الجميعِ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ الآية [فاطر: آية ٣٣]، لأن هذا أَطَاعَ الشيطانَ وعصى رَبَّهُ فقد وَضَعَ الطاعةَ في غيرِ مَوْضِعِهَا، كما قال تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ [الكهف: آية ٥٠].
وقوله: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: آية ٥٢] (عَفَوْنَا) أصلُه من (العفو)، من عَفَت الريحُ الأَثَرَ، إذا طَمَسَتْهُ. فالعفوُ - مثلاً - هو: طَمْسُ اللَّهِ أثرَ الذنبِ بِتَجَاوُزِهِ حتى لا يبقى له أثرٌ يتضررُ به العبدُ (١). والإشارةُ في قولِه: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى اتخاذِهم العجلَ إِلَهًا، وهو ذلك الذنبُ العظيمُ، وأشار إليه إشارةَ البعيدِ؛ لأن مثلَ ذلك الفعلِ يجبُ أن يُتَبَاعَدَ منه تَبَاعُدًا كُلِّيًّا.
وقولُه: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ قال بعضُ العلماءِ: يغلبُ إتيانِ (لعلَّ) في القرآنِ مُشَمَّةً معنى التعليلِ، إلا التي في الشعراءِ: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ (٢) [الشعراء: آية ١٢٩] وإتيانُ (لَعَلَّ) حرفَ تعليلٍ مسموعٌ في كلامِ العربِ، ومن إتيانِ (لَعَلَّ) للتعليلِ قولُ الشاعرِ (٣):
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كانَتْ عُهُودُكُمْ... كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلاَ مُتَأَلِّقِ
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٧)، الدر المصون (١/ ٣٥٦).
(٢) انظر: البرهان للزركشي (٤/ ٥٧)، الإتقان (٢/ ٢٣٣)، فتح الباري (٨/ ٤٩٨)، أضواء البيان (٢/ ٤١٤) (٦/ ٢٠٤)، الدر المصون (١/ ١٨٩).
(٣) انظر: ابن جرير (١/ ٣٦٤)، القرطبي (١/ ٢٢٧)، الدر المصون (١/ ١٨٩) والمثبت في هذه المصادر: «كَلَمْعِ سراب في المَلا... ».
مَا جعلتُك حفيظًا عليهم، حافظًا تَحْفَظُهُمْ من الوقوعِ في الشرِّ، وَتُيَسِّرُهُمْ إلى الخيرِ، ولا جَعَلْتُكَ وكيلاً عليهم تحاسبُهم بأعمالِهم وَتُجَازِيهِمْ، بل أنا الذي أُوَفِّقُ مَنْ شئتُ، وَأُضِلُّ مَنْ شِئْتُ، وَأُحْصِي عليهم أعمالَهم فَأُجَازِيهِمْ عليها، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾ [الغاشية: الآيتان ٢١، ٢٢] وكقولِه: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد: آية ٤٠]. والمعنَى: كأنه يقولُ له: لستَ مُوَكَّلاً بأعمالِهم، ولا حَافِظًا لهم تُوَفِّقُهُمْ، حِفْظُهُمْ وَمُحَاسَبَتُهُمْ على اللَّهِ، وإنما أنتَ نذيرٌ، وقد قمتَ بوظيفتِك، وَبَلَّغْتَ، فَأَرِحْ نفسَك ولاَ تَحْزَنْ، كما قال له: ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧)﴾ [النحل: آية ١٢٧].
وقد تَقَدَّمَ في هذه السورةِ الكريمةِ قولُه: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ إلى أن قال: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ أي: فتقهرهم بها على الإيمانِ فَافْعَلْ. ثم قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥)﴾ [الأنعام: الآيات ٣٣ - ٣٥]. وقال له: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)﴾ [الشعراء: آية ٣] ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾ [الكهف: آية ٦] ومعنَى ﴿بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ أي: مُهْلِكُهَا من الحزنِ عليهم؛ ولذا قال له هنا: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)﴾ [الأنعام: آية ١٠٧].
﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)﴾ [الأنعام: آية ١٠٨].
﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ لَمَّا
وجودها إلى العدم فمعلوم أنه خسرها؛ ولذا قال: ﴿خَسِرُواْ أَنفُسَهُم﴾ [الأعراف: آية ٩] وأصل الخسران في لغة العرب: هو نقصان مال التاجر، سواء كان نقصاً في ربح المال، أو نقصاً في رأس المال (١).
والخسران في اصطلاح الشرع: هو غبن الإنسان في حظوظه من ربه (جل وعلا)؛ لأن الإنسان إذا غُبن في حظوظه من ربه (جل وعلا) فقد خَسِرَ الخُسْرَان المبين، وقد أقسم الله (جل وعلا) - وهو أصدق من يقول - في سورة كريمة من كتابه - وكل سورة منه كريمة- ألا وهي (سورة العصر) أن الخسران لا ينجو منه إنسان كائناً ما كان إلا بأعمال معينة مبينة، وذلك في قوله: ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)﴾ ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ﴾ معناه: إن كل إنسان كائناً من كان ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾ [العصر: الآيات ١ - ٣] فهذا الخسران لا يُنجي منه شيء أبداً كما أقسم عليه رب السماوات والأرض إلا الإيمان والأعمال الصالحات، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، هذا الذي يُنجي من الخسران.
وقَدْ بَيَّنَّا في هذه الدروس مِرَاراً أن العلماء ضَرَبوا لهذا الخسران مثلين:
أحد ذينك المثلين: أن كل إنسان كائناً من كان أعطاه الله في دار الدنيا رأس مال، ورأس مال الإنسان هو جواهر نفيسة، وأعلاق عظيمة لا يماثلها شيء من الدنيا، فهي أعظم من كل اليواقيت، وأعظم من كل الجواهر، ولا يماثلها شيء في الدنيا أبداً. هذه
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: خسر) ص٢٨١.
ومن هنا تعلم أنه قد يكون الشيء الخسيس الحقير وفيه بعض النفع كما قالوا:
(.... ) (١) لأن علم السحر -قبَّحه الله- من أخسّ العلوم وأقبحها، وقد صرح الله (جل وعلا) في المحكم المنزل في سورة البقرة أن تعلمه يضر ولا ينفع، فهو ضرر محض لا نفع فيه كما قال تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ ولكن الله قد نفع هؤلاء القوم بهذا العلم الخسيس الخبيث، فتبين أن قوله: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ [البقرة: آية ١٠٢] من جميع الحيثيات غير هذه الحيثية وهو انتفاعهم به أنهم كانوا عالمين بالسحر عارفين بحدوده التي ينتهي إليها، فلما جاءت العصا والتقمت جميع الحبال والعصي ولم يجدوا حبلاً ولا عصا عرفوا أن هذا من الله؛ لأنهم يعرفون السحر ويعرفون مدى تأثيره، فمعرفتهم بالسحر كانت نفعًا لهم بأن عرفوا أن العصا ليست من جنس السحر، فلو كانوا جاهلين بالسحر لظنوا أن عصا موسى من جنس السحر والشعوذة، وهم لما عرفوا السحر تمامًا عرفوا أن البرهان خارج عن طور السحر، وأنه لا يدخل فيه، وأنه أمر إلهي؛ ولذا ذُكر عنهم أنهم قالوا: لو كانت العصا من جنس السحر لوجدنا حبالنا وعصينا، فما انعدمت حبالنا وعصينا من أصلها إلا ببرهان من السماء. قيل: وقد قالوا لفرعون: إن كان هذا من سحر أهل الأرض فثق بأنا نغلبه، والذي لا طاقة لنا به هو شيء يأتي من السماء، فإن كان عنده شيء يأتي من السماء فلا طاقة لنا به، فلما كان من أمر العصا ما كان علموا أنه من السماء وأنه مِنْ أَمْرِ اللهِ فآمنوا هذا الإيمان العظيم؛ ولذا قال الله عنهم:
_________
(١) في هذا الموضع كلام غير واضح.
ويستولي عليكم الخور (١) ﴿فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ الإنسان إذا كان في عمل يديره ليُحَصِّلَ ورَاءَهُ نتيجة فإن تم له عمله ووقع ما أراد قالت العرب: نجح في أمره. وإن كان عكس ذلك قالوا: فشل في أمره، لم ينجح. وقال بعض العلماء: ﴿فَتَفْشَلُواْ﴾ يستولي عليكم الضعف والخور؛ لأن النزاع من أكبر أسباب الضعف والخور وعدم انتظام الكَلِمَة، وهذا النِّزَاع والاختلاف هو مشكلة عُظْمَى في أقطار الأرض؛ لأن من يَتَسَمَّوْن باسم المسلمين ينازع بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاً، وقد بَيَّنَ تَعَالَى في سورة الحشر أن اختلاف القلوب، والمنازعات الشديدة، وتشتُّت الآراء والأفكار، وعدم الاتحاد، أن سبب هذا الذي يجتلبه به إنما هو ذهاب العقل وعدم العقل؛ لأن العاقل لا يتسبب في المخالفة؛ لأنك إذا اختلفت أنت وأخوك كان تدبيره وكُلّ ما عنده من قوة يعمل ضدك، فإذا كنت عاقلاً -ولو عقلاً دنيويّاً- كان تسببك في أن يكون معك؛ لأن كون قوته وما أعطاه الله في صالحك خير لك من أن يكون في غير ذلك؛ ولذا بيّن تعالى أن سبب اختلاف القلوب هو ضعف العقول وعدمها، قال في قوم -وهم اليهود لعنهم الله- ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: الآية ١٤] أي: مختلفة مفترقة، فرق متعادية مختلفة. ثم بَيَّنَ العِلَّةَ التي أوجبت تشتت تلك القلوب قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ وقد تَقَرَّرَ في علم الأصول أن العلل تعمّم معلولاتها وتخصصها كما هو معلوم في محله (٢). وهذا معنى قوله: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٦] الفاء
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٧٥).
(٢) انظر: نثر الورود (٢/ ٤٧٣).


الصفحة التالية
Icon