التالية
Icon