ومعنى شُكْرِ الرَّبِّ لعبدِه: هو إثابتُه له الثوابَ الجزيلَ من عَمَلِهِ القليلِ. وَيُطْلَقُ الشكرُ من العبدِ، كما في قولِه هنا: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ومعنى شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ: هو أن يستعملَ نِعَمَهُ في طَاعَاتِهِ؛ فهذه العينُ الباصرةُ التي أَنْعَمَ عليه بها شُكْرُهَا أن لا ينظرَ بها إلا إلى ما يُرْضِي اللَّهَ، وهذه اليدُ الباطشةُ التي أَنْعَمَ عليه بها شُكْرُ نِعْمَتِهَا أن لا يبطشَ بها إلا فيما يُرْضِي اللَّهَ، وهذا اللسانُ الذي يُبِينُ به وَيُفْصِحُ عما في ضميرِه شُكْرُهُ أن لا ينطقَ به إلا فيما يُرْضِي اللَّهَ، وهكذا في جميعِ سائرِ النِّعَمِ والْمِنَحِ البدنيةِ والماليةِ إلى غيرِ ذلك. وهذا معنى قوله: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمِ مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
وقوله: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: آية ٥٣] (إِذْ) معطوفٌ على ما قَبْلَهُ، وأكثرُ العلماءِ على أنه منصوبٌ بـ (اذْكُرْ) مُقَدَّرًا (١). وقد بَيَّنَّا مِرَارًا أن الدليلَ على عملِ هذا العاملِ الذي هو (اذْكُرْ) في (إِذْ) أنه مفهومٌ من استقراءِ القرآنِ؛ لكثرةِ إعمالِ (اذْكُرْ) في (إذ) نحو: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: آية ٢١]، ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: آية ٢٦]، ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٨٦] وهكذا.
و ﴿ءَاتَيْنَا﴾ معناه أَعْطَيْنَا، والأَلِفُ فيه مُبْدَلَةٌ من همزةِ فاءِ الفعلِ، فَوَزْنُهُ: (أَفْعَلْنَا) والأصلُ (أَأْتَيْنَا) فَأُبْدِلَتْ همزةُ فاءِ الفعلِ مَدًّا مُجَانِسًا لحركةِ همزةِ (أَفْعَل) (٢) على القاعدةِ التصريفيةِ الْمُجْمَعِ عليها
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٢) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٣٠٢.
سِبَابًا. إذا هَجَا كُلُّ واحدٍ منهما الآخَرَ وقال فيه قولاً قَبِيحًا. والسِّبابُ: المهاجاةُ والمشاتمةُ. وسِبُّ الرجلِ هو الذي يُكَافِئُهُ فيردُّ عليه إذا سَبَّهُ (١). ومنه قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ (رضي الله عنه) (٢):

لاَ تَسُبَّنِّني فَلَسْتَ بِسِبِّي إِنَّ سِبِّي مِنَ الرِّجَالِ الكريمُ
والمعنَى: لاَ تَهْجُوا أصنامَهم وتقولوا ما هي متصفةٌ به من الخساسةِ، فيتسببُ عن ذلك أن يَسُبُّوا اللَّهَ (جل وعلا). وإذا سَبُّوا اللَّهَ معناه: أنهم قالوا فيه ما ليسَ بواقعٍ؛ لأَنَّ اللَّهَ ليس مُتَّصِفًا إلا بالكمالِ والجلالِ، فليس فيه نَقْصٌ حتى يكونَ مَوْضِعًا للسبِّ. ولكن الكفرةَ الفجرةَ يكذبونَ.
فمعنَى: ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ﴾ يتكلمونَ فيه بما لاَ يليقُ بكمالِه وجلالِه (جل وعلا).
وقولُه: ﴿عَدْوًا﴾ العَدْوُ معناه: الظلمُ والعدوانُ. أي: فَيَسُبُّوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وهو خالقُهم ورازقُهم المحسنُ إليهم (٣).
وإعرابُ قولِه: ﴿عَدْوًا﴾ فيه أَوْجُهٌ من الإعرابِ معروفةٌ (٤):
أحدُها: أنه مَصْدَرٌ منكَّرٌ بمعنَى الحالِ، أي: فيسبوه في حالِ كونِهم مُعْتَدِينَ ظَالِمِينَ.
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: سبب) ٣٩١، القرطبي (٢/ ١٨١)، بصائر ذوي التمييز (٣/ ١٦٩)، اللسان (مادة: سبب) (٢/ ٧٧).
(٢) البيت في اللسان (٢/ ٧٨)، وقد عزاه لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وانظر: القرطبي (٢/ ١٨١).
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣٥)، القرطبي (٧/ ٦١)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٠)، المفردات (مادة: عدا) ص٥٥٣.
(٤) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٠٠)، الدر المصون (٥/ ١٠٠).
فالإنسان اللبق الحاذق لا يضيع هذه الجواهر النفيسة، والأعلاق العظيمة، التي هي ساعات عمره ودقائقه وثوانيه، بل يحرك رأس هذا المال، ويتجر به مع خير من يُتجر معه، وهو خالق السماوات والأرض، إن جئت بحسنة جاءك بعشر حسنات إلى سبعمائة إلى ما لا يعلمه إلا الله، إن جاءه عبده يمشي أتاه ربه هرولة، وإن تقرب إليه باعاً تَقَرَّبَ (جَلَّ وَعَلا) إليه ذراعاً، سبحانه ما أعظمه وما أكرمه! فالإنسان العاقل يَتَّجِرُ بِرَأْسِ هذا المال مع رَبِّ العالمين، فلا تضيع عليه هذه النفائس والأعلاق الثمينة، فيصرف أوقاته فيما يُرْضِي اللهَ، وإذا كان معه تَعَبٌ فليكف عما لا يُرْضِي رَبَّهُ، فيكون عمله إما أن يكون خيراً يستجلبه، وإما أن يكون سلامة من الشرور، فيكون على خير، فيربح من هذه التجارة: الحور، والولدان، وغُرف الجنان، ومجاورة رب غير غضبان، والنظر إلى وجه الله الكريم، ومُلك لا ينفد ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠)﴾ [الإنسان: آية ٢٠].
