المشهورةِ التي عَقَدَهَا ابنُ مَالِكٍ في الخلاصةِ بقولِه (١):

وَمَدَّاً ابْدِلْ ثَانِيَ الْهَمْزَينِ مِنْ كِلْمَةٍ انْ يَسْكُنْ كَآثِرْ وَائْتَمِنْ
وصيغةُ الجمعِ للتعظيمِ. ومعنى (آتَيْنَا): أعطينا، وهي تَطْلُبُ مفعولين، والمفعولُ الأولُ هو موسى، والثاني الكتابُ، وهذه من بابِ: (كَسَا) لا من (ظَنَّ). ومعلومٌ عندَ علماءِ العربيةِ أن الفرقَ الواضحَ الموضِّحَ بين بابِ (ظَنَّ) وبابِ: (كَسَا) (٢) - مع أن كُلاًّ منهما تَنْصِبُ مفعولين - هو: أن تحذفَ الفعلَ من كِلاَ الْبَابَيْنِ، ثم تجعلُ المفعولين مبتدأً وخبرًا، فإن صَدَقَتِ القضيةُ فهي من بابِ (ظَنَّ)، وإن كَذَبَتْ فهي من بابِ (كَسَا)، وهذا ضابطٌ مُطَّرِدٌ مفيدٌ لطالبِ العلمِ، فلو قُلْتَ مثلاً: «ظَنَنْتُ زَيْدًا قَائِمًا». فحذفتَ الفعلَ الذي هو (ظننتُ) وجعلتَ المفعولين مبتدأً وَخَبَرًا، فقلتَ: «زَيْدٌ قَائِمٌ» كان كلامًا مستقيمًا. فهذا من بابِ (ظَنَّ)، بخلافِ «كَسَوْتُ زَيْدًا ثَوْبًا» و «سَقَيْتُ عَمْرًا ماءً». و ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ لو حذفتَ الفعلَ منها وقلتَ: «زيدٌ ثوبٌ»، «عمرٌو ماءٌ»، «موسى الكتابُ»، فهذه القضيةُ كاذبةٌ، فدلَّ على أنها من بابِ (كَسَا).
والمرادُ بالكتابِ التوراةُ، بإجماعِ العلماءِ (٣).
والتحقيقُ أن المرادَ بالفرقانِ هو التوراةُ أَيْضًا (٤)، وقد تقرر في فَنِّ العربيةِ أن الشيءَ الواحدَ إذا وُصِفَ بصفاتٍ مختلفةٍ يجوزُ عَطْفُهُ
_________
(١) الخلاصة ص٧٦، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ٦٠٤).
(٢) انظر: التوضيح والتكميل لشرح ابن عقيل (١/ ٣٨٥).
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٩).
(٤) انظر: ابن جرير (٢/ ٧١).
الثاني: أنه ما نَابَ عن المطلقِ من «يسبوا»؛ لأن سَبَّ اللَّهِ عُدْوَانٌ ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ﴾ معناه: يَعْتَدُوا بِسَبِّ اللَّهِ ﴿عَدْوًا﴾، أي: عُدْوَانًا. وعليه فهو ما نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ.
والإعرابُ الثالثُ فيه: أنه مَفْعُولٌ من أَجْلِهِ، أي: فَيَسُبُّوا اللَّهَ لأجلِ عُدْوَانِهِمْ وطغيانِهم وظلمِهم.
وقولُه: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الظاهرُ أن الجارَّ والمجرورَ في محلِّ حَالٍ ثَانِيَةٍ (١)، أي: حالَ كونِهم معتدينَ جاهلينَ، لاَ علمَ لهم بما يَنْبَغِي أن يقالَ في اللَّهِ، حيث يَسُبُّوا اللَّهَ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: ﴿عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
وهذه الآيةُ الكريمةُ - من آياتِ الأحكامِ - أَخَذَ العلماءُ منها أصلَ (سَدِّ الذرائعِ) (٢)؛ لأَنَّ سَبَّ الأصنامِ بالنسبةِ إلى ذاتِه جَائِزٌ مطلوبٌ، ولكن لَمَّا كان هذا الأمرُ المحمودُ الطيبُ - وهو سَبُّ الأصنامِ وتقبيحُها - قد يُؤَدِّي إلى أمرٍ آخرَ لا يجوزُ، وهو سَبُّ اللَّهِ، مُنِعَ هذا الشيءُ الطيبُ سدًّا للذريعةِ التي
[١٤/أ]... وذريعةُ الشيءِ /أَصْلُهَا طريقُه الموصلةُ إليه (٣).
ومعروفٌ عِنْدَ علماءِ الأصولِ أن الذرائعَ ثلاثةُ أقسامٍ (٤):
قِسْمٌ منها يَجْبُ سَدُّهُ إجماعًا، كما دَلَّتْ عليه هذه الآيةُ الكريمةُ
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ١٠١).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٦١)، البحر المحيط لأبي حيان (٤/ ١٩٩).
(٣) انظر: المصباح المنير (مادة: ذرع) ص٧٩، اللسان (مادة: ذرع)، (١/ ١٠٦٤ - ١٠٦٥)، المعجم الوسيط (مادة: ذرع) (١/ ٣١١).
(٤) في مسألة الذرائع وأدلتها انظر: الفروق للقرافي (٢/ ٣٢)، (٣/ ٢٦٦)، شرح تنقيح الفصول ص٤٤٨، القواعد للمقري (٢/ ٤٧١ - ٤٧٤)، إحكام الفصول ص٥٦٧ - ٥٧١، تفسير القرطبي (٢/ ٥٧ - ٦٠)، الفتاوى (٢٣/ ١٨٦ - ١٨٧)، إعلام الموقعين (٣/ ١٣٥ - ١٥٩)، إغاثة اللهفان (١/ ٣٦١ - ٣٦٧)، تهذيب سنن أبي داود (٥/ ١٠٢)، الموافقات (٤/ ١٩٨ - ٢٠٠)، البحر المحيط للزركشي (٦/ ٨٢ - ٨٦)، فتح الباري (١٠/ ٤٠٤)، إرشاد الفحول ص٢٤٦، نثر الورود (٢/ ٥٧٥).
مُفْلِس فقير، والآخرة يا إخوان دار لا تصلح للفقراء المفاليس؛ لأنها ليس فيها سلف ولا بيع، ولا إرفاق، وإنما فيها ما قدم الإنسان من عمل في دار الدنيا (١):
لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوْتِ يَسْكُنُهَا... إِلاَّ التِّي كَانَ قَبْلَ المَوْتِ يَبْنِيهَا...
فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا
والآخرة ليس فيها منزل إلا غرفة من غرف الجنة، أو سجن من سجون النار -والعياذ بالله- وسنتكلم -إن شاء الله- في أثناء هذه السورة الكريمة على أصحاب الأعراف، وما قصتهم، وما الذي جعلهم على الأعراف، ونذكر كلام العلماء فيه، فعلينا جميعاً أن لا نضيع رأس هذا المال، فَمَنْ ضَيَّعَ رَأْسَ ماله وأفنى عمره فيما لا يرضي ربه ضاع رأس المال، وإذا ضاع رأس المال فالربح أضيع وأضيع، فيصير إلى سجن من سجون جهنم -والعياذ بالله- هذا أحد مثلي الخسران الذي ضرب العلماء له.
المثل الثاني: هو ما جاء به حديث عن النبي ﷺ (٢)، وحسنه بعض العلماء، ولا بأس به -إن شاء الله- أن كل إنسان كائناً من كان له منزل في الجنة ومنزل في النار، فالله يجعل منزلاً في الجنة
_________
(١) من قصيدة منسوبة لعلي (رضي الله عنه) وهي في الديوان المنسوب إليه ص١٥٤.
(٢) جاء في هذا المعنى حديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعاً عند الإمام أحمد (٢/ ٥١٢)، وذكره الهيثمي في المجمع (١٠/ ٣٩٩)، وقال: «وفي رواية: لا يدخل أحد النار إلا رأى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة، ولا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، رواه كله أحمد ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح» اهـ.
فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب هان على صاحبه كل شيء، وصغرت في عينه الأذيّات والتعذيب، ورجا ما عند الله كهؤلاء السحرة.
وقوله هنا: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠)﴾ [الأعراف: آية ١٢٠] هم وقت إلقائهم ساجدين ليسوا بسحرة، بل إنما هم من عباد الله المكرمين المؤمنين الأفاضل، ولكنه سماهم سحرة نظرًا لحالهم الماضية كما سمى البالغين (يتامى) نظرًا لهم في حالهم الماضية في قوله: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: آية ٢] كما هو معروف، وهذا معنى قوله: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠)﴾ أي: لله إيمانًا بالله.
﴿قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١)﴾ [الأعراف: آية ١٢١] أي: خالق السماوات والأرض وما بينهما؛ لأن (العالمين) تشمل السماوات والأرض وما بينهما، كما قال تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ الآية [الشعراء: الآيتان ٢٣، ٢٤].
﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)﴾ [الأعراف: آية ١٢٢] الذي أنزل عليهما هذه المعجزة العظيمة الدالة على صدقهما وعلى ربوبيته وحده جل وعلا.
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾ قرأ هذا الحرف حفص عن عاصم وحده من السبعة قال: ﴿ءامَنتُم﴾ بلا همزة استفهام على الخبر، وقرأه الجمهور: ﴿ءآمَنتُم به﴾ (١) وهم على أصولهم في تسهيل الهمزتين، من يسهل الثانية ويأتي بألف الإدخال، ومن
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٣.
عنترة، أو غيره (١):
فصَبَرْتِ عارفةً بذلكَ حُرَّةً ترسُو إذا نفسُ الجَبَانِ تطَلَّعُ
يعني: حبست نفساً عارفةً بذلك على القتال. هذا أصل معنى الصبر.
والصبر في الشرع يتناول أموراً كثيرة منها (٢): الصبر تحت ظلال السيوف؛ لأن الجنة تحت ظلال السيوف. ﴿وَاصْبِرُواْ﴾ أي: ويتناول ذلك الصبر صبركم تحت ظلال السيوف في الميدان، ويتناول الصبر أيضاً: الصبر عن معصية الله وإن اشتعلت نار الشهوات، والصبر على طاعة الله وإن كنت كالقابض على الجمر. يتناول الصبر الصبرَ على هذا كله، والصبر على المصائب عند الصدمة الأولى. وهذا معنى قوله: ﴿وَاصْبِرُواْ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ جل وعلا ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ومعيته للصابرين معية نصر وتأييد وتوفيق؛ لأن الله (تبارك وتعالى) ذكر في كتابه معية خاصة للمتقين والصابرين والمحسنين: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (١٢٨)﴾ [النحل: الآية ١٢٨] ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: الآية ٤٠] فهذه المعية الخاصة هي بالنصر والتوفيق ونحو ذلك. والمعية العامة هي بالإحاطة الكاملة، ونفوذ العلم، وإحاطته -جل وعلا- بكل شيء معلومة، وهي المذكورة في قوله: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ﴾ [المجادلة: الآية ٧]
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon