فهذه لَيْسَتْ لِلتَّرَجِّي بَتَاتًا؛ لأنه قال: «ووثقتم لنا كُلَّ موثق». وقوله: «ووثقتم لنا كل موثق» دَلَّ على أن المرادَ: فقلتُم لنا كفُّوا الحروبَ لأجلِ أن نَكُفَّ، ووثقتم لنا كُلَّ مَوْثِقِ في وعدكم بالكفِّ المعلَّل بِكَفِّنَا. هذا هو التحقيقُ.
وقال بعضُ العلماءِ (١): المرادُ بـ (لعل) يعني: افْعَلُوا ما أَمَرْنَاكُمْ به مُتَرَجِّينَ أن يقعَ ما بعدَ لَعَلَّ، وتقريرُه في هذا المعنى: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ﴾. وذلك العفوُ ينبغي - مثلاً - أن تَتَرَجَّوْا، وذلك العفوُ الذي عَفَوْنَا عنكم يُرْجَى من مثلكم فيه أن تشكروا ذلك العفوَ. فتكونُ لِلتَّرَجِّي على بَابِهَا. والأولُ لا يُنَافِي الثاني؛ لأنا لو قلنا: إنها للتعليلِ، فَالْمُعَلَّلُ مَرْجُوُّ الحصولِ عندَ وجودِ عِلَّتِهِ.
وأصلُ (الشكرِ) في لغةِ العربِ: الظهورُ، ومنه (الشَّكِيرُ) وهو العُسْلُوجُ الذي يَظْهَرُ في جذعِ الشجرةِ التي قُطِعَتْ إذا أصابها الماءُ فظهرَ فيها عُسْلُوجٌ يُسَمَّى شَكِيرًا؛ لأنه ظَهَرَ بعدَ أن لم يكن، ومنه: (نَاقَةٌ شَكُورٌ) يظهرُ عليها أَثَرُ السِّمَنِ (٢).
والشكرُ يطلقُ في القرآنِ من اللَّهِ لِعَبْدِهِ، ومن العبدِ لِرَبِّهِ، فَمِنْ إطلاقِ شكرِ الربِّ لعبدِه قولُه جل وعلا: ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: آية ٣٤] ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: آية ١٥٨].
_________
(١) القرطبي (١/ ٢٢٧).
(٢) انظر: اللسان (مادة: شكر) (٢/ ٣٤٤ - ٣٤٥)، المفردات (مادة: شكر) ص٤٦١، المصباح المنير (مادة: شكر) ص١٢٢.
أنزلَ اللَّهُ قولَه تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)﴾ [الأنبياء: آية ٩٨] اجتمعَ رؤساءُ قريشٍ من كفارِ مكةَ إلى أَبِي طالبٍ في آخِرِ أيامِ حياتِه وقالوا له: إن ابنَ أخيكَ يعيبُ آلهتَنا ويذمها. والله لَتَنْهَيَنَّ ابنَ أخيكَ عن سبِّ آلهتِنا أو لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَهُ الذي أَمَرَهُ بهذا. فأنزلَ اللَّهُ: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (١).
وَقَالَ بعضُ العلماءِ: كانَ المؤمنونَ يَسُبُّون الأصنامَ بأنها أجرامٌ لاَ تنفعُ ولاَ تَضُرُّ ولاَ تسمعُ ولا تُبْصِرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نهيَهم عن ذلك لئلاَّ يتذرعَ به المشركونَ فينتقمونَ منهم فَيَسُبُّونَ رَبَّهُمْ؛ وَلِذَا قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ السبُّ معناه: الذمُّ والثَّلبُ بذكرِ المساوئِ التي لا تَلِيقُ. والعربُ تقولُ: سَبَّهُ يَسُبُّهُ، وَتَسَابَّا
_________
(١) المعروف أنه لمَّانزلت آية الأنبياء: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ... ﴾ الآية قال المشركون: فإن عيسى وعزيرًا والشمس والقمر يعبدان!! فنزل قوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١)﴾ وقوله في سورة الزخرف ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧)﴾.
انظر أسباب النزول للواحدي ص ٣٠٥، تفسير ابن كثير (٣/ ١٩٧)، أسباب النزول للسيوطي ص ١٨٤، الدر المنثور (٤/ ٣٣٩).
أما آية الأنعام فإن سبب نزولها ما سيذكره الشيخ من أن المؤمنين كانوا يسبون آلهة المشركين، وفي بعض الروايات: القصة المشار إليها في ذهابهم إلى أبي طالب، لكن لا تعلق لذلك كله بآية الأنبياء، اللهم إلا ما ذكره أبو حيان في البحر (٤/ ١٩٩) بقوله: «وقيل: قالوا ذلك عند نزول قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ... ﴾» ا. هـ. هكذا ذكره من غير سند، ولم يعزه لقائل معين. والله أعلم. انظر: ابن جرير (١٢/ ٣٣ - ٣٥)، الواحدي في أسباب النزول ص ٢٢١ - ٢٢٢، تفسير ابن كثير (٢/ ١٦٤)، أسباب النزول للسيوطي ص١٢٠، الدر المنثور (٣/ ٣٨).
الجواهر التي هي رأس ماله هي ساعات عمره، أيام عمره وشُهُوره ولياليه وأعوامه، فهذا رأس مال الإنسان. فاعلم أيها الإنسان أن عمرك هو رأس مالك (١):

إِذَا كَانَ رَأْسُ المَالِ عُمْرَكَ فَاحْتَرِزْ عَلَيْهِ مِنَ الإنْفَاقِ في غَيْرِ وَاجِبِ
فإن كان صاحب رأس هذا المال رجلاً متقدماً حقيقة لَبِقاً عارفاً حاذقاً اتَّجَرَ مَعَ رَبِّه برأس هذا المال، فنظر ساعات العمر، فكل وقت منها يتوجه فيه أمر من خالق السماوات والأرض، كأوقات الصلوات، وأوقات الصوم، والعبادات المؤقتة، يبادر إلى مرضاة خالقه، فيتَّجر مع خالقه (جل وعلا) ويُحرِّك رأس المال مع خَيْر من يتجر معه، وهو رب السماوات والأرض (جل وعلا) ويكثر من طاعات رَبِّه ومرضاة رَبِّهِ، وينظر كل شيء حَرَّمَهُ خالقه أو نهى عنه فيجتنبه ويتباعد منه، وهذا هو تحريكه رأس المال وتجارته مع رب العالمين؛ ولذا سمى الله هذا العمل الصالح وإنفاق العمر فيما يُرضي الله، سماه في آية: تجارة، وفي آية: بيعاً، وفي آية: شراء، وفي آية: قرضاً، والكل بمعنى واحد. قال: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة: آية ٢٤٥] فسمى العمل الصالح قرضاً.
وقال: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)﴾ ثم بين عوض هذا التاجر: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ إلى آخر الآيات [الصف: الآيات ١٠ - ١٢]، وقد سماه بيعاً وشراءً في قوله: ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: آية ١١١] وقال: ﴿فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: آية ١١١]
_________
(١) البيت في الخزانة (١/ ٣١).
﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠)﴾ [الأعراف: آية ١٢٠].
ومعنى قوله: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾ لما ابتلَعَتِ العصا كل ما في الميدان مما أفكوه واختلقوه من الحبال والعصِي لما ابتلعت العصا ذلك كله قال تعالى: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١١٨)﴾ رتب على ذلك وقوع الحق بالفاء، قال بعض العلماء: (وقع الحق) معناه: حصل وانثبت. وجماهير المفسرين يقولون: (وقع الحق) هنا معناه: ظهر واستبان واتَّضَحَ، حيث ظهر الحق واستبان واتضح، وبطل الباطل واضْمَحَلَّ، وعُرفت الحقيقة على بابها. والعرب يطلقون الوقوع على الظهور، قال بعضهم: الوقوع في لغة العرب: ظهور الشيء بوروده منحدرًا إلى مستَقَرِّهِ. وعلى كل حال فأكثر العلماء منهم ابن عباس وغيره يقولون: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾ أي: ظَهَرَ واسْتَبَان واتَّضَحَ الحق أنه مع نبي الله موسى، وبطل ما كان يعمله السحرة من المخطط في الحبال والعصي.
وهذا معنى قوله: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١١٨)﴾ [الأعراف: آية ١١٨].
وكان نبي الله موسى قبل أن يلقي عصاه عالمًا أن سحرهم باطل، وأنه سيُبْطِلُهُ ويَضْمَحِلّ كما جاء عنه في سورة يونس: ﴿فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)﴾ [يونس: الآيتان ٨١، ٨٢].
﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (١١٩)﴾ [الأعراف: آية ١١٩] معروف أن (هنالك) إشارة لمكان بعيد، والواو في قوله: ﴿فَغُلِبُواْ﴾ راجع
سببية. والمعنى: أن التنازع سبب للفشل، والفشل: عدم النجاح والضعف والخور وعدم التمكن. والفاء سببية، والمضارع منصوب بعدها بـ (أن) المضمرة كما هو معلوم في محله. وقوله: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ معطوف على المنصوب بـ (أن) المضمرة قبله.
وقوله: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ للعلماء في المراد بالريح هنا أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً (١):
قال بعضهم: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ معناه: تذهب قوتكم. وهذا كالتوكيد لقوله: ﴿فَتَفْشَلُواْ﴾؛ لأن من فشلوا فقد ذهبت قوتهم، وحاصل الريح هذه في كلام العرب أنهم يريدون بها الدولة أعْنِي: وتذهب دولتكم ويكون الأمر إلى غيركم؛ لأن العرب تقول: «هَبَّتْ رِيحُ فُلاَنٍ». أي: دالت دولته وجاء وقته الذي يتمكن به. وهذا معنى معروف في كلام العرب وفي لُغَتِهَا التي نزل بها القرآن، وهو معْنًى مشهور معروف. «هبت ريحك فاغتنم» أي: دالت دولتك وجاء الوقت الذي أنت تتمكن فيه. هذا معناه معروف في كلام العرب، وعلى هذا المعنى ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ أي: تَنْعَدِمُ دَوْلَتُكُمْ وتضيع، ويصير الأمر إلى غيركم، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (٢):
يَا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَ حَيَّ بِالوَادِي إِلاَّ عَبِيداً قُعُوداً بَيْنَ أذْوَادِ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٧٥)، القرطبي (٨/ ٢٤)، البحر (٤/ ٥٠٣)، الأضواء (٢/ ٤١٤).
(٢) البيتان في الأغاني (٢٠/ ٣٩١)، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (١/ ٣٤٠)، والبيت الثاني في البحر (٤/ ٥٠٣)، الدر المصون (٥/ ٦١٧)، وقد ذكرهما الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (٢/ ٤١٥).


الصفحة التالية
Icon