وإذا كان صاحب رأس هذا المال مغفلاً أحْمَقَ، قليل الفهم عن الله، ليس عارفاً بحقائق الأمور، لا يدري الفرق بين التقدم والتأخر، ولا بين التَّنَوُّر وغير التَّنَوُّر، فإنك تراه يتلاعب بهذه الجواهر النفيسة التي أعطاه الله، وهي أيَّام عمره، ولا يُقدرها، ويُمضيها في قيل وقال، وربما أمْضَى أكْثَرَهَا في مساخط الله، وما يستوجب غضب الله، من الوقوع في محارمه، والتمرد على نظامه، واتباع كل ناعق من شياطين الإنس والجن الذين يدعون إلى النار، وإلى سخط الله (جل وعلا)، حتى ينقضي الوقت المحدد من أيام عمره، فيؤخذ روحه من بدنه فيموت فيضيع عليه رأس المال، فيُجر إلى القبر وهو
إلى السحرة، (غُلبوا هنالك) غلبهم موسى ببرهان العصا لما ابتلعت جميع ما عندهم من الحبال والعصي ﴿وَانقَلَبُواْ﴾ أي: السحرة وكل مَنْ كَانَ مَعهم كفرعون وحزبه ﴿وَانقَلَبُواْ﴾ رجعوا صاغرين؛ أي: أذلاء حقيرين داخرين، وهذا معنى قوله: ﴿وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ﴾ الصاغر: هو وصف من الصَّغَار، والصَّغَار: الهوان والدخور والذلة كما هو معروف، وهذا معنى قوله: ﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (١١٩)﴾.
﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠)﴾ [الأعراف: الآيتان ١١٩، ١٢٠] بعد أن غُلبوا عرفوا بُرْهَانَ اللهِ وآمَنُوا بالله إيمانًا صحيحًا. وهو أمر في الحقيقة فيه عجب؛ لأنهم أول النهار كانوا يجادلون بالباطل ويعارضون آيات الله بالسِّحْرِ، وفي آخر النهار صاروا من أولياء الله، وصار تعذيب الدنيا وما فيها كله ليس عندهم بشيء لقوة الإيمان الداخل في قلوبهم؛ ولذا هدّدهم فرعون بأعظم تهديد وهو أن يقطع يد الواحد اليمنى ورجله اليسرى ويصلبه على جذع النخلة، وجذع النخلة هو أخشن جذع خلقه الله في الأشجار، وهذا عذاب شديد، ومع هذا احتقروا عذابه ولم يكن عندهم بشيء، كما قال الله عنهم: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قَالُوا لاَ ضَيْرَ﴾ [الشعراء: الآيتان ٤٩، ٥٠] أي: لا ضرر علينا في ذلك. حتى قالوا له في سورة طه: ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: آية ٧٢] أي: وليس فيها شيء يهم؛ [لسرعة زوالها] (١) وانقضائها، نحن نرغب فيما عند الله، ولا نبالي بما في الدنيا، كما يأتي في قوله: ﴿قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (١٢٥)﴾ [الأعراف: آية ١٢٥] ونحو ذلك.
_________
(١) في الأصل: لزوال سرعتها. وهو سبق لسان.
أتَنْظُرانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ أمْ تَعْدُوانِ فإنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي
فقوله: «إن الريح للعادي» أن الدولة والظفر للذي يعدو فينهب فيأخذ، هذا معنى قوله. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الآخر (١):
إذا هبَّتْ رِيَاحُكَ فاغْتَنِمْهَا فَإِنَّ لِكُلِّ عَاصِفةٍ سُكُون
قال بعضهم: (إن) هنا اسمها ضمير الشأن، والمبتدأ وخبره خبرها، ومعنى: (هبت رياحك) أي. دالت دولتك فاغتنم الفرصة (فإن لكل عاصفة سكون) أي: لكل دولة تولٍّ ودبور، هكذا قاله بعض العلماء. وهذا معنى قوله: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ هذه وصايا سماوية، وتعاليم من رب العالمين عظيمة، من أخذ بها ظفر، ومَنْ تَرَكَها فشل وذهبت ريحه لا شك.
وقوله: ﴿وَاصْبِرُواْ﴾ الصبر في لغة العرب معناه: حبس النفس (٢). تقول العرب: فلان صبر نفسه. أي: حبسها على المكروه، وشجعها على الشيء الصعب، هذا معنى الصبر في لغة العرب، ومادته تتعدى وتلزم، تقول العرب: صبر فلان فهو صابر أي: كان متصفاً بالصبر، وصبر نفسه؛ أي: حبسها على المكروه. متعدياً للمفعول. ومن أمثلة تعديه للمفعول قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم... ﴾ الآية [الكهف: الآية ٢٨]. وقول
_________
(١) البيت في القرطبي (٨/ ٢٤)، البحر (٤/ ٥٠٣)، الدر المصون (٥/ ٦١٧).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